القروض الدولية في إطار أحكام القانون الدولي العام / محمد عادل زكي
محمد عادل زكي ( مصر ) – الأحد 15/3/2020 م …
الأمر الذي لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل هو أن الرابطة القانونية بين البنك والصندوق الدوليين وبين البلدان المتخلّفة تؤسَّس على أحكام عقد القرض، هذا العقد تلتزم البلدان المتخلّفة بموجبه ليس فقط برد أصل الدين محملاً بفائدة مركبة غير معقولة عملاً، بل يتعدى الأمر ذلك إلى إلزام تلك البلدان، المدينة، بإدخال التعديلات الجوهرية على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية… إلخ، (في البرازيل اشترطوا تعديل الدستور!) وهو ما يعني بحال أو بآخر أن إرادة الدول المتخلّفة لم تكن أبداً منزهة عن ما يعيبها؛ فلقد رضخت البلدان المتخلّفة للشروط التي فرضتها المؤسستان أثر ما تمر به من أوضاع اقتصادية حرجة، فظاهرياً على الأقل لولا هذه الأوضاع الحرجة، بغض النظر عن أسبابها التاريخية، ما كانت هذه البلدان لترضخ لتلك الشروط! وإن كان التدخل في شئون البلدان المتخلّفة المقترن بمساعدات البنك والصندوق سائغاً من زاوية ظاهر النص القانوني المجرد لقيامه على الرضاء المتبادل! من قبل خبراء المؤسستين والنخب الحاكمة في البلدان المتخلفة، فهو غير سائغ من وجهة نظر روح القانون، لأن الإرادة جاءت على نحو معيب، وهو، من جهة أخرى محرم وفقاً لروح القانون الدولي الذي يأخذ على عاتقه، كما يدَّعي، تغيير وجه العالم المتخلّف، وحث الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي على تحمل مسئوليتها التاريخية كاملة قبل الأجزاء المتخلّفة، في إطار من التعاون والمساواة من أجل غد أفضل! فلا تكون القروض التي تقدمها الأجزاء المتقدمة، أو البنك والصندوق الدوليين، ذريعة للتدخل في شئون الدول، بل على الدول المتقدمة، والمؤسستين اللتين تأتمرا بأمرهم، أن يحترموا الخصوصية السياسية والاجتماعية والثقافية للبلدان المتخلّفة، فلا تأتي القروض والمساعدات من خلال انتهازية تتناقض مع المباديء النبيلة والغايات السامية التي ينشد إياها القانون الدولي الذي تبلور على أرض الواقع نتاج جهود مستمرة، ونضالات متصلة من الدول المتخلفة. فالمسألة تتعدى كثيراً حدود عقد القرض، والاستغلال، وتعيب الإرادة الموجب لإبطال العقد أو الانتقاص منه، إلى حدود أبعد أهم، فالواقع ينطق بأن الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي، وكي تفلت من إعمال أحكام القانون الدولي التي تجرم التدخل في الشئون الداخلية للدول، تسترت من خلف البنك والصندوق الدوليين كي تبسط سلطانها، المحرَّم دولياً، على الأجزاء المتخلّفة وتتدخل في شئونها كما يحلو لها. ويمكننا القول بأن العلاقة التي تكون دوماً محل تكييف هي العلاقة بين المؤسستين، البنك والصندوق الدوليين، وبين البلدان المتخلّفة، ولا يكون للعلاقة بين البلدان المتقدمة ذاتها وبين المؤسسات المالية والنقدية الأهمية نفسها من التحليل وبالتالي التكييف. ونحن نرى أن تلك المؤسسات، وهي تأتمر بأمر البلدان المتقدمة وتنفذ رؤيتها واستراتيجياتها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة إنما تقوم بدور (الوكيل) عن تلك المؤسسات (كموكل مستتر) الأمر الذي يعني وجوب انصراف آثار التصرفات التي يبرمها الوكيل إلى الأصيل المستتر. وحينئذ يكون موقف الأصيل، أي البلدان الرأسمالية المتقدمة، ليس فقط محكوماً بمبادىء الوكالة القانونية، وفقاً للمبادىء العامة للقانون المعترف بها في الأمم المتمدنة كأحد مصادر القانون الدولي العام، بل كذلك خاضعاً تماماً ومباشرة، بالتالي، لمبادىء القانون الدولي المحرّمة للتدخل بجميع صوره وأشكاله. وفي مقدمتها النص القاضي:” ليس لأي دولة أو مجموعة من الدول، الحق في التدخل بطريق مباشر أو غير مباشر، لأي سبب من الأسباب أيا كان، في الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى. وعلى ذلك، لا يكون مخالفاً فقط للقانون الدولي التدخل المسلح، ولكن أيضاً كل شكل آخر أو كل تهديد موجه ضد الشخصية القانونية لدولة أو ضد اعتباراتها السياسية، والاقتصادية، والثقافية…”. القرار رقم A/RES/2625 (XXV) (24/10/1970 الخاص بإعلان مبادئ القانون الدولى المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول.
وفي سبيل إيضاح الأمر أكثر، نقول: لم يكن البنك الدولي، باعتباره المؤسسة التوأم لصندوق النقد الدولي، منذ ميلاده في ضوء اتفاقية بريتون وودز، يهمه بالأساس أن تحقق البلاد المتخلّفة تنمية من أي نوع كان. فالبنك، والصندوق بالتبع، أنشيء لكي يكمل مهمة الأخير، فقد استهدف تقديم القروض الدولية طويلة الأجل لتشجيع حركة الاستثمارات الدولية للدول الأعضاء والعمل على تحقيق النمو المتوازن، الطويل الأمد، للتجارة الدولية وعلى الرغم من دخول معظم البلدان المتخلّفة في عضوية البنك، إلا أنه نظراً لسيطرة البلدان الرأسمالية المتقدمة على أغلبية رأسماله، وبالتالي على الشطر الأعظم من القوة التصويتية في إدارته؛ فإن البنك كان دوماً في خدمة مصالح الرأسمال المالي الدولي. ولهذا فإن الأموال الفائضة التي تجمعت بالبنك، سواء أكان ذلك عن طريق رأسماله المدفوع، أم عن طريق السندات التي يطرحها للاكتتاب لدى الحكومات أو في الأسواق المالية الدولية، قد اتجهت، بشكل أساسي، للاستثمار في الدول الأوروبية خلال النصف الثاني من الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي. حيث ركز البنك نشاطه في هذه الدول لمساعدتها في مواجهة مشكلات إعادة التعمير والبناء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وخلال تلك الفترة لم تحظ الدول المتخلّفة المستقلة حديثاً بمساعدات تذكر من البنك رغم اشتراكها في عضويته، ولو بحصص ضئيلة في رأسماله. وبعد أن أدى البنك مهمته التاريخية في دعم ومساندة البلدان الرأسمالية في غرب أوروبا للخروج من محنة الحرب، لوحظ أنه ابتداءً من النصف الثاني من الستينات، بدأ البنك يوجه عناية خاصة لنشاطه في الدول المتخلّفة، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبخاصة في ضوء تعاظم التدويل في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبروز أهمية هذه الدول كمستورد مهم للسلع المنتجة بالبلدان الصناعية، وكمورد للمواد الخام ومواد الطاقة، وكحقول استثمارية مربحة لرؤوس الأموال الفائضة في الأجزاء المتقدمة. ومن الثابت تاريخياً، أنه نظراً لهيمنة الولايات المتحدة على البنك وإداراته من خلال ما تملكه من حصة مرتفعة في رأسماله، وما ينجم عنها من قوة تصويتية كبيرة تمكنها من التحكم في قراراته، فقد لوحظ أن القروض التي قدمها البنك إلى الدول المتخلّفة خلال الفترة الممتدة من الخمسينات حتى الستينات من القرن الماضي كان يقدمها إلى تلك الدول التي توجد بها مصالح اقتصادية أمريكية كما قدم بعضاً من هذه القروض إلى تلك الدول التي تتعاظم فيها المصالح الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة، ولم تكن هذه الدول هي الأكثر فقراً في مجموعة الدول المتخلّفة، وبالتالي الأكثر حاجة إلى تلك القروض. كما ثبت أيضاً، أنه نظراً لسيطرة الأيديولوجية الرأسمالية على البنك فإن قروضه لم تكن توجه إلى تلك الدول التي كانت ترفع شعارات التنمية المخططة والعمل على بناء المجتمع الاشتراكي، ولا إلى تلك الدول التي انتهجت سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تتفق والرؤية الاستراتيجية الأمريكية. ولما كان البنك، ومعه الصندوق، بمثابة مجمع عالمي للرساميل الفائضة بالدول الرأسمالية والتي تبحث من خلال البنك عن فرص للربح المضمون، فإنه يتبع سياسة تتسم بالحذر والحيطة والاهتمام الزائد بمصالح المستثمرين. فهدف الإقراض يبقى في النهاية هو الربح، واستعادة القروض بضمانات شديدة، وليس تنمية البلدان الفقيرة التي انهكتها سنون القهر والاستنزاف لثرواتها. ولهذا فإن الوقائع التاريخية تشير إلى أن البنك الدولي لم يدخل في اهتماماته تنمية البلاد المتخلّفة والمساهمة في حل أزمات تمويل التنمية فيها. كان يقبل فقط تقديم بعض القروض لتمويل تنفيذ بعض المشروعات المحددة التي يضمن نجاحها. وسداد قروضها ومن الحقائق المعروفة جيداً عن البنك، بصفة خاصة، أنه لما كان يهدف إلى تشجيع حركة الاستثمارات الخارجية الخاصة، فإنه يسعى في الواقع إلى خلق أفضل الظروف الممكنة أمام تلك الاستثمارات. وهو لهذا، يبدي استعداده لتقديم القروض إلى تلك الدول التي تتبع سياسات السوق المفتوح والتي تتزايد فيها الاستثمارات الخاصة، ويوجد بها مناخ ملائم لها. من هنا فهو لا يمانع في تقديم القروض لتمويل تشييد البنية الأساسية لرفع كفاءة الآداء الاقتصادي والكفاية الإنتاجية باعتبارها ضرورية لأي نشاط استثماري مربح. ونظراً لهذه السمات التي مثلت، ولا تزال، تمثل خطاً ثابتاً في نهج قروض البنك، فإن الدول الرأسمالية الصناعية كانت تفضل إقراض أموالها الفائضة عن طريق البنك بدلاً من القروض الحكومية الثنائية. فالبنك باعتباره وكيلاً متشدداً للمستثمرين يتمتع بسلطات قوية، ويحرص على أن تكون المشروعات التي يمولها مضمونة بنجاح. كما أنه يدقق بشكل صارم وحازم في معرفة قدرة المقترض على السداد، وفي تقييم المخاطر التي يتعرض لها تقييماً اقتصادياً وفنياً محكماً. ومن ناحية أخرى، تفضل الحكومات الرأسمالية الصناعية الإقراض من خلال البنك لأن ذلك يجنبها مشكلات الإدارة المتزايدة للديون والتعقيدات المختلفة التي عادة ما تصاحب القروض الحكومية الثنائية.
وعليه، يمكننا إيجاز فرضيتنا المنهجية في العناصر التالية:
– ابتدأت أوروبا مسيرة الغزو الاستعماري، فراحت تنهب المجتمعات، وتسطو على ثرواتها، وتسلبها مواردها، خالقة بذلك نوعاً من إدماج مستعمراتها في النظام الرأسمالي العالمي الآخذ في التشكل. ومن ثم صارت هناك بلدان مستعمَرة وأخرى مستعمِرة.
– تبسط أوروبا هيمنتها على العالم طوال أربعة قرون من الغزو. خالقة بذلك نوعاً من التبعية على الصعيد العالمي، كي يصبح هناك بلدان تابعة وأخرى متبوعة.
– تنتقل الهيمنة من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كي تقوم الأخيرة بتهميش الأولى واختراقها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. ولكي يتشكل العالم، في نفس المرحلة التاريخية، ابتداءً من اعتبارات التقدم والتخلف، كي تتحول مجموعة من البلدان إلى بلدان متخلفة وأخرى إلى بلدان متقدمة.
– تواجه الأجزاء المتقدمة أزمة فوضى الإنتاج والهدر الاجتماعي؛ وهي الأزمة التي لم يكن الخروج منها يسيراً إلا بالبحث عن أسواق لتصدير الفوائض السلعية والنقدية والمالية.
– تجد الأجزاء المتقدمة في أسواق الأجزاء المتخلفة الحل، وتقوم بضخ سلعها ونقودها في تلك الأسواق، على هيئة ديون، وتلجأ إلى تقديم المساعدات من خلال مؤسسات مالية ونقدية تابعة تمثلها كوكيل دائنين متشدد.
– قامت الرأسمالية العالمية بتسويق [المديونية كفكرة]، لدى الأجزاء المتخلفة، وقدمت لها التسهيلات، في البداية، كي تخفف، بقدر الإمكان، من الكساد لديها، ذلك أن تلك القروض الضخمة التي انسابت إلى البلاد المتخلفة المدينة قد أدت إلى زيادة صادرات السلع الغذائية والاستهلاكية والمصنعة من الدول الدائنة إلى تلك البلاد، حيث أن الجزء الأعظم من تلك القروض كان مقيداً، أي مشروطاً بشراء سلع وخدمات من الدول المانحة. وبذلك ساعدت تلك القروض على التخفيف من حدة البطالة وتعطل الطاقات الإنتاجية وتقليل معدل التضخم بالبلاد الرأسمالية.
– يتمتع وكيل الدائنين بسلطات قوية، ويحرص على أن تكون المشروعات التي يمولها ناجحة تماماً ودون أي مخاطر على الإطلاق. كما أنه يدقق بشكل صارم وحازم في معرفة قدرة المقترض على السداد، وفي تقييم المخاطر التي يتعرض لها تقييماً اقتصادياً وفنياً محكماً، وذلك كله وفق نظرية ثبت تاريخياً فشلها وعجزها عن تفسير الأزمة.
– لهذا الوكيل المتشدد الحق المطلق في مطالبة الدول المدينة بكل ما من شأنه نجاح المشروع الذي يقوم بتمويله ابتداءً من رفض تمويل القطاع الصناعي، ومروراً بطلب بتعديل المناهج التعليمية، وانتهاءً بطلب تعديل الدساتير القومية نفسها.
– يتمادى وكيل الدائنين، المتشدد، في استغلال الأجزاء المتخلفة، وهو يعرف تماماً أنه بمعزل عن أحكام القانون الدولي، ورقابة القضاء الدولي، بالمخالفة السافرة لقرار الجمعية العامة رقم (2625) الصادر في 24/10/1970، والقرار رقم III/A 2000. وفي الوقت ذاته يقدم، وبقوة، المبرر الأيديولوجي ممثلاً في النظرية الليبرالية الجديدة التي تمجد الرأسمالية الصرفة
التعليقات مغلقة.