انتفاضة فلسطين ناجحة لأنها مستمرّة وشاملة / د. عصام نعمان
د. عصام نعمان* ( لبنان ) السبت 17/10/2015 م …
*مفكر ووزير لبناني أسبق …
انتفاضة فلسطين الثالثة فصلٌ من فصول ثورة فلسطين المستمرة منذ 1936 مروراً بحرب 1948، ثم بحروب وانتفاضات الربع الأخير من القرن العشرين، وصولاً الى مثيلاتها في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين. إنها ثورة واحدة مستمرة بأشكال مختلفة ووتائر متفاوتة في حدّتها وشمولها.
لكن ميزات ثلاث تتفرّد بها الانتفاضة الثالثة عن سابقاتها:
أولاها أنها شاملة بفعالياتها كامل فلسطين التاريخية من النهر الى البحر. لذا تستحقّ وصفها بأنها «انتفاضة فلسطين الثالثة»: فلسطين كلها بأرضها وشعبها، بقطاع غزة المتحرّر، والضفة الغربية المستباحة بالاستيطان، ومناطق 1948 المحكومة بالعنصرية الصهيونية.
ثانيتها أنها بقيادة شعبها نفسه. لا منظمة التحرير تقودها ولا السلطة في رام الله ولا الفصائل المتنافسة، في معظمها، على الصدارة والنفوذ. شبان وشابات من الشعب هبّوا ويهبّون بقرار فردي، من تلقاء أنفسهم، كلٌ في بيئته ومحيطه وبقدْر ما تطال يده وذراعه.
ثالثتها أنها مقاومة مدنية فريدة بأسلحة بدائية، وصناعة ذاتية، قوامها الطعن بالسكاكين، وقذف الحجارة، والدهس بالسيارة.
ميزاتها الثلاث هذه أربكت «إسرائيل»، جمهوراً وحكومة. بعض أرباب العائلات مكثوا في بيوتهم خوفاً وتحوّطاً. لم يذهبوا إلى أعمالهم، وأبقوا أولادهم معهم بعيداً من رياض الأطفال والمدارس. بعضهم الآخر نزح إلى أماكن ظنّ أنها أكثر أماناً. وثمة من تسلّح بمسدس أو ببندقية. غير أنّ أكبر الأضرار كان من نصيب الاقتصاد: توقفُ قطاع البناء لامتناع العمال عن الذهاب إلى مواقع العمل، شلل الأسواق، ومعاناة البورصة من هبوط ملحوظ وخسائر.
ليس أدلّ على شمولية الانتفاضة الثالثة من لامركزيتها الجغرافية. أعمال الطعن، والدهس، وقذف الحجارة، والتظاهرات انتشرت على مدى جغرافية الوطن المحتلّ كلها بوتائر متصاعدة. ذلك أكره حكومة نتنياهو على اتخاذ جملة إجراءات غير معهودة: دعوة احتياطيّ الجيش لمؤازرة قوات الشرطة حصار أحياء في القدس ومدن أخرى وعزلها عن محيطها تكثيف حواجز الشرطة في الطرق ومداخل المدن والأحياء ونشر كتائب الجيش على امتداد جدار الفصل تشديد العقوبات على نحو غير مسبوق بما في ذلك الترخيص للشرطة كما للمستوطنين بـِ»جباية الثمن» مباشرةً قبل أيّ تحقيق أو محاكمة، أيّ الترخيص لهم بإعدامات في الشارع إلغاء تراخيص إقامة المتهمين بتنفيذ عمليات في القدس الشرقية وعائلاتهم وتسريع هدم بيوتهم، ومنعهم من إعادة بنائها.
عنف العقوبات وعنصريتها حملت، أخيراً، الأمم المتحدة على تعنيف حكومة «إسرائيل» ودمغها بـِ»الإفراط في استعمال القوة». إدارة أوباما أحسّت بدورها بوطأة الوضع وخطورته وتداعياته فأوعزت، بطلب من «إسرائيل»، إلى وزير الخارجية جون كيري بأن يتوجّه إلى «تل أبيب ورام الله من أجل «التهدئة واستئناف المفاوضات».
التهدئة واستئناف المفاوضات مطلبان «إسرائيليان» مزمنان. نتنياهو لا يضيره أن تعود واشنطن إلى طرحهما وتسويقهما. غير أنهما لا يعنيان للفلسطينيين شيئاً، لا في الماضي القريب ولا في الحاضر المضطرب. هل أبقت «إسرائيل» بسياستها الاستيطانية التوسعية شيئاً للفلسطينيين ليتفاوضوا بشأنه؟ أبو مازن محمود عباس كان وافق على استئناف المفاوضات شريطة أن تتوقف «إسرائيل» عن أعمال الاستيطان. أوباما حاول إقناع نتنياهو بِاستجابة الطلب، لكن دونما جدوى. وساطة كيري مرشحة، إذاً، للفشل.
في المقابل، الانتفاضة أيضاً مرشحة للتصاعد. ثمة حال سخط وثورة تلفّ شعب فلسطين في كلّ مكان وتوفّر وقوداً جاهزة لثورةٍ محكوم عليها بأن تبقى مستدامة. هذا الواقع لم يمنع بعض «الواقعيين» من أهل «النظام» الفلسطيني الحاكم في رام الله كما سواهم من التساؤل عن جدوى الانتفاضة في لحظة توازن القوى الراهن غير المتكافئ. يقولون إنّ الفلسطينيين قاوموا أعداءهم في كلّ انتفاضاتهم منذ 1936 وسط موازين قوى مائلة ضدّهم، فكان من الطبيعي أن يخسروا. حتى عندما كانوا يُحرزون، بمعايير الظروف السائدة، بعض المكاسب فإنهم سرعان ما كانوا يخسرونها في الانتفاضة التالية نتيجةَ مخطط صهيوني عنصري قوامه إكراه الفلسطينيين على دفع ثمن باهظ لكلّ انتفاضة يقومون بها بغية زرع الإحباط في نفوسهم والحؤول دون تقدّم قضيتهم وتفادي انتصار نضالهم الموصول.
هذا المخطط الصهيوني العنصري وأضراره الباهظة لم يغب قط عن أذهان الفلسطينيين، لكنه لم يكسر إرادتهم الثورية. فقد أدركوا، بحق، أنّ الشرط الأول للانتصار في صراع طويل قد يمتدّ على مدى جيل أو جيلين، وربما قرن أو قرنين، هو إبقاء القضية حيّة. إبقاؤها حية يستوجب ثورةً مستدامة أياً كانت التكلفة والثمن إلى أن يتمكّنوا، وسائر الأحرار من العرب، من تغيير موازين القوى لمصلحتهم.
من الواضح أنّ موازين القوى لا تتغيّر إلاّ بفعل عوامل متعدّدة ليس أقلها موازين الإرادات. والحال أنّ الفلسطينيين، ماضياً وحاضراً، حرصوا على أن يتفوّقوا بجدارة في صناعة الارتقاء بموازين الإرادات لمواجهة موازين القوى. ألا يتجلّى ذلك في الحروب والانتفاضات المتعاقبة، ولا سيما الانتفاضة الثالثة؟
نعم، انتفاضة فلسطين الثالثة ناجحة لأنها مستمرة، متواصلة، وشاملة ولأنها تعتمد في الصراع موازين إرادات صلبة لا تلين… حتى النصر.
التعليقات مغلقة.