تونس – على هامش انتشار وباء “كوفيد 19” / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 8/4/2020 م …
تبلغ ميزانية الدولة لسنة 2020، حوالي 16,7 مليار دولارا، وتحتاج إلى قُروض بقيمة تفوق أربعة مليارات دولارا، لتسديد قروض سابقة، ولسد العجز، ليبلغ بذلك حجم الدّيْن العمومي حوالي 34 مليار دولارا، أو ما يعادل 75% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُقدّر حجم حصة كل مواطن حوالي ثمانية آلاف دينار، من الدّيُون العُمومية التي لم يستفد منها المواطن، بل استفاد منها صندوق النقد الدولي والإتحاد الأوروبي، وبعض وكلائهم في تونس من أرباب العمل والأثرياء الذين استفادوا ويستفيدون من المال العام، منذ عُقُود، سواء عبر الإعفاء من الضرائب، أو عبر ضخ المال العام في شكل قُرُوض منخفضة الفائدة، وكانوا يُشاركون في “التبرعات الإجبارية” التي فَرضتها الدولة، أثناء فترات الكوارث أو الصّعوبات الإقتصادية، مقابل بعض المزايا الإضافية، حتى 2011، ولكنهم رفضوا المُشاركة في مسرحية التبرعات الطّوعية التي تنظمها الدولة، بعد سنة 2011، بل أصبح الأثرياء يعلنون، صراحة، في وسائل الإعلام ( القطاع العام أو التي يملكها أصدقاؤهم) رَفْضَهُم التّبرُّع، بل يبتزّون العاملين والدولة، ويطلبون مزيدًا من المال العام، ويعتبرون الوطنَ وموارِدَهُ “مما مَلَكتْ أيديهم”، ولما ارتفعت بعض الأصوات النّاقدة لموقف وتصريحات رئيس نقابة أرباب العمل، تظاهر رئيس الحكومة بتشديد اللهجة، بشأن “ضرورة التبرع الطوعي”، لكي لا تضطر الدولة (صديقة الأثرياء) إلى إقرار إجراءات قد لا تُرْضِي رأس المال، خلال فترة انتشار وباء “كوفيد 19” الذي اجتاح العالم، وقَتل الآلاف، في كافة الدّول، وخاصة تلك التي طبّقت شروط صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وهو حال تونس التي عمدت حكوماتها المتعاقبة منذ حوالي أربعة عقود إلى تطبيق “برنامج الإصلاح الهيكلي”، ويتضمّنُ تخريب القطاع العام، وخصخصة قطاعات التعليم والنقل والصحة والخدمات…
تَدَهْوَرَ قطاع الصحة العمومية في معظم بلدان العالم، ومنها تونس، منذ أكثر من ثلاثة عُقُود، وأصبح يفتقد إلى التجهيزات وإلى الأطباء، مقابل تضخّم القطاع الخاص، وانتشار المصَحّات الخاصة في مجال الصحة، كما في بقية المجالات، في ظل الإنحياز التام لجهاز الدّولة لصالح الأثرياء وأرباب العمل والمُضاربين من الفاسدين واللّصُوص، ومن الذين يبتزّون الدّولة باستمرار، فسارعت الحكومة إلى إقرار مجموعة من التدابير لدعم الأثرياء وأصحاب الشركات، منها إعفاء الشركات وأرباب العمل من الضرائب ومن تسديد مساهمتهم في مؤسسات التّأمين الإجتماعي والصّحّي للعاملين، وتوفير السيولة لإقراض الشركات، وإعادة جدولة ديونها السابقة، مع خفض نسبة الفائض، وإعفاء الشركات من تحمّل عبء وباء “كوفيد 19″، وهناك وقائع عديدة تؤكّد انحياز أجهزة الدّولة للأثرياء، واستهتارها بالقطاع العام وبحياة العاملين والمواطنين، فلم توفر الحكومة ما يكفي من الأدوات والمواد الأساسية ووسائل وتدابير الوقاية اللازمة للعاملين في قطاع الصحة المتهالك، كاختبارات الإصابة، والكمامات الطبية ومواد التعقيم، وغابت أدوات الوقاية الصحية والأقنعة الطبية والسوائل المعقمة، من السوق ومن الصيدليات، رغم ضغط العاملين والرأي العام، ولذلك يُتوقّع أن يكون عدد الإصابات المؤكدة أعْلَى من المعلن، ويعكس وضع الصحة العمومية، وَضْعًا عامًّا، يتميز بارتفاع الدّيُون الخارجية، وارتفاع حجم البطالة والفقر، ويَدْعَمُ ممثلو كافة أجهزة الدّولة، والإعلام المأجور، ادّعاءات الأثرياء بشأن الخسائر المُفترَضَة التي تضطر الشركات إلى التضحية برواتب العُمّال، وبحصة مؤسسات التأمين الإجتماعي، ما يُبَرِّرُ (بحسب الحكومة) استفادةَ الأثرياء من المال العام “لإنقاذ اقتصاد البلاد”، والواقع أن لا وَطَنَ لهؤلاء، سوى الربح، ف”الوطن” مجرّد مكان تتوفَّرُ فيه مواد أولية وعمالة رخيصة، ودولة حليفة، ولن يُنْقِذَ المال العام “اقتصاد البلاد”، بل يُضخّم حجم الحسابات المصرفية للأثرياء، ونسبة أرباحهم، بل يتعدّى نَهَمُ رأس المال الإبتزاز ليمارس الإجرام والقتل المُتَعَمّد، فقد أوردت الأخبار بعض ممارسات تُجّار الأدْوية وأدوات وتجهيزات الصحة، ومن هذه الأخبار محاولة إحدى الشركات إدخال شحنة من وسائل الوقاية الطبية ( ملابس طبية وقفازات وأقنعة )، منتهية الصلوحية، عبر منافذ الجمارك، وطالب بعض مصنعي العقارات والتجهيزات، إلغاء العمل بالقانون الذي يَفْرِضُ منافسة بين الشركات التي تُزَوّد الدولة بما تحتاجه المُستشفيات العمومية، وطالبت هذه الشركات بالتفاوض وإقرار أسعار وشُرُوط بالتراضي بين موظفي وزارة الصحة والشركات…
يئِسَ المواطنون من العثور على أدوات الوقاية الصحية (الأقنعة الطبية والسوائل المعقمة )، وإن وُجدت فإن أسعارها ارتفعت عدّة أضْعَاف، في ظل الحجر الصحي وفي ظل شُح الموارد المالية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية التي أصبحت شحيحة بدورها، بسبب احتكار المُضاربين (ومن بينهم شخصيات نافذة في أجهزة الدّولة)، مثل الحليب والعجين والزيوت والطحين وغيرها من المواد الغذائية الأساسية والضّرورية في نظام الغذاء المحلّي، بحسب شهادات المواطنين الفُقراء، وبحسب بعض المواقع الإخبارية.
نَظّمت بعض المجموعات حملات تبرّع وتوزيع السلع، لكن هذه الحالات قليلة ولا يمكن أن تُعوّض ضرورة قيام الدّولة، بشكل مركزي، ومحلي، بتنظيم الحياة الإقتصادية، وتوزيع السلع بشكل عادل بين الأحياء والمدن ومناطق البلاد، وهذا لن يحصل في ظل هيمنة القوى الرجعية، بزعامة الإخوان المسلمين، بعدما فَرّطت القوى التّقدّمية في فُرَصٍ عديدة، كانت آخرتها انتفاضة 2010/2011، لإرساء نظام سياسي واقتصادي يُمثل مصالح العاملين والأُجَراء والفُقراء…
قد تكون فرصة “الإعتكاف الإجباري” والحَبْس المنزلي فُرصة للتفكير في المُستقبل، مع استخلاص الدّروس من أحداث الماضي، فقد كان الفُقراء والعاملون شرارَةَ ووَقُودَ الإضراب العام (1978) وانتفاضة 1983/1984، وانتفاضة الحوض المنجمي وانتفاضة 2010/2011، لكن غياب التمثيل السياسي المُنَظّم للكادحين والفُقراء، جعل القوى الرجعية تستفيد من تضحيات الفُقراء…
التعليقات مغلقة.