الهبّة الفلسطينية… لاستراتيجية ثورية «عنفية» / د. محمد بكر
د. محمد بكر * ( فلسطين ) الجمعة 16/10/2015 م …
أمام ما أفرزه «الربيع العربي» من مشاهد كارثية أرخت بظلالها السوداء على الجغرافيا في المنطقة، تدفقت خلالها سيول الإرهاب وتغلغلت جحافله وألويته حتى باتت موضع اشتباك و»تناحر» التحالفات، ومحطّ الكباش الدولي، وعنواناً لصراع الإرادات الدولية، وأمام التهميش منقطع النظير الذي لفّ القضية الفلسطينية أكثر الخاسرين وأشدّ المتضرّرين مما يجري تصنيعه وصياغته لترحيل الملف الفلسطيني إلى الظلّ بحسب تعبير الاستخبارات «الإسرائيلية» ، وشطب الحق الفلسطيني، ولا سيما في ما تشهده الساحات المجاورة من إغراق ممنهج بالفوضى، وصولاً إلى تقسيم المنطقة وشرذمة قواها وتفتيت مقدراتها، تأتي الهبّة الشعبية الفلسطينية التي تؤسس في حيثياتها وملامحها لانتفاضة فلسطينية ثالثة لتخطف الأضواء السياسية، بات يدرك فيها الشعب الفلسطيني أن جلده لا تحكه سوى الأظفار الفلسطينية، وأنّ أحداً في فلسطين لن ينتظر بالطبع طائرات السوخوي الروسية لتحلق في السماء الفلسطينية وتقصف أمّ الإرهاب في المنطقة والطبيب الجراح لـ»داعش» وأخواتها، «إسرائيل»، إذ لن تكون فلسطين على الإطلاق ساحة من ساحات الحرب الباردة المحتدمة بين الروسي والأميركي كما الحاصل في سورية، لدرجة أنّ طائرتين روسية وأميركية كانتا على مسافة قريبة جداً وفي نطاق التعرّف البصري بينما كانت المشاورات على أشدّها لجهة بحث التنسيق الروسي ـ الأميركي في الأجواء السورية، ولعلّ اللقاء الأخير الذي جمع نتنياهو وبوتين، إذ كانت إدانات بوتين حاضرة لقصف الفلسطينيين لأراضي 48، وكذلك شرحه لماهية التدخل في سورية لجهة أنّ الهدف هو مساعدة الجيش السوري في الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وليس فتح جبهة ثانية في الجولان يشكل جوهر الاستراتيجية الروسية في تعاطيها مع الكيان الصهيوني، وأمام ما يشكله الوضع العربي الرسمي من «غسيل» لليد الفلسطينية منه، وعدم ترجّي وتلمّس مفاعيل حراكه الذي سارع فيه الأمراء والقادة العرب للاتصال بأبي مازن، وبالطبع ليس لإرسال قوة عربية مشتركة لنصرة المنتفضين في القدس والضفة، إنما لممارسة الضغط من أجل صياغة تهدئة مذلة، وأمام القنابل «الرطبة» التي حملها أبو مازن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في التوقيت الخطأ والمكان الخطأ فلا هي انفجرت ولا حتى أزعجت الحضور على الإطلاق ولو بصوتٍ خافت، مدّ خلالها أيادي السلام التي بُترت قبل أن تُمدّ، وأمام عدوى الصمت التي انتقلت بلا مبرّر إلى جسد الفصائل الفلسطينية، انتقلت خلالها الرطوبة على ما يبدو من قنابل أبو مازن إلى صواريخ المقاومة، أمام كلّ ذلك تغدو الهبة الشعبية الفلسطينية على مفترق طريقٍ خطير وخطير جداً، وبين فكي كماشة، بين واقعٍ عربي مترنح من جهة، وبين واقع داخلي فلسطيني تتعالى فيه بعض أصوات النشاز التي تطالب المنتفضين بالعودة إلى البيوت وأخرى تدعوهم لما يسمّوه «تفويت الفرصة» على الاحتلال لمنعه من القيام بعدوان واسع من جهة أخرى، هذا الواقع الذي يصرّ فيه فريق السلطة في رام الله على انتهاج الخيار السلمي الشعبي في مجابهة غطرسة الاحتلال، والذهاب بهيئة «المفلس» من أية أوراق رابحة إلى المنظمات الدولية وهو الذي يعلم أنّ محاولات كهذه لن تثمر ولن تظفر إلا بخفي حنين، فيما حال «فريق السلطة» في غزة ليس بالأفضل وهو العائد من جولات مكوكية لصياغة هدنة طويلة الأمد مع الاحتلال لتجاوز الصعوبات الاقتصادية والشروع بملف الإعمار، ومن هنا نفهم الصمت الذي يخيّم على صناع القرار في رام الله وغزة لجهة أنّ هذه الهبة تضع خيارات وتوجهات الطرفين على المحك وفي مهب الريح.
بالرغم مما يبوح به الحجر الفلسطيني يومياً، وكذلك المفاعيل الثورية التي استحضرتها طعنات الأحرار الأبطال التي نحني لصناعها ورموزها ومفجريها الهامات ونُكبر بتضحياتهم، إلا أنها في اعتقادنا لن تستولد المرتجى الوازن والصفع النوعي على الوجه الصهيوني، ما لم تؤطر في سياقات تنظيمية واستراتيجيات ثورية فاعلة بما يضمن استيلاد الخطوات الأكثر إيلاماً والعمليات التي تجبر العدو على الانصياع لرغبات الشعب الفلسطيني والكفّ عن السياسات التعسفية والعدوانية لجهة مواصلة القتل والاستيطان والاعتقال الإداري وتهويد القدس.
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وتحديداً عام 1971 تمّ إنشاء منظمة أيلول الأسود إثر الصدامات التي وقعت بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني التي أدّت إلى خروج الفدائيين من الأردن، إذ كانت مشاعر الإحباط والخيبة تخيم حينها على الجميع، وفي وقت عصيب لم تستطع معه المقاومة الفلسطينية آنذاك القيام بكامل مسؤولياتها، لذا كانت الحاجة لصياغة تنظيم رديف قام بسلسلة من العمليات النوعية منتهجاً سياسة «العنف الثوري» لإعادة الوزن والألق للقضية الفلسطينية العادلة في المحافل العربية والدولية، فكانت أبرز عمليات تلك المنظمة عملية ميونيخ التي أودت بأحد عشر رياضياً «إسرائيلياً» في دورة الألعاب الأولمبية عام 1972، وكذلك عملية اغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التلّ في القاهرة عام 1971، إذ اعتبرته المنظمة مسؤولاً عن أحداث أيلول كونه كان وزيراً للدفاع في تلك الفترة، هذه العمليات التي كانت حركة فتح تتملّص من أي مسؤولية حيالها وتتبنّاها منظمة أيلول الأسود التي جلّ قادتها من فتح، وذلك للحيلولة دون فقدان أيّ مكاسب سياسية للحركة، وبذلك أسّست تلك العمليات لعودة القضية الفلسطينية قسراً إلى المشهدين العربي والدولي، واستطاع الفلسطينيون انتزاع اعتراف العرب والعالم بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
اليوم ومع اختلاف المشهد الفلسطيني بين المرحلتين، لكن تشابه الظروف السوداء التي تعصف بمصير القضية الفلسطينية لجهة محاولات البعض إطفاء جذوة الهبة الفلسطينية الحاصلة، إضافة إلى ما يتوقعه مراقبون لجهة أنّ اللقاء الذي سيجمع أوباما بنتنياهو مطلع الشهر المقبل سيكون لقاء دفع الأثمان لجهة ما ستقبضه «إسرائيل « من الأميركيين جراء تمرير الاتفاق النووي والذي لن يكون فقط صفة أسلحة أميركية متطورة لـ»إسرائيل»، بل صياغة حلّ سياسي بصيغة وهندسة «إسرائيلية» للصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي»، هذا الوضع الاستثنائي إنما يتطلب من الشرفاء والأحرار من أبناء شعبنا الإسراع في تنظيم مسارات الهبة الشعبية المباركة وتأطير عملها الثوري ولو على أرضية «عنفية» في إطار العمل الموحد وصياغة التدابير التي تكفل الوصول لمخرجات سياسية تعيد البوصلة الفلسطينية إلى مسارها السياسي الذي من المفترض أن تكون فيه وتالياً ضمان «الاستجابة» القسرية سواءً على المستوى العربي والدولي لمطالب الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
** كاتب فلسطيني مقيم في سورية
التعليقات مغلقة.