الناسُ للناسِ من بدوٍ وحَاضرةٍ / حنا ميخائيل سلامة نعمان
حنا ميخائيل سلامة نعمان ( الأردن ) – الإثنين 27/4/2020 م …
تجلَّى صَدْرُ بيت الشِّعر هذا للمَعري مع عَجْزِه: ” بعضٌ لبعضٍ وإن لم يَشعروا خَدمُ”، وتجسَّد بصورةٍ جميلةٍ مُنذ حلَّ وباء فيروس كورونا على بلدنا كما فعلَ في دول العالم كله دون استثناء.. فاقتضى حَجر الناس في بيوتها مع أوامر وتعليمات أُخرى بهدف الوقاية والسلامة العامة. أمام هذا الواقع أدركت نسبة طيِّبَة من المواطنين المسؤوليات الإنسانية والأخلاقية المُلقاة على كواهلها في هذه المرحلة الصعبة، وجاء هذا من باب شعورها الإنساني وحِسِّها الوطني ولتفهُّمِها المعنى الحقيقي في أن يكون الإنسان عُضواً في الجماعة البشرية وفي المجموعات المجتمعية، بما يعني الالتزام الضَميريّ بتقديمِ خدماتٍ حين يتطلب الظرف ويقتضي الواجب.
وعلى هذا وجدنا هؤلاء المواطنين وقد هَبُّوا بشكلٍ طَوْعِيٍ لتفقد أحوال الناس والاطمئنان عن توفر احتياجاتهم المعيشية ومستلزماتهم العلاجية والعمل بطاقتهم وضِمن إمكاناتهم لتأمين الناقص منها. فمن جانبٍ كانوا يُهاتفون الجيران وأهل الحيِّ بما في ذلك معارِفَ في مناطق بعيدة جغرافياً من مواقعهم، ومن جانبٍ آخر كانوا يقرعون بيوت مَن لا هواتف بحوزتهم مِمَّن هُم بحاجة لرعاية ولا يَقْوَوْنَ على السَّير للإطمئنان عنهم بعد أن تناهت لمسامعهم عدم تمكن أبنائهم أو مَن يقوم على رعايتهم مِن الحضور لتفقدهم وخدمتهم وتأمين ما يلزمهم بعد توقيف حركة المواصلات وتعذُّر الوصول.
ولا نُخفي القول أنَّ حلقات التواصل والصِّلاتِ بين سُكان الحي الواحد ومَن هُم أبعد من ذلِك سَكَناً لم تكن على تلك الدرجة من المَتانة أو على ذلك المستوى الذي شهدناه ووصلتنا أخباره خلال الأسابيع الماضية تحديداً.. هذه الأسابيع التي لا يجوز لأحدٍ أن يُنكر مقدار ما عانته عائلات كثيرة من وطأتها. وحريٌ التنويه هُنا إلى قيام البعض باقتطاع جزءٍ من طعامهم وحَمْلِ ما تَيَسَّر لهم من مَؤونةٍ ثم السير مشياً على الأقدام لمسافاتٍ لتأمين فقراء وَمِعْوَزين وغيرهم جاء هذا كله دونَ مِنَّةٍ أو ابتغاء مُقابلٍ أو لاستغلالِ عَوَزِهم لمآرب وأهداف!
وفي الحقيقة أن العطاء المقرون بالترويج والتصوير للظهور ولنيل الثناء كما نرى في حالاتٍ على الساحة لا يدخل في عِداد العَطاء المُنَزَّهِ عن الغايات والمُستحِق الثواب الخَيِّر، إذْ لا يُعَدُّ بدافع عَفويٍ إنسانيٍ صِرْفٍ بَحْت! وهذا ما تَجَنَّبَته تلك الأيدي الخّيِّرَة المعطاءة التي عملت بِهمةٍ وصمتٍ إيماناً منها بضرورة التكافل والتعاون في الشِّدَة ودعماً بلا مقابل للجهود الرسمية القائمة. وتزدحمُ صُورُ الإيثار والتراحم والتواصل، هذه الصُّور جاءَت لتتطابق مع تلِكَ التي وردت ضِمن مكالمةٍ وُديَّةٍ مِن الأكاديمية الدكتورة نبيلة الخطيب مع كاتب هذه السُّطور، حيث أخذت تَبُثُ فيها مشاهدَ مِمَّا رأت وتُحدِّث عن وقائع سَمِعَت بها، وكيف تلك الشريحة المستيقظة الضمير هَبَّت لتفقد أحوال وعون مَن يَتقلَّبَون على جَمْر العَوَز والفاقة والمَرَض دون تمييز أحدٍ عن أحٍد ودون الاكتراث بِبُعد المسافات، بما يستأهل الإشارة لهذه المواقف والاقتداء بمِن قاموا بها. وفي الحقِّ أن ذلِكُم السُّلوك وذَلِكُم النهج يشكلان الأساس المَكين الذي يمكن البناء عليه لتعميق صِلات الأفراد فيما بينهم وأيضاً مع الجَّمَاعات البشرية للإرتفاع من أل “أَنَا ” وحب الذات إلى أل “نَحْنُ “روح الجماعة والتعاضد والحِس المُشترك! هذه “الأنَا ” التي حزَّ في النفس أنَّ فئةً مُقتدرةً لم تَنبذها هذه الفترة، بل بقيت على عهد النَّرْجِسية المتأصلة فيها، إذْ نفضت يدها وَصَدَّت الأبواب بوجه مُحتاجين مُعْوزين بالرغم من معرفتهم بظروفهم الصعبة ومرارة معيشتهم في ظلِّ تعطلهم دونَ إرادتهم عن كَسْبِ قوتِ يومهم، وقد غاب عن أبصار تلك الفئة قول المعري:
“الناسُ للناس من بدوٍ وحَاضرةٍ … بعضٌ لبعضٍ وإن لم يَشعروا خَدمُ“
حنا ميخائيل سلامة نعمان /كاتب وباحث
التعليقات مغلقة.