حرص الكيان الصهيوني على تسييد روايته في الوعي العربي / د. فايز رشيد

د. فايز رشيد ( الأردن ) – الأربعاء 6 / أيار ( مايو ) / 2020 م …




فايز رشيد

مسلسلا «أم هارون» و»مخرج رقم 7» التطبيعيان، اللذان تعرضهما فضائيات عربية وفضائيات الكيان الصهيوني، قفزا بالتطبيع إلى مرحلة جديدة متطورة، مرحلة سعت إليها الحركة الصهيونية منذ قرون. فمنذ القرن التاسع عشر أدركت الأخيرة ما للثقافة من دور في خدمة أهدافها، فاعتبرتها حاملا لأفكارها، ومنطلقا لبث تعاليمها. من خلال حرص المثقفين الصهاينة على المقاربة بين مجتمعين في المنطقة ذاتها، مجتمع سيكون مثاليا صهيونيا إسرائيليا متحضراً، ومجتمع عربي متخلف وجاهل، كما قال الشهيد غسان كنفاني في كتابه «حول الأدب الصهيوني».
والأدب بفروعه المختلفة أولا وأخيرا هو جزء من الثقافة، إن لم يكن أرقاها.
كانت الثقافة في خدمة الصهيونية قبل وجودها، فالصهيونية لم تولد في مؤتمر بال سنة 1897، ولكن هذا المؤتمر كان تتويجا عمليا لسلسلة من الضغوط والإرهاصات والمواقف، التي لعبت فيها الثقافة الصهيونية دورا أساسيا، وإذا كانت نهاية القرن التاسع عشر، هي العلامة الرسمية لولادة الصهيونية السياسية، فإن الصهيونية الثقافية بدأت قبل ذلك بكثير.
كثير من الكتّاب الصهاينة كرسوا نتاجاتهم الثقافية لخدمة الحركة الصهيونية وتحقيق أهدافها، لذلك تعمدوا التشويه والإساءة إلى العربي والشخصية العربية في كتاباتهم المختلفة. النتاج الثقافي الصهيوني تكرّس ما قبل إنشاء الدولة لتشويه صورة العرب بشكل عام، وتصويرهم على أنهم همجيون وبدْو لا يعرفون سبل الحضارة، وتصوير الفلسطينيين على أنهم رعاع، وأن فلسطين خالية من البشر، لذلك تم اختراع شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، بالطبع هناك ثقافة نازية، وأخرى فاشية لكنهما اندثرتا، وإعادة إنتاجهما تتم في الكيان الصهيوني، كما تمت في بقاع مختلفة (روديسيا، جنوب افريقيا إبان الحكم العنصري، نظام بينوشيه في تشيلي وغيرها). لطالما راهن المثقفون العرب على صمود الجبهة الثقافية العربية أمام التطبيع مع العدو الصهيوني، خاصة في ظل الانكسارات المؤلمة على الجبهات الأخرى كافة، باعتبار الثقافة العربية عصّية على الاختراق، ذلك في السؤال: هل هي أزمة ثقافة أم أزمة مثقفين؟ نعم، الثقافة العربية في قديمها وحاضرها ثقافة راسخة في التاريخ والمستقبل بالتأكيد، فهي ثقافة أصيلة وليست تجميع فسيفساء ثقافية مرتبطة بكل شعوب الأرض، مثلما هو موجود في الكيان الصهيوني. ومن ثم يسعون جاهدين لتكوين «ثقافة واحدة» لم تتشكل حتى هذه اللحظة، رغم مرور ما يزيد على السبعة عقود على إنشاء الكيان. حتى اللحظة، ليس هناك إجماع حتى على مصطلح تسمية «الثقافة» التي يدّعون أنها واحدة. هناك اختلافات كبيرة بين مثقفيهم وأدبائهم على الاسم، وهل هي ثقافة صهيونية، يهودية، عبرية أو إسرائيلية؟ الروس لهم ثقافتهم وكذلك السفارديم والأشكناز، لكل منهم ثقافته داخل التقسيم العام، الشرقيين والغربيين. النقطة الثانية في الفارق بين ثقافتنا وإنجازاتهم الأدبية، أن السمة الرئيسية للثقافة هي ارتباطها بالإنسانية مضمونا وأهدافا، ولا يشك أحد في إنسانية ثقافتنا العربية المنزرعة عميقا في التاريخ! لكن من الناحية الثانية، ما رأي القرّاء بشاعر صهيوني معاصر (يشوت آفرون) يتلذذ برؤية الدم الفلسطيني، في قصيدته عن مجزرة صبرا وشاتيلا؟ ويطالب بالمزيد من هذه المجازر. الشاعر المعني لا يمثل حالة منفردة في الكيان، هو تعبير عن اتجاه ثقافي عام، مستند إلى الفاشية والاستعلاء العرقي، والتعامل مع الآخرين كعبيد لليهود! فأي ثقافة هذه؟ وهل تستحق أن تسمى ثقافة؟

لطالما راهن المثقفون العرب على صمود الجبهة الثقافية العربية أمام التطبيع مع العدو الصهيوني

يقول الكاتب الإسرائيلي تسفي بارئيل («هآرتس» 1 مايو/أيار الحالي) في مقالته عن المسلسلين التطبيعين العربيين، فيذكر عن مسلسل»المخرج رقم 7» أن مخرجه يعكس سعي بعض أطراف النظام الرسمي العربي الحثيث نحو التطبيع، تحت التبريرالمفتعل، كما جاء على لسان بطل المسلسل العربي وهو يقول»تضحياتنا كلها كانت من أجل فلسطين، دخلنا الحروب من أجل فلسطين، أوقفنا النفط من أجل فلسطين. وعندما أصبحت لديهم سلطة موّلنا نفقاتها ورواتب الموظفين فيها، في الوقت الذي نحن فيه بحاجة إلى هذه الأموال. وهم بدورهم يهاجمون السعودية». يعلق بارئيل على هذه الجملة قائلا: إنه انزلاق مقصود وبصورة واعية إلى الخطاب حول أهمية التطبيع، باعتباره شيئا عاديا وضروريا. وبذلك يتحول إلى موضوع عادي، يمكن المجادلة فيه تماما كالنقاش حول كرة القدم».
أما مسلسل «أم هارون» فيصف ما يسميه بالتمييز والتنكيل بالمسيحيين واليهود الذي حدث في الكويت في أربعينيات القرن الماضي، قبل قيام دولة إسرائيل. من خلال شخصية أم هارون الطبيبة النسائية اليهودية، التي يعرفها الجيران جيداً، ولكنها تعاني من الإهانة والاضطهاد اللاسامي، يطرح الفصل التاريخي السيئ في تاريخ الكويت. للعلم بطلة المسلسل العربية، عبّرت مؤخراً عن مواقف عنصرية فاضحة، عندما دعت السلطات الكويتية لطرد العمال الأجانب بسبب خطر كورونا. «لو كان باستطاعتي لرميتهم في الصحراء»، قالت في المقابلة التلفزيونية. للعلم وفقا لمصادر عديدة منها»ويكيبيديا» فإن اليهود الذين سكنوا مدينة الكويت وعملوا في التجارة بلغ عددهم نحو 100 عائلة يهودية فقط، في الثلاثينيات من القرن العشرين، غالب أفرادها يمتهنون التجارة حتى أنه كان لهم سوق شهير في الكويت يعرف بسوق اليهود، وكان نشاطهم التجاري يتمحور حول التجارة بالذهب والأقمشة.. ولهم مقبرة ما زالت موجودة ومسورة خلف مبنى مجمع الخليجية مقابل منطقة شرق الصناعية، وعاشوا في وئام مع المواطنين الكويتيين.
أما المسلسل الثالث «النهاية» الذي يتحدث عن عالم مستقبلي، ويتوقع فيه إزالة إسرائيل في عام 1121، واحتجاجا عليه فإن وزارة الخارجية الصهيونية، لم تفوّت بالطبع فرصة استنتاج المسلسل إزالة العرب لدولتهم، وأصدرت بياناً جاء فيه «إنه من المحزن بعد 41 سنة على توقيع «السلام» مع إسرائيل، نرى مسلسلا كهذا يُنتجُ في مصر، ويصف المستقبل الذي تقوم فيه دول عربية بتدمير إسرائيل».
لعله من عادة الاستعمار الكولونيالي الجديد، أن يعمل على تسييد ثقافته ونهجه، من خلال دفعه لكتّاب ومثقفين محليين من الدول المختلفة، أو الأدق قولا تجنيدهم لخدماته وأهدافه. الظاهرة ليست جديدة بالطبع، ندرك ذلك من خلال كتاب: «من يدفع للزمار.. الحرب الباردة الثقافية»، للكاتب الأمريكي فرانسيس ستونر سوندرز، فعلى مدى كل السنوات السابقة، كانت وكالة المخابرات الأمريكية تنظم وتدير جبهة ثقافية عريضة في معركة ضارية، بدعوى حرية التعبير، وبتعريفها للحرب الباردة، بأنها معركة من أجل «الاستيلاء على عقول البشر».. فبعد أن سكت هدير المدافع وأزيز الطائرات ودوي القصف، أخرجت الترسانة أثقالها الثقافية: الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية، والمنح، والجوائز، إلخ، وتكونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع « CIA» من أجل ولادة «القرن الأمريكي» بمفاهيمه الثقافية الجديدة مثلا، اعتبار المقاومة المشروعة للشعوب المحتلة أراضيها «إرهابا». الكيان الصهيوني يسير على هدي حليفته الاستراتيجية، من خلال حرصه على تسييد روايته في الوعي العربي، والجبهة الثقافية العربية.
ولعله إثر مسلسل «أم هارون»، جددت إسرائيل المطالبة بأموال اليهود في الكويت، أسوة بالمطالبة بأموالهم في في سبع دول عربية وإيران، وهذه القضية بدأت منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وعقدت مؤتمرات بشأنها في القدس ونيويورك، وتبناها المؤتمر اليهودي العالمي، بعد أن تم اختراع مفهوم» اللاجئين اليهود» على شاكلة اختراع «الشعب اليهودي» و»أرض إسرائيل»، وفقاً للكاتب اليهودي شلومو ساند. نعم، يطالب الاحتلال الصهيوني بتعويض عائلات إسرائيلية بقيمة 250 مليار دولار، ثمنا لأملاك اليهود، وفقا لادّعاء «بأنهم أجبروا على الهجرة». وفي عام 2014 مررت إسرائيل قانونا باعتبار 30 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام يوما لإحياء ذكرى «ترحيل» اليهود من الدول العربية وإيران، ويتضمن اليوم برامج تعليمية وفعاليات دبلوماسية لتنمية الوعي الدولي بـ»قضية اللاجئين اليهود من الدول العربية وإيران وحقهم في التعويض.» أما الحقيقة: فإن الحركة الصهيونية فجّرت كنيس مسودة في العراق، وبثت مخابراتها الدعايات في الأحياء اليهودية بأنهم سيقتلون إن لم يهاجروا إلى الدولة المنشأة، وهددت زعماء الطوائف اليهودية بالاغتيال لحثهم على الهجرة.
لم يقرأ المسلمون عن إعداد المسلسلين هذه الوقائع، أو أنها فرضت عليهم من حكوماتهم. ألم يقرؤوا تصريحات عضو الكنيست، العراقية اييلت شكيد التي دعت إلى ذبح الأمهات الفلسطينيات وأولادهن وهدم بيوتهن فوق رؤوس سكانها، إضافة إلى جرائم اليهود ضد شعبنا وأمتنا.. نعم، تعودت الحركة الصهيونية أن تخترع الأكاذيب والأضاليل والأساطير وتصدقها، وتنقلها إلى بعضنا ممن يعتبرها حقائق.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.