العلمانية الآن.. وليس غداً / باسل الرفايعة
باسل الرفايعة ( الأردن ) الأحد 18/10/2015 م …
لم تشهد الدول العربية أنظمة علمانية بالمعنى الاصطلاحيّ المعروف والمُجسَّد. ثمة ممارساتٌ علمانيةٌ، اقترنت بالاستبداد السياسي، وأسفرتْ عن استقطابٍ متوقع، وصِدامٍ مع القوى الدينية والاجتماعية، كما هو الحال في تونس، قبل 2011.
ليس هناك تجربةٌ علمانيةٌ عربية ناجزة، لمحاكمتها نقديّاً، والاستناد إليها في رفض أو قبول فكّ الارتباط بين الدين والسياسة، وجعله أساساً للجدل. ولذلك ظلت المقاومة اليمينية الشرسة للعلمانية غارقة في الإنشاء والعجز عن تبرير العداء موضوعياً، وساعدها في ذلك أنّ الخطابَ العلمانيَّ العربيَّ ليس متماسكاً إلى الحدّ الذي يُقنعُ مجتمعاتٍ متديّنة بمزايا الدولة المدنية، وعدم صلاحية الدين في توفير الحلول المعاصرة في القرن الحادي والعشرين. مع وجود الشواهد الفاشلة للدول الدينية في المنطقة.
مقاومةُ العلمانية تتخندقُ في ثلاث جبهات رئيسية: الدولة العربية المحافظة، والقوى الدينية المُسيّسة، والتديُّن المطبوع ثقافياً في المجتمع. والأخيرُ تابعٌ شديد الاستسلام، وغائبٌ/مُغيَّبٌ عن وعي المصلحة.
يُدركُ النظامُ العربيُّ كُلفة الدولة العلمانية، وهو غيرُ مستعدٍ لها، ويُفضِّلُ أنصافَ الحلول، في مظاهر دولةٍ مدنية، بجوهرٍ دينيٍّ مركزيّ في التعليم والتشريعات وبعض أوجه الإدارة العامة، ويُعدُّ الأردن نموذجاً في هذا الصدد، فللدولة العلمانية شروطٌ بنيويةٌ، تتصلُ بإصلاحٍ عام، يطالُ حقوق المواطنة، والدستور، والقوانين، والتعليم، وفلسفة الحكم، ومعنى ذَلِكَ مواجهةٌ مباشرةٌ مع المراكز الدينية السياسية وحلفائها من سائر التشكيلات الاجتماعية.
التديُّن المُسيّسُ يتحركُ بين نقطتين: الحفاظ على ما هو موجود، مع عدم إغفال المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، والضغط على الدولة للتخفُّفِ من بعض المظاهر التي تبدو علمانية، مُلوّحةً دائماً بدستور الدولة، وبالأغلبية السكانية المُسلمة.
يدعمُ ذَلِكَ على نحوٍ مباشر التشويشُ المُصنَّع في المركز الدينيّ على العلمانية مفهوماً ومنهجاً. فـ”الإخوان المسلمون” وأذرعهم وقواعدهم يمارسونَ خداعاً ممنهجاً في دعاية مضادة للدولة العلمانية، فهي دولةٌ كافرةٌ ومُلحدةٌ، وتريدُ استنساخَ النماذج الغربية في الحقوق التي تهدمُ الأخلاقَ، وتنزعُ الصبغة الدينية عن المناهج، والتشريعات، وتُعطي المرأة دوراً إضافياً يتناقضُ مع وظيفتها الوحيدة والمُقنَّنة في الأسرة.
لذلكَ، فلا غرابة أن يمتدحَ المراقبُ العام لجماعة “الإخوان المسلمين” همّام سعيد تشريعاً، يتأسسُ على التمييز، ويستخدم اشتقاق “الردّة” بكثافة، مثل قانون “الأحوال الشخصية” لسنة 2010. فهو يعرفُ أنّ ثمة من يناهضُ حقوق النساء في الإطار الدوليّ، مثل معاهدة “سيداو”، من أولئك الذين كانوا ينتخبون “الإخوان” في المجالس البرلمانية والمحلية، على الرغم من أنهم غير منضوين في الجماعة.
هل يعني ذلك أنّ الدولة العلمانية مستحيلة في بلدٍ مثل الأردن؟. قطعاً لا. إنها ممكنة جداً. فالنّاس يعيشون ويتدبّرون شؤون حياتهم، بفضل الثورة المعرفية والتقنية التي أنتجتها الدولُ العلمانية الغربية، وهم في النهاية مضطرون للدفاع عن مصالحهم، في ظلّ الاخفاق المُريع للدول الدينية في الإقليم، ووسطَ إفلاس الخطاب الدينيّ السياسيّ عن الحلول من جهة، وعن مواجهة الإرهاب والتكفير والتشويه، من جهة أكثرَ وضوحاً، وتحدياً.
ما يتبقى أنْ تسمحَ الدولة، أو أنْ تكونَ أكثرَ حياداً، لينهضَ خطابٌ علمانيٌّ، يمتلكُ مفرداته، وجملته الثقافية، من أجل التغيير. الإمكاناتُ موجودة، مثل الصعوبات، والقدرة على تكييف نظام علمانيّ في مجتمعات متدينة تحتاجُ كثيراً من الحرية، ووافراً من النقاش، من أجل إنقاذ البلاد من إفلاسٍ، لا تُجدي معه محاولاتُ العلاج. هذا إذا كنّا نؤمنُ بالتغيير ومفاعيله وضرورته، من حيث المبدأ..
العلمانية الآن، وليس غداً. مِثْلَ الثورة التي يراها كارل ماركس. الفرق يكمنُ في الإرادة، مثلما هو تعبيرٌ عن الضرورة.
التعليقات مغلقة.