المفكر العربي السوري د. عدنان عويّد يكتب : سمات المجتمع الاستهلاكي (1 من 3)

عدنان عويّد* ( سورية ) – الخميس 14/أيار ( مايو ) / 2020 م …

* مفكر، كاتب وباحث من سورية

في المفهوم:




    إذا كان الاستهلاك في سياقه العام يعني استخدام المنتوج الاجتماعي في عملية تلبية الحاجات الإنسانية، فإنّ الاتجاه الاستهلاكي في “المجتمع الاستهلاكي” – موضوع بحثنا هذا – هو ليس مجرد سعي للاستهلاك من أجل أن يكون الإنسان إنساناً، بقدر ما هو استهلاك من أجل الاستهلاك.

    أي استهلاك منتزع من صلته العضوية بالقيم الإنسانية، وبعملية الصرف الابداعي للإمكانات والقوى التي يقوم بها الإنسان. فحق الاستهلاك هنا يدفعه الإنسان ثمناً لحق الابداع.

    إنّ استملاك الأشياء أصبح ثمناً في هذا المجتمع لفقدان الشخصية، فالأشياء المنتجة لم تعد تشكل شروط عيش ونشاط الإنسان، بل تحولت إلى مثيل له، أي أنّ – الأشياء – أصبحت هي المقياس الذي يحدد قيمة الإنسان وسمعته الحسنة وثقله وتأثيره على غيره أو أمثاله.

    ومن نافل القول التأكيد على أن علاقة الإنسان بالشيء (السلعة)، لا يجوز فهمها على أنها استخدام ذو اتجاه واحد من حيث امتلاكه أو استهلاكه، ان علاقة الإنسان بالشيء في سياق هذا التصور، قد أفقدت هذه العلاقة جوهرها الإنساني. أي أنّ الشيء لم يعد ذا قيمة إنسانية تنطبع فيها كل عملية التطور التاريخي الطويلة، أو بكلمة أخرى، لم تعد تظهر فيه تلك الجهود، والتجارب، والمعارف، والأذواق، والامكانات، وحاجات الأجيال العديدة من الناس. ففي الشيء المؤنسن، تظهر حظوة الإنسان وتاريخه الحقيقي وسيرته الاجتماعية وعناصر فرديته وحياته الإنسانية الواقعية.

    كل هذه القيم الإنسانية للشيء، أفقدتها طبيعة المجتمع الاستهلاكي التي أفرزتها أشكال حركة الملكية الخاصة في النظام الرأسمالي المعاصر، والتي راحت بدورها تعمل على خلق انسانها الجديد ذي البعد الواحد والذي لم يعد الشيء بالنسبة له ذا قيمة، إلا إذا امتلكه أيّ استهلكه. والاستهلاك في المحصلة يتحول هنا من وظيفته الاقتصادية والاجتماعية، إلى عقيدة، وذوق، وسلوك، وأسلوب حياة.

 الجذور الاقتصادية والفلسفية للمجتمع الاستهلاكي:

    في الفترة التي لم يعد فيها أسلوب الانتاج الصناعي القديم ذي الطابع الحرفي بقادر على تلبية حاجات الأسواق المتزايدة، بدأت آنذاك الارهاصات الأولية للثورة البرجوازية تظهر مع حلول (المانيفاكتورة)، وراحت الفئة الصناعية المتوسطة تحل مكان المعلمين وأصحاب الحرف.

    ومع اتساع الأسواق وزيادة الطلب على المنتجات، أصبحت (المانيفاكتورة) نفسها عاجزة عن تأمين الحاجات الضرورية للإنسان. عندئذ أحدثت الآلة البخارية انقلاباً في الانتاج الصناعي، وحلت الصناعات الكبيرة الحديثة بقيادة الطبقة البرجوازية الجديدة في السوق بدل المانيفاكتورة، الأمر الذي شجّع الاقتصادي الفرنسي “ساي” ليطلق آنذاك صيحته التاريخية لهذه الطبقة الوليدة: “أنتجوا….”. هذه الصيحة التي استطاعت فيما بعد أن تحلل كل ما تبقى. إذ أخذ الانتاج الكبير يخلق الأسواق العالمية التي قادت بدورها إلى توسع التجارة والملاحة والمواصلات. هذا التوسع الذي أخذ ينعكس أيضاً ضمن علاقة جدلية مع الانتاج ليعمل فيما بعد على تشكيل الطبقة الرأسمالية المعاصرة بثوبها الجديد (الكوسموبوليتي).

    إنّ هذه التحوّلات المادية الضخمة في الاقتصاد، رافقتها بالضرورة تحولات فكرية مهدت لانتصار الثورة البرجوازية من جهة، ثمّ العمل على خلق الظروف الثقافية والنفسية المطابقة أو المناسبة لهذه الثورة من جهة ثانية.

    فمع دخول الإنسان عصر النهضة، (عصر التنوير) أخذ يحضّر أيديولوجيا لقيام الثورة البرجوازية. فإنسانيو عصر النهضة باهتمامهم بتركة القدماء الفكرية عملوا على وضع حجر الأساس للحضارة الجديدة – أي للحضارة المدنية – ذات الطابع الإنساني، هذه الحضارة الموجهة أصلاً للإنسان والصادرة عنه معاً، الصادرة عن إمكاناته وابداعاته الروحية البعيدة عن أيديولوجيا العصور الوسطى عموماً. لقد توجهت الروح الإنسانية هنا إلى الفرد الذي اعتبر غاية الحياة ومنطلقها، أي المقياس الحقيقي للإبداع الحضاري. فالنزعة الإنسانية لهذا العصر، هي التي كشفت هذا النوع من النشاط وأكدت كأنموذج أساسي للتطور الحضاري اللاحق.

    إنّ هذا التصور الجديد الذي يقول عن الإنسان بأنّه شخصية حرة مستقلة تمتلك القدرة على الخروج من حدودها الخاصة (الفيزيائية)، للوصول إلى التكامل والعمومية من خلال جهده الشخصي، هذا التصور، يعتبر الاكتشاف الرئيس للإنسانية، والذي سمِّي “باكتشاف الإنسان”. الاكتشاف الذي لم يقتصر على الطابع النظري فحسب، بل كان طابعاً عملياً أيضاً، عبر عنه الإنسان بشكل انجازات ملموسة لعباقرة عصر النهضة.

    إنّ فلاسفة عصر التنوير الذين استطاعوا باسم الدعوة إلى اعتبار الفرد المهتم بمنفعته الشخصية والمغموس بمصالحه الخاصة، يمكن أن يصبح في الوقت نفسه كائناً عالي التمدن وحاملاً لأعلى قيم الحضارة الإنسانية، ولكونهم قد اعتقدوا بأن قانون المنفعة الشخصية يمكن أن يجتمع بوفاق مع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة بين الناس، ومع مبادئ النظام العادل للحياة الاجتماعية، كانوا في الحقيقة قد هيّؤوا تاريخياً طبقة جديدة باسم التنوير، راحت تعمل لوراثة تقاليد الحضارة الماضية. إنّ الفرد الذي تكلم عنه المتنورون والذين عملوا على رفعه إلى مستوى ذات النشاط التاريخي الحضاري، أصبح هو نفسه الممثل النموذجي فيما بعد للطبقة البرجوازية. فعندما أدرك هذا الفرد نفسه – أي وعى ذاته – وراح يتحدث بصوته الخاص، لم يعد هناك مجال لكل الوهم المتولد من قبل التنوير حول الرسالة التاريخية الإنسانية التي ستقوم على اكتشاف فرد التنوير هذا.

    إنّ التركيز على الفردية وتنميتها، دفع إلى تشكل الفرد البرجوازي ومن ثمّ الطبقة البرجوازية والعلاقات الرأسمالية، هذه العلاقات التي استطاعت في وضعيتها المعاصرة أن تعمل جاهدة على تقويض أزمتها “الإنسانية” أي بطلان تلك القيم والمبادئ والمفاهيم التي طرحها فلاسفة عصر التنوير. فالرأسمالية المعاصرة لم تعد قادرة على أن تحافظ على الفرد المبدع في عملية الانتاج عن طريق وسائل التكنولوجيا وتنظيمها، ان كل الذي وصلت إليه من ثورتها التكنولوجية، هو احلال هذه الآلة بدلاً عن الإنسان، والعمل على تغريبه واستلابه وتشيئه. فمن خلال الآلة قامت بنسخ وتكرار ونقل المنتوجات الحضارية المعدّة للاستهلاك الجماهيري. أما تطور الفرد الروحي وتشبعه الابداعي وادراكه لحياته وعلاقاته الخاصة ذات المعنى الإنساني العام، فلم يعد لها أي وجود أو حيز في رؤيتها التطورية تلك. ان ما راحت تسعى إليه هو تجهيز مجموعة من القيم الروحية المحضّرة آليا، والتي تعمل على خدمة الفرد كوسيلة خارجية ومساعدة للتكيف مع الوضع المباشر. انّ العلاقات الرأسمالية المعاصرة عملت على شل الروح الإنسانية، أو كما يقول نيتشه: انّ الإنسان مات في هذه الحضارة.

    بكلمات أخرى نقول: انّ النظام الرأسمالي المعاصر لم يعد قادراً أن يتابع أهدافه الإنسانية السامية التي طرحها في بدء قيام الثورة البرجوازية على ألسنة فلاسفة عصر التنوير، هذه الأهداف التي ركزت على اعتبار الإنسان كائناً عاقلاً ذا مسؤولية معنوية، بل على العكس من ذلك، لقد عملت على اضعافه وافقاده لوجهه العملي، واخضاعه للآلة ذات الانتاج الجماهيري ذي الطابع الاستهلاكي. انّ هذا النظام راح يعمل بعمق على تغريب نفسه أيضاً عن إنسان عصره، أي لم يعد قادراً على إعادة هيكلة نفسه بما يخدم الإنسان، وهنا تكمن المشكلة الأساسية للنظام الرأسمالي، وهو عجزه عن جعل الإنسان محتوى واقعياً وإنسانياً، وهدفاً للعملية التاريخية الحضارية التي حدد معالمها فلاسفة عصر النهضة كما أسلفنا سابقاً.

    ان ما تم  في هذا النظام من افراط في الانتاج دون حدود أو قيود أدّى إلى انتصار التطور المادي الكمي والفرداني للرفاه. لقد افترض هذا النظام أن جودة العيش الإنساني تتحقق مع تراكم الانتاج المنسكب في دائرة المستهلك الفارغة، كما أنّ الوجاهة الاجتماعية ارتبطت هنا أكثر من أي وقت مضى، بالحيازة الشخصية للأشياء أو بانتهاج أنماط عيش ظاهرية معيّنة. انّ النظام الرأسمالي المعاصر الذي قام على الفردانية في نزعته الإنسانية، وعلى الربح واقتصاد السوق في نزعته الاقتصادية، خلق دون أن يدري بنية المجتمع الاستهلاكي الفردي، هذا المجتمع الذي حابى روح الاستهلاك الفردي على حساب الاهتمام بالتضامن والعدالة الاجتماعية

[email protected]

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.