د. هشام البستاني * ( الأردن ) – الأربعاء 25/3/2020 م …
* طبيب أسنان ممارس وناشط سياسي ونقابي وكاتب رواية وقصّة قصيرة
أرغب في أن أوثق لهذا الوقت غير العادي الذي نمر به من خلال شهادات أفراد من مختلف أرجاء العالم – هكذا كتبت كارول صنصور للقاص الأردني هشام البستاني وكثيرين سواه – وأتمنى الإجابة على الأسئلة الأربعة التالية في أي شكل يكون مناسبا (ويفضل أن يكون شريط فيديو قصير):
ما هي الفكرة الأكثر إلحاحا في رأسك هذه الأيام؛
ما الذي تأمله وتتمناه (شخصياً وللجنس البشري)؛
ماذا يخيفك
كيف تقضي وقتك (يرجى الإشارة إلى ما إذا كنت في حالة حجر أم لا)؟
ثمّة ما هو ناقصٌ في ترجمة هذه الكلمة إلى العربيّة. إغلاق؟ لا تتضمّن القفل الذي سيأخذنا مباشرةً إلى السّلاسل والقيود؛ ولا الانخفاض إلى أسفل لزوم تجنّب رشق الطّلقات، ومحاولة النجاة بالنّفس، وإظهار الإذعان والخضوع والجُبن.
أردّدها كثيرًا وأقلّبها مُستمتعًا بالهدوء النسبيّ الذي خَلَّفَتْهُ في المحيط، وأشكر عشوائيّة الوجود التي أوجدتني في مدينة لا يخرج قاطنوها ليغنّوا على الشّرفات، أو ليحتفلوا بعيد ميلاد الجارة من الشّبابيك، أو يصدّعوا رؤوسنا بحفلةٍ على غفلةٍ من بشريّة تئنّ وتتداعى، وتظلّ مُصرّة على سلوكِ ذاتِ المسار التخريبيّ المعتاد. أفكّر في بياخة هذا الاستعراض وسفاهته، وأطنانٌ من بروباغاندا “التّفكير الإيجابيّ” التي أسّست له. الأحكام العرفيّة ليست عُطلةً مطوّلة لأغراض التنفّس العميق، أمّا اليافطة فتُعلن بجلافة يستحقّها مُهرّجو السّوشال ميديا: La romantisation de la quarantaine est un privilège de classe.
أفكّر بمن حُجِر عليهم طويلًا في مخيّمات اللّاجئين، وعشوائيّات المُدن، والسّجون.
قرب منزلي مقهى كان روّاده لا يتوقّفون عن نفث الدّخان في الهواء، يجلسون في غيمة رماديّة يتقيّؤونها من رئاتهم، وإلى الجانب أجهزة شفط تحاول (وتعجز عن) إلقاء ما تيسّر من زبالتهم المتصاعدة -عبر مراوح التصقت بها دهون كثيفة سوداء- في الحيّ. كان سروري عظيمًا عندما وجدتُ تلك المَكْرهة مُكرهةً على الإغلاق منذ أوّل أمس، وستظهر آثار ارتياح الطبيعة من مصّاصي الدّخان أولئك –لا بدّ- على صورة من صور الأقمار الصناعية. سريعًا زال وَسَخُ الإنسان عندما توقّف هذا الكائنُ الوَسِخُ عن التّوسيخ، لكنّي أفكّر بما سيفعله أؤلئك الذين يَخْرُون من أفواههم حيث يجلسون، وحيث يعيش غيرهم، بعد انتهاء الظرف الاستثنائيّ.
سيعودون إلى طبيعتهم؟
ستُعلِمنا الأقمار الصناعيّة التي تُصوّر وتُخلّف ورائها قطعًا من الروث المعدنيّ في مدار حول الأرض.
لستُ خائفًا على الإطلاق، لكنّ شريكتي مرعوبةٌ من انفلات المُجرمين واللّصوص، من ثورة الجياع، من تداعي الاقتصاد، من انهيار كلّ شيء؛ آهٍ ما أجمل الكورونا المُستجدّة وهي تُعرّي وجودنا الهشّ وتختزله إلى أساسيّات البقاء في عالم قيل لنا مرارًا أنّه “مستقرّ”، أنّه “نهاية التاريخ”، أنّه قادرٌ على “معالجة اختلالاته بنفسه”. إليكم هذه العيّنة: المستشفيات الخاصّة في قطعة السّماء ترفض استقبال حاملي الفايروس (أرباحها قبل الصحّة، وَلَوْ..)، وصاحب الباروكة الشّقراء والبْرُونْزَاج يعرض احتكار مطعوم المرض (البزنس والقوّة قبل البشر، يا همج جنوب العالم ومتوحّشيه)، وراقصو الفلامينكو يؤمّمون المنشآت الصحيّة الخاصة ويضعونها تحت تصرّف حكومتهم (لم يُصحَّح السّوق الخلل أوتوماتيكيًّا، يا عيب الشّوم)، والعرسُ يُقام هنا غصبًا عن التّعليمات المشدّدة، مُخلّفًا دزّينة ستظلّ تتوسّع من المصابين (زين الشّباب وعروسه الغزالة أهمّ من المجتمع بأسره، وِتْلُولَحِي يَا دَالْيِة)، والعريس يضع المسؤوليّة كُلّها على الله شخصيًّا (المجد للربّ مُقدّر الأقدار، فاعل الفواعل، ذريعة المتهرّبين والأنانيّين والسّفلة، آمين)؛ أقول لها: لو ثار الجياع سأنضمّ إليهم ضدّي وضدّكِ، فلا يُطمئنها ذلك على الإطلاق.
الطبيعة تضرب بقبضتها السّاحقة مرّة أخرى، والكلّ يتفلسف على وسائل التواصل الاجتماعيّ. إن أحصينا أعادد المُصابين والموتى وقارنّاها بحجم الثرثرة الفارغة الناتجة والمبثوثة، وأعداد نجوم الفيديوهات المصوّرة ذاتيًّا ممن يقولون كلّ شيء ولا شيء، ستكتسح هذه الأخيرة الإحصائيّة دون شكّ.
مخيفٌ، بل مُرعبٌ، أن أتلقّى من والدتي، بواسطة الماسنجر، تعليمات شاملة للوقاية مصدرها: أمّ سمير، وأن أشاهد والدي الثمانينيّ، الطبيب خريّج جامعة لندن الذي كان حتّى قبل سنتين يرفض اقتناء “هاتف ذكيّ” ولا يريد أن يعرف كيفيّة إرسال رسالة نصيّة، مأسورًا بالهذر المبثوث بلا نهاية عبر واتسآب، يعيد إرساله وترداده في عالم مائدة الغداء حين يخرج من عالم شاشة اللّمس. الوالد العزيز –لغاية اللّحظة- لا يعرف كيف يلج إلى الانترنت وكيف يستخدم محرّك البحث، ولا يريد أن يعرف. ما يصله عبر الواتسآب هو الحقيقة.
مخيفٌ أن يحتفي الجمهور –في بلدٍ- بإعلان الأحكام العرفيّة، وأن تحصل سلطة فاشلة على شعبيّة فائقة من خلال إعلان حبس المواطنين في بيوتهم؛ ومخيفٌ أن يكسر الجمهور –في بلدٍ آخر- إلزاميّة لزوم المنزل، فيخرجون للتنزّه والتشمّس، فيفاقمون الكارثة التي استدعت اللّجوء إلى شاحنات عسكريّة لإخلاء الجثث التي لم تعد تتمكّن أفران الحرق من استيعابها.
أتأمّل كلّ ذلك من داخل حظرٍ إجباريّ للتجوّل أعلنه رئيس الوزراء بأمر الدّفاع رقم 2، وتتطلّبه احتياطاتي الخاصّة لمنع التقاط أو نشر الوباء، في تلاقٍ نادرٍ للإرادات المُتعارضة. الحياةُ وحيدًا، أو شبه وحيدٍ، هو أمرٌ تعوّدتُ عليه منذ أول عزلٍ تعرّضت له، إذ عزلني الوالد العزيز، أثناء مُراهقتي، في شقّة مستقلّة بعيدًا عن زوجته المستجدّة، ثمّ استمرّت العُزلة وتفاقمت حين انتقلتُ للدّراسة الجامعيّة في مدينة أخرى تطلّب بُعدها النسبيّ أن أسكن مُستقلًّا فيها، أما حين عدت بعد سنواتٍ ستّ، صارت العُزلة المُعقّمة من الزّوجة والإنترنت والمحطّات الفضائيّة وطنًا أعود إليه كلّ ليلة بعد ضجيجٍ إلزاميّ من البشر.
بالغتُ –قطعًا- في وصف تلك العزلة، إذ يعيش في بيتي عددٌ لم أُحصه من الكتب والأفلام وأقراص الموسيقى. تُحادثني بينما ألتزم الصّمت وأفكّر في أغلب الأحيان، وأحادثها أنا أحيانًا، وكثيرًا ما تتسلّل من أطراف أصابعي لتخرج في الأسطر وداخل الكلمات. برفقتي الآن بيلي آيدُل، يُدندن في الخلفيّة كلمات أغنية “عرسٌ أبيض”، ويعلّق بهدوء: “لا شيء عادل في هذا العالم، لا شيء آمن، لا شيء أكيد، لا شيء بريء؛ لم يبقَ شيء في هذا العالم.”
“في المحطّة“، كان ثاني الاثنين يقول: “حاولت. قبضتُ حفناتٍ من التراب وشممتها. لعبت الغمّيضة مع أولاد الجيران. زُرت جدّتي كل أسبوع – كانت تصنع لي كعكاً. كل ذلك لم يعنِ شيئاً. وهناك حيث لا أولاد ولا جدّات ولا تراب، أيضاً لن يعنيني الأمرُ شيئاً. وطني الحقيقيُّ هو الانتظار.”
لم يتغيّر شيء كثير في هذه المحطّة، اللهمّ إلا بعض هدوء ناتجٍ عن قلّة الحركة في الخارج، وبيلي يسخر مِنّي: ” Les yeux sans visage “.
وبينما ينتظر الجنس البشريّ خلاصه بالعودة إلى التّوسيخ والضّجيج والتلوّث، أنتظر أنا أن يتمدّد الهدوء.
التعليقات مغلقة.