العلاقات الألمانية الصهيونية / الطاهر المعز

ألمانيا وإسرائيل - علاقات إستثنائية يشوبها خلاف حول الملف ...

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 12 / أيار ( مايو ) / 2020 م …




اتفقت أحزاب اليمين “المعتدل” و “المتطرف”، والوَسَط و” الخُضْر”، و”اليسار” (بمعايير ألمانيا) على إقرار قانون يُجَرِّمُ “حركة المُقاطعة” (للكيان الصهيوني) المعروفة ب”ب يدي إس”، وصَوّت جميع النّواب الحاضرين يوم 17 أيار/مايو 2019، في ذكرى النّكبة، على قرار يتهم حركة “المقاطعة” بمُعاداة السامية، وينص القانون على حَظْر تمويل أي جهة تدعم “ب يدي إس”، وبالمناسبة تعدّدت تصريحات الوزراء والزعماء والنّواب، لتُؤكّد على الدعم الأبدي وغير المشروط للكيان الصهيوني، وبعد نحو سنة تقريبًا أقَرّت حكومة ألمانيا “حظْر نشاط حزب الله اللبناني ومناصريه…”، رغم عدم تورّط “حزب الله” في أي نشاط مخالف لقوانين ألمانيا، ولكن الحكومة الألمانية أعلنت أن سبب هذه الحملة هي “معاداة حزب الله” للكيان الصهيوني، وفي نفس الأسبوع الأول من أيار 2020، هاجم مفوض الحكومة الألمانية “لمكافحة السامية”، المفكر الأفريقي المعروف عالمياً “أخيل مبامبي”، ونعته “بالمعادي للسامية”، لأنه قارن، في كتاب صدر له سنة 2016، بين سياسة الكيان الصهيوني ونظام المَيْز العُنصري، في جنوب إفريقيا (الأبارتهيد)، وأشار نفس المُفَوِّض (فليكس كلاين، من الحزب الليبرالي الديمقراطي “إف دي بي”) إلى “ضرورة مواجهة أي شكل من أشكال النقد لإسرائيل، حتى لو كان من المفترض أن تأثيرها غير ضار… إن تطبيق أهداف حركة مقاطعة إسرائيل يشكك في حق إسرائيل في الوجود”.، بحسب ما أوردته وكالة “د.ب.أ” الألمانية للأنباء ( 17 أيار/مايو 2019)، ما يُشير إلى تطابق المقاربة الألمانية والمقاربة الصهيونية لقضية الشعب الفلسطيني، أو ما اعتبَرهُ كاتب بلجيكي “صَهْيَنَةِ” و “أَسْرَلَة” السياسة الخارجية الألمانية، مع الإشارة أن مطالب حركة المقاطعة، أو فرض العقوبات وسحب الإستثمار ( BDS ) محدودة، وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث تقتصر على الأراضي المحتلة سنة 1967، وتطالب بعض الفُروع بالمساواة في الحقوق بين المواطنين الفلسطينيين (أصحاب البلاد) والمُستوطنين، وتُضيف الفُروع العربية “حق للاجئين الفلسطينيين في العودة”، وفق قرار الأمم المتحدة عدد 194، المعروف ب”قرار العودة والتعويض” ( الجمعية العامة للأمم المتحدة – 11 كانون الأول/ديسمبر 1948 )، ويعترض بعض الباحثين الألمانيين، وهم قِلّة قليلة، بحجة “إن الأهداف والحجج والأساليب التي تنتهجها حركة المُقاطعة، غير معادية للسامية، لأنها ليست موجهة ضد اليهود كأفراد ولا ضد العقيدة اليهودية”، ولأنها أيضًا “جُزْء من المُقاومة السّلْمِية للشعب الفلسطيني، بمواجهة الإحتلال والميز…”

عبّر وزير خارجية ووزير “الشؤون الإستراتيجية”، وزملاؤهما في حكومة الإحتلال عن سرورهم بصدور هذا القانون الذي يُعتَبَر اعتداءً على حركة مُسالمة، وسَلْبًا لحق أي مواطن في التعبير عن رأيه في قضية فلسطين، والدّعوة لمقاطعة شركة أو دولة، كما يُعْتَبَرُ تشجيعًا للإحتلال على ارتكاب مزيد من الجرائم وسلب الأراضي، ونكران حق عودة اللاجئيين، وأدّى القانون إلى رفض الحكومة الألمانيّة تمويل مشاريع يشارك في إعدادها أو إنجازها أفراد “مناصرون وداعمون لحركة المقاطعة”، ما يُشكّل عملية مراقبة وتجسس على المواطنين، في حين أعلنت حكومة العدو الصهيوني عن رفع مبالغ الدّعم المالي للمجموعات الصهيونية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وكندا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، بهدف “التّصدِّي لحركة المقاطعة”، أو مكافحة مناصري الشعب الفلسطيني، من حركة المقاطعة وغيرها…

نشأ العداء للسامية في أوروبا، كما نشأت بها العُنْصُرية، وتجارة الرّقيق، والإستعمار والإمبريالية (كضرورة رأسمالية لغزو أسواق خارجية، بعد السيطرة على السوق الدّاخلية)، وتطور العداء للعرب ( أو من يعتبرهم الأوروبيون “مسلمين”، مهما كانت عقيدتهم الدينية)، منذ حُروب الفَرَنْجَة (أو ما تُسميه أوروبا “الحروب الصليبية”)، عندما تَصدّى العرب، بمسلميهم ومسيحييهم، للغزو الأوروبي، ورغم تبجّح أوروبا (والولايات المتحدة وليدة أوروبا) بالديمقراطية وحرية التعبير، فإن من يُعبر عن اختلافه مع الإيديولوجية السائدة يُعاني من الإقصاء ومن التّهَم والشتائم، بدل المُجادلة بالمَنْطِق وبالحجة، وهذا ما حَصَل للفيلسوف الكاميروني، والمُدَرِّس الجامعي “أخيل مْبِيمْبِي” ( Achille Mbembe )، عندما أدان الإحتلال الصهيوني، بسبب “إنكار حقوق الشعب الفلسطيني”، وقارن ممارسات الكيان الصهيوني بممارسات نظام المَيْز والفَصْل العُنْصُرِي في جنوب إفريقيا (قبل 1994)، فاتهمته السلطات الرسمية الألمانية (حكومة وبرلمانًا وأحزابًا) – والتي عُرفت جميعها بالدعم غير المشروط للكيان الصهيوني – بمعاداة السامية، وبنَفْي المحرقة، في أحد كُتُبِهِ المنشور سنة 2016، ويدعو فيه إلى الإنفتاح والإهتمام بمعاناة الشعوب الواقعة تحت الإحتلال، ويُذَكِّرُ قُرّاءه بالإهتمام بقضية الشعب الفلسطيني، وذَكَّر المُفكّر بالمجازر التي تعرّض لها الشعب الجزائري يوم احتفال أوروبا بالإنتصار على النازية ونهاية الحرب العالمية الثانية، حيث قتل الجيش الفرنسي نحو 45 ألف جزائري، في شرق البلاد، كانوا يُطالبون بالإستقلال، يوم الثامن من أيار/مايو 1945، وتَعَرّض لحملة التّشْوِيه هذه، بعْدَ قُرابة أربع سنوات من نَشر الكتاب سنة 2016 ( وتُرْجِم الكتاب إلى الألمانية، سنة 2017 ) و”لغاية في نفس يعقوب”، ووَرَدَ في كتاب أخيل مبيمبي، الذي حصل على العديد من الجوائز، بفضل “أعماله البحثية الإستثنائية”، وتكريم العديد من الجامعات والمُدُن والمهرجانات الثقافية، وهو معروف في الأوساط المُكافحة للإستعمار: “إن سياسة الاستيطان الإسرائيلية تذكرنا في بعض النواحي بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا… “، وقررت الحكومة الألمانية مَنْعَ “أخيل مْبِيمْبِي” من المُشاركة في التظاهرات الثقافية التي دُعي للمشاركة بها، ولكنها أُلْغِيَت بسبب انتشار وباء “كوفيد 19″، بسبب هذا “الاتهام بجريمة وهْمِيّة”، ونكران حكومة ألمانيا للجرائم الحقيقية التي يرتكبها الإحتلال يوميا، ومنذ 72 سنة… وخلال حملة التشويه والإتهامات الباطلة، تلقّى المُفكّر “أخيل مبيمبي” العديد من التهديدات والشتائم المُهينة والبذيئة، ومنها الشتائم العُنصرية، بحسب مجلة “جون افريك” (الأسبوع الثاني من أيار/مايو 2020)، وندّد بعض المُثقفين في ألمانيا “بالحملات العدوانية ضد المنظمات والأفراد، بسبب دعمهم لمبدأ المُقاطعة، وبإهمال الحكومة التهديد الجِدِّي الذي يمثله اليمين المتطرف على الحُرّيّات…”، ونَشَرُوا عريضة في ثلاث صُحُف ألمانية، تَدْعم حق إمبيبي في “التعبير سلميا عن رأيه”، وأكّد المُوقّعون : “حق المثقفين والصحفيين والجمهور في ممارسة حرية التعبيرن والخوض في القضايا الخلافية التي يجب مناقشتها علنا… إن محاولة تقديم البروفيسور مبيمبي على أنه معاد للسامية لا أساس لها من الصحة وغير ملائمة ومسيئة وضارة”…

تُمارس حكومات فرنسا وهولندا وغيرها ضغوطات هائلة على من يتجرأ على نقد بعض جوانب سياسات الكيان الصهيوني، وليس نقد الكيان بذاته ككيان استعماري استيطاني، يُمارس المَيْز والعنصرية ضد السكان الأصليين، بمن فيهم من فُرِضَتْ عليهم الجنسية “الإسرائيلية”، سنة 1948، بالتوازي مع وضعهم تحت الحُكْم العسكري، لفترة عقْدَيْن، ليتسنّى للمُستوطنين سلب الأراضي والإستيلاء على البيوت ومحاصرة القُرى بالمُستوطنات…

لا تقتصر عنصرية المستوطنين الصهاينة “الإشكنازيين” (القادمين من أوروبا ) على الفلسطينيين (السكان الأصليين، أصحاب الوطن والأرض في كامل فلسطين)، بل تجاوزتهم إلى اليهود العرب، كاليمنيين الذين وقع رشهم بمادة “د يدي تي” حال وصولهم، مع سرقة أبنائهم وتسليمهم لأُسَر “اشكنازية”، لكي يتربوا ويكبروا بعقول صهاينة أوروبيين، والتمييز ضد الفلاشا (يهود الحبشة )، وتعقيم النساء العربيات (يهود وغير يهود)، قَسْرًا، دون علمهن…

بعد أيام قليلة من الحملة ضد المُفكّر الكاميروني “أخيل إمبيبي”، أصدرت ألمانيا، يوم 29 نيسان/ابريل 2020، قرارًا ( رحّب به الكيان الصهيوني والسعودية والولايات المتحدة ) يعتبر “حزب الله منظمة إرهابية”، في ظل جائحة “كوفيد 19″، وقُبيل الذكرى الخامسة والسبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية، والذكرى 72 لتأسيس دولة الكيان الصهيوني، على أرض فلسطين، والغريب في الأمر هو التعليل الذي قَدّمته حكومة ألمانيا لتبرير اتخاذ القرار، ويتمثل بحسب بيان الحكومة في “إن عقيدة حزب الله هي إزالة إسرائيل من الوجود”، ولم تتهم حزب الله بارتكاب مخالفات أو تنفيذ “عمليات إرهابية” في ألمانيا، بل بمعاداة “دولة أجنبية”، وترافق هذا القرار مع حملة إعلامية وصور عن مداهمات (رغم الحجر الصحي) واعتقال أشخاص لم يقع اتهامهم بالإرهاب أو بحيازة أسلحة، لكن بالإنتماء إلى أو بالتعاطف مع “حزب الله” ( عن وكالة “رويترز الجمعة 01 أيار/مايو 2020)، واعتبر البعضُ، ومن بينهم مناصرون لحزب الله إن هذا القرار لا يخدم مصالح ألمانيا، وما هو سوى ” رضوخ للإملاءات الصهيونية ـ الأميركية “، والواقع أن حكومات ألمانيا المُختلفة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أظْهَرت ولاءً للولايات المتحدة، التي نصبت قواعدها العسكرية الضخمة، في مجمل أراضي “ألمانيا الغربية”، وتحالفت ومَوّلت الكيان الصهيوني وسلّحَتْهُ، واتخذت الحكومة هذا القرار بالتنسيق مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وربما مع آل سعود أيضًا، ونُشير أن ألمانيا تُشارك في العدوان على سوريا، منذ الربع الأول من سنة 2011، وزودت سفنها العسكرية التي تجوب الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، المجموعات الإرهابية بالمعلومات الضرورية والمفيدة، قبل أن يتدخل الجيش الألماني مباشرة، مع قوات حلف شمال الأطلسي، في سوريا والعراق واليمن، وفي كافة المناطق التي تعتدي عليها الإمبريالية الأمريكية، من أفغانستان إلى مالي…

خَلْفِةّ تاريخية:

كانت ألمانيا، منذ القرن التاسع عشر، وخصوصًا منذ إنجاز وحدة الأراضي الألمانية (سنة 1871 )، وبعد مُؤتمَرَيْ برلين (1878 و 1884) قوة استعمارية، تُنافس فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وكانت لها مُستعمرات في إفريقيا الإستوائية والغربية والشرقية (طوغو والكاميرون ونامبيبيا وتنزانيا، وجزء من “بابوا-غينيا الجديدة”، ومناطق وجُزر في المحيط الهادئ، وجزء من الأراضي الصينية، وأصبحت بعض هذه المناطق مستعمرات أمريكية، بعد هزيمة ألمانيا، في الحرب العالمية الأولى…

أما بشأن المشرق العربي، وفلسطين بالذات، فقد تواجدت “بعثات تبشيرية” (دينية) ألمانية، منذ 1841، في مُدُن “حيفا” و “القدس” و “يافا”، وغيرها، وتوسعت ممتلكات الكنائس الألمانية لتصبح مُستعمرات، ونَظّمت قنصلية ألمانيا عمليات الدّعم للرعايا اليهود (من ألمانيا ومن غير ألمانيا)، منذ 1842، ومساعدتهم على السكن والإقامة والعمل في أهم المُدُن الفلسطينية، وعلى تأسيس أول مُستوطنة ليهود ألمانيا، سنة 1868، ثم دعمت ألمانيا الحركة الصهيونية، منذ بداياتها، إلى الآن، وساعدت على تأسيس “جمعية إغاثة اليهود الأَلْمان”، سنة 1901، وتُدير هذه الجمعية مجموعة من مؤسسات التعليم، من الإبتدائي إلى العالي، ومعابد، ودعمت هجرة اليهود إلى فلسطين…

في ألمانيا، قُدّر عدد المواطنين الألمانيين من معتنقي الديانة اليهودية بنحو 600 ألف في بداية حُكْم “الحزب القومي الإشتراكي”، باسم العقيدة النازية، المُعادية للشيوعية وللطبقة العاملة وللفُقراء (وبدأ النازيون بإبادتهم قبل اعتقال وإبادة المواطنين اليهود)، واستخدمت العداء لليهود “التجار والمُرابين”، كوسيلة لتوسيع قاعدتها، ولكن هذه الحملات العنصرية لم تمنع قادة “الحزب القومي الإشتراكي” (الحزاب النّازي الحاكم) وزعماء “الوكالة اليهودية” ( أحد الأسماء المختلفة للحركة الصهيونية) من توقيع اتفاقية (سَمّاها الصهاينة “اتفاقية هاآرفا” أو “هاعفراه” 25 آب/أغسطس 1933) لتيْسير هجرة اليهود إلى فلسطين (التي تحتلها بريطانيا)، شرط تنازل اليهود عن ممتلكاتهم في ألمانيا، لتكون بذلك رحلة ذهاب إلى فلسطين، بدون عَوْدَة إلى ألمانيا، وأشرفت “شركة “هاآرفا المحدودة” وشركة “بالترو”، على عمليات تهجير ما لا يقل عن خمسين ألف يهودي ألماني إلى فلسطين، بعد تأهيلهم في مجال الزراعة والمِهن الأخرى، من أجل تأسيس “اقتصاد يهودي في فلسطين”، وينص الإتفاق على دعم الشركات التي يُشرف عليها برجوازيون صهاينة، للصادرات الألمانية، نحو فلسطين والبلدان العربية، وجميعها كانت تحت الإحتلال البريطاني والفرنسي، وكذلك تصدير ممتلكات اليهود المُهَجَّرين إلى فلسطين، كسِلَع ألمانية، ساعدت في إنعاش الإقتصاد الألماني المُتَأزّم بفعل “الكساد الكبير” (بداية من 1929)، وتجددت الإتفاقية عدة مرات، بين آب/أغسطس 1933 و أيار/مايو 1939، ورغم العداء الرسمي لليهود وشن حملات الإعتقال ضدهم، ورد في وثائق محاكمة “أدولف ايخمان” (أحد المُشرفين على إدارة المُحْتَشَدات النازية)، بالقدس، سنة 1961، أنه أشرف على معسكرات أقامها الحُكْم النّازي في ألمانيا، ليذهبوا فيما بعد إلى فلسطين، وأكّد أن عددًا هامًّا من اليهود المهاجرين كانوا من العلماء والخبراء الذين كان لمساهماتهم العلمية دورا كبيرا في تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين، وفي تطوير البحث العلمي والتكنولوجيا، بمساعدة أوروبية وأمريكية، وأكّد “حاييم لنداو”، أحد قادة مليشيات “الهاغاناه”، والذي أصبح نائبًا في “الكنيست”، خلال ندوة (تل أبيب – 1966 ) “إن الوكالة اليهودية كانت على علم بما يحصل من إبادة جماعية لليهود في ألمانيا، وأمرت الجميع بالصّمت، لأن ذلك يدعم عملية تهجير اليهود إلى فلسطين”، ثم استخدمت الحركة الصهيونية القمع النازي للضغط والابتزاز، وللحصول على التعويضات الألمانية، وعلى الأسلحة بما فيها الغواصات القادرة على حمل الرؤوس النووية، وبرّرت السلطات الألمانية الحُروب العدوانية الصهيونية، كما استخدمت ضحايا النازية لاتهام الديمقراطيين والتقدّميين الذين يرفضون بعض جوانب السياسة الصهيونية، بمعاداة السامية.

الدّعم المالي والعسكري الألماني للكيان الصهيوني:

بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة ألمانيا النّازية، وقعت ألمانيا الغربية اتفاقية للتعويضات مع “الإتحاد الصهيوني العالمي”، ولِدعم الصهاينة بالمال والسلاح وبالخبرات، ما ساهم في تطوير الإقتصاد والمُؤسسة العسكرية، واستيعاب حوالي سبعمائة ألف مهاجر يهودي من أوروبا، ثم ملايين اليهود المهاجرين من مختلف دول العالم، وذلك ضمن “اتفاقية لكسمبورغ”، في العاشر من أيلول/سبتمبر سنة 1952، ولا تزال ألمانيا تُسدد معاشات حوالي 300 ألف مُستوطن يهودي يعيش في فلسطين، وتُسدد “التعويضات” ( حتى بعدما اتحدت من جديد)، لتبلغ قيمة مجمل “المساعدات” الألمانية، حوالي مائة مليار دولارا، حتى نهاية سنة 2018، ومكّنت “اتفاقية لوكسمبورغ” الكيان الصهيوني من التزود بالنفط والمواد الكيمياء والصيدلية، إضافة إلى بضائع بقيمة تعادل 1,5 مليون يورو (بداية من سنة 1952، وطيلة 12 سنة) وأصبحت ألمانيا الاتحادية (الغربية)، من 1960 إلى 1970، ثاني أكبر مُصدر أسلحة للكيان الصهيوني، ومُساهمًا هامّا في ميزانية دولة الإحتلال، خاصة بعد تعزيز العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية والعِلْمِيّة والعسكرية، سنة 1965، ونشرت “جريدة البرلمان” الألمانية الأسبوعية ( 15 نيسان/ابريل 2005) تقريرًا عن تأسيس شركات مُشتركة لتطوير الأسلحة وتصديرها، ولم تتغير السياسة الألمانية تجاه الكيان الصهيوني، بل تعززت، وأكد “غيرهارد شرودر”، مستشار ألمانيا من 1998 إلى 2002: إن الدفاع عن إسرائيل وأمن مواطنيها هو جزء من سياستنا”، وأعلنت المستشارة “أنغيلا ميركل”: “سوف تواصل ألمانيا الإضطلاع بمسؤولية ضمان سلامة وأمن إسرائل”، واستفاد الكيان الصهيوني من التكنولوجيا الألمانية، لتصنيع الدبابات (بمحركات وتقنيات الصفيح الألمانية ) والحصول على البوارج والسفن الحربية، بأقل من 65% من سعرها، والطائرات العسكرية، والغواصات التي لا يُسدد الكيان الصهيوني سوى رُبع ثمنها الفعلي، أو أقل، وأجهزة الرصد الليلي، واشترى الكيان الصهيوني زوارق ألمانية سريعة، لحماية حقول الغاز المسروق من بحر فلسطين، بقيمة 430 مليون يورو، تتحمل الخزانة الألمانية 115 مليون يورو، من أموال سدّدها عُمال وأُجراء ألمانيا (من مَحَلِّيِّين ومُهاجرين)، وخلال احتفال الكيان الصهيوني وألمانيا، معًا، بالذكرى السبعين للنكبة، سنة 2018، في البرلمان الألماني، بَرَعَ زُعماء أحزاب ألمانيا في المزايدة بدعم الكيان الصهيوني، فأعلن “مارتن شولتس” (الحزب الاجتماعي الديمقراطي ): إننا نحمي أنفُسَنا، عندما نَحْمِي إسرائيل”، وأعلنت الناطقة باسم “حزب الخُضْر” ( كاترين غورينغ ــ ايكارد ): “إن حق إسرائيل بالوجود يوازي حقنا”…

كتبت الصحيفة الأسبوعية الألمانية “دير شبيغل” ( 06 آذار/مارس 2017) أن حكومة المستشارة “أنغيلا ميركل”، قدّمت دعمًا ماليًّا للكيان الصهيوني بقيمة 570 مليون يورو، من إجمالي 1,5 مليار دولار، حتى ذلك التاريخ، لتسهيل شراء البحرية الصهيونية غواصات ألمانية من طراز دولفين فائقة التطور، وفاقت قيمة الدعم المالي والعسكري الألماني للكياني الصهيوني، حتى نهاية 2018، مائة مليار دولارا، وأعلن رئيس حكومة العدو الصهيوني، يوم الخميس 15 آب/أغسطس 2019، أن ألمانيا سوف تدفع المزيد من التعويضات لحوالي خمسة آلاف من المستوطنين الألمانيين اليهود في فلسطين، بذريعة إنهم من “الناجين من محتشدات ألمانيا، خلال الحرب العالمية الثانية”، ولا تُثير قرارات تمويل تسليح الكيان الصهيوني من ضرائب الكادحين في ألمانيا، سخْطًا أو احتجاجات، لأن وسائل الإعلام الألماني (و”الغربي” بشكل عام) والأحزاب، متعاطفة مع الكيان الصهيوني، مما يَسَّر صياغة “رأي عامّ” على مقاس الصهيونية التي زَوّرت التاريخ، وجعلت من المُستعمِرِين المُسْتَوْطِنِين “ضحايا” (ضحايا أجداد الشباب الألماني، وليس أجداد الشعوب العربية) أناس “متحضِّرِين ومُتَمَدِّنِين”، وهم في الواقع مجموعات مُسلّحة هَجّرت الشعب الفلسطيني بالقوة من أرضه، عبر عملية مُخَطَّطَة ومُنَظَّمة مُسبقا، واستولت على أرضه ووطنه واقتلعت الأشجار وجَرفت الأراضي الزراعية وهدمت المباني والمنازل…

بالإضافة إلى الدّعم المالي والعسكري، قدمت ألمانيا للكيان الصهيوني، منذ اتفاقيات 1952، معدات حديثة تشمل قطاعات السكك الحديدية وشبكات إمدادات المياه والوقود، وعملت شركات ألمانيا (وهولندا وفرنسا وغيرها) على إعادة تصدير سلع الشركات الصهيونية، نحو البلدان العربية، ولتفادي مقاطعة السلع الصهيونية، وساهمت ألمانيا في تنمية عدد من القطاعات الإقتصادية والخدمات الحيوية، وتمويل نحو 35% من تكلفة البنية التحتية الكهربائية والزراعية، وقطاعات التعدين، والصناعات المعدنية، كما مَوّلت الحكومة الألمانية، من المال العام، “مُجمعات سكنية” (أي مُستَوْطَنات ) توطين مُستعْمِرِين يهود أوروبيين في فلسطين المحتلة، بحسب المؤرخ الصهيوني “توم سيغيف” (كتاب “المليون السابع”)، ومنذ 2011، حصل الكيان الصهيوني على تعويضات بمعدل 2500 يورو، عن حوالي سبعمائة ألف يهودي، من غير الأوروبيين، ممن ساعدتهم الوكالة اليهودية ليهاجروا وليستعمِرُوا وطَنَ الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى مساعدات في شكل بضائع وتجهيزات، بقيمة تُعادل سبعمائة مليون يورو، بين 2007 و 2011، ولا تزال المفاوضات تجري لابتزاز ألمانيا، بعنوان “تسديد دفعات جديدة من التعويضات ليهود اضطهدتهم النازية”، في مناطق أخرى من العالم… مع الإشارة أن جيش ألمانيا النازية احتل، خلال فترة الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945 )، عددا من البلدان وسرق موجودات المصارف، ورفضت ألمانيا تسديد تعويضات لليونان، ويوغسلافيا وبولندة وغيرها، وأجبرت الولايات المتحدة كافة الدول الأوروبية ( آب/أغسطس 1953) على التنازل عن ديُونها وعن طلب التعويضات من ألمانيا، واستأثَرَ الكيان الصهيوني بهذه الأموال التي حرمت منها شعوب أوروبا والدول العربية الواقعة على الساحل الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وعُمومًا، لم تُسدد ألمانيا تعويضات لضحاياها من غير اليهود، ولم يتلق اليهود هذه التعويضات مباشرة، بل كانت عبر جهاز دولة لم يكن موجودًا أصلا (على أراضي شعب فلسطين) خلال فترة اضطهاد النظام النازي الألماني للمواطنين، في ألمانيا وخارجها، وبهذه العملية، عينت ألمانيا والولايات المتحدة وغيرهما، الكيان الصهيوني مُمثلاً ليهود العالم، من أكثر من مائة جنسية، ومُنْتَدَبًا للإشراف على شؤونهم، وماضيهم وحاضرهم…

لم يبدأ الدّعم العسكري، خلال السنوات الماضية، بل بدأ بشكل سِرِّي، منذ تأسيس ألمانيا الإتحادية (الغربية) بدعم من الولايات المتحدة، التي أنشأت بها قواعد عسكرية ضخمة، ونشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية بتاريخ السابع عشر من كانون الاول/ديسمبر سنة 1957 تقريراً عن بيع المانيا الغربية غواصات عسكرية للكيان الصهيوني، بوساطة فرنسية، مباشرة بعد العدوان الثلاثي على مصر، تطوّر التعاون العسكري، سنة 1959، لِيُشرف الخبراء العسكريون الألمان (جُلُّهم كانوا ضُبّاطا في الجيش النّازي)، على تدريب الجيش الصهيوني على استخدام الاسلحة الألمانية الحديثة، وتطوّرَ التعاون السري إلى حدّ توقيع الطَّرَفَيْنِ اتفاقية 14 آذار/مارس 1962 (قبل التاريخ الرسمي للعلاقات الدبلومسية، في 1965)، تضمنت برنامج مساعدات عسكرية طويلة الامد، تتحمل ميزانية ألمانيا ستين مليون دولار، سنويا من قيمة صفقات الأسلحة ( المدافع والزوارق والتجهيزات، إضافة إلى الطائرات العامودية بداية من 1965…)، والتزمت حكومة ألمانيا بتدريب الجيش الصهيوني في المدارس العسكرية الألمانية، وبدعم الصناعة العسكرية الصهيونية، بالخبرة والتقنيات (بدعم أمريكي منذ 1963)، وتصدير بعض الإنتاج الصهيوني إلى جيش البرتغال الذي كان يحتل أنغولا وموزمبيق، ومليشيات المرتزقة في نيجيريا، وفي العديد من مناطق العالم التي عرفت نزاعات مسلحة، وكان السلاح الأمريكي، يمر إلى الكيان الصهيوني، عبر ألمانيا الغربية، قبل أن تُصبح الصفقات علنية، في شهر أيار/مايو 1966…

لم ترتفع أصوات كثيرة في ألمانيا ضد الإحتلال الصهيوني، لكن الصحافية والكاتبة الألمانية “شارلوت فيديمان”، تُمثل واحدًا من هذه الأصوات الرافضة (باعتدال شديد) لسياسة ألمانيا الدّاعمة، بدون شُرُوط، للكيان الصهيوني، وتذَمّرَتْ في حديث لها، نُشِرَ يوم 29 كانون الأول/ديسمبر 2015، ضمن موقع “قنطرة” (مدعوم من الحكومة الألمانية )، من رداءة “الخطاب الإعلامي وهبوط مستوى النقاش السياسي، كلما تعلق الأمر بإسرائيل”، وأعلنت أن الدعم الألماني غير مَشْرُوط، ويتجاوز الدّعم السياسي والعقائدي الأمريكي للكيان الصهيوني…

هذا أحد وجوه ألمانيا، التي لم يتغير جوهرها كثيرًا، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عاد اليمين المتطرف بقوة إلى الساحة السياسية، وعادت معه الإعتداءات المتكررة (التي لم تتوقف أبدًا، وإنما تتغير وتيرتها) على المُهاجرين، وعلى الكادحين، ومن يُصنّفُون في خانة “المسلمين”، فالإسلام قناعة داخلية، وليس مَظْهَرًا خارجيًّا، وزاد الدّعم الألماني للكيان الصهيوني، وتُشارك القوات العسكرية الألمانية في كافة الحُروب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة، مباشرة، أو تحت عباءة حلف شمال الأطلسي، وظهرت العنصرية والإستعلاء أثناء غرق الإقتصاد اليوناني، حيث تشبثت ألمانيا بعدم إعفاء اليونان من تسديد الدّيون التي تسببت الشركات والمصارف الألمانية بجزء هام منها، ولئن استقبلت ألمانيا مئات الىلاف من اللاجئين، فإنها اختارت ما يحتاجه اقتصادها من خبرات ومؤهلات، لتعويض الطبقة العاملة التي أصابتها الشيخوخة، وفي ألمانيا الغنية (أكبر اقتصاد أوروبي، وأحد أهم اقتصادات العالم) يضطر حوالي مليون متقاعد فاقت أعمارهم سبعين سنة، للعمل، بسبب المعاش الهزيل الذي لا يكفي للحصول على المتطلبات الدنيا للعيش، ولا تدعم حكومة ألمانيا هؤلاء المواطنين، ليعيشوا بكرامة، وتُغدق المال العام، من ضرائب سُكان ألمانيا (بمن فيهم الأجانب) لدعم تسليح الكيان الصهيوني…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.