عقدان ونيّف على رحيله، البحث عن جبرا: في القفز من الماضي إلى المستقبل .. / د.هشام البستاني

 

 د.هشام البستاني ( الأردن ) الإثنين 19/10/2015 م …

** هذا النصّ من خلق الخيال، وإذا وُجد أيُّ شبهٍ بين أشخاصه أو أسمائهم وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك إلّا من محض المصادفة...

1

“إلى جانب هذيْن الكتابيْن [البئر الأولى وشارع الأميرات] بثّ جبرا مقدارًا غيرَ قليل من ‘السيرة’ في ثنايا ما كَتب، أولًا في الروايات، وثانيًا في الكتب النقدية.” (عبد الرحمن منيف، تقديم شارع الأميرات)

“وعندما أخذتُ أراجع نفسي بشأن أحداث الطفولة، وجدتُ أنّني، عبر أكثر من أربعين سنةً من الكتابة، استعرتُ العديدَ منها في مقالاتي وقصصي القصيرة، وبخاصّةٍ في رواياتي.” (جبرا، البئر الأولى)

قال لي فيصل درّاج، ونحن جالسان على شرفة المقهى، إنّ جبرا في رواياته الكثيرة كان يحاول كتابةَ روايةٍ واحدة، وإنّ كلّ التنويعات هي مساراتٌ مختلفةٌ نحو هذه الرواية أو تناسخاتٌ مختلفةٌ عنها.

لعلّ ما كان جبرا يبغيه ليس روايةً يا صديقي فيصل. لعّله نوعٌ من السيرة المعكوسة: محاولته ـــ التي لا طائل من ورائها ـــ للعودة إلى طفولةٍ صارت ماضيًا، ومع مرور الأيام تحوّل الماضي إلى مُتخيّلٍ محمّلٍ بما يأمل المستقبلُ أن يُحقّقه. هذه الرواية الواحدة هي الذاكرة/الذكرى إذ يحوّلها العقلُ، الشاهدُ على الفاجعة المتجدّدة، إلى ما يشبه الحلمَ القادم. “أمامُ” جبرا يقع خلفَه دائمًا، في طفولته التلحميّة تحديدًا. أمّا مستقبلُه فحاضرٌ في سراديب القدس الرّطبةِ الضيّقة، وفي بيوتها المنخفضةِ عن سطح الشارع المكتظٍّ بساكنيه وضوضائهم. كانت انتقالاتُ جبرا، مع تقدّم الزمن، تتمَ من البراءة إلى الدنس، من الفردوس إلى جحيم “الآن” و”القادم،” عبر الهبوط إلى المدينة.

الماضي جميل دائمًا بشكلٍ ما. ذكرياتُه المُرّة حلوةٌ هي أيضًا لأنها انقضتْ؛ لذا فالماضي يستدعي حنينًا كامنًا فيه بالقوة. يتحدّث إيتالو كالفينو، في المدن اللامرئيّة، على لسان ماركو بولو، عن مدينة ماوريليا، التي يُدعى المسافرُ إلى زيارتها، ويُدعى ـــ في الوقت ذاته ـــ إلى تفحّص بطاقاتٍ بريديّةٍ توضّح كيف كانت قديمًا؛ فيعترفُ بأنّ عظمةَ حاضرة ماوريليا، مقارنةً بماوريليا الريفيّة القديمة، “لا يمكن أن تُعوِّضَ من بهاءٍ مفقودٍ لا يمكن إدراكُه الآن إلّا في البطاقات البريديّة القديمة”؛ أمّا في السابق، عندما كانت ماوريليا الريفيّة أمام عين المشاهد مباشرةً، “فإنّه لم يكن ليجدَ فيها أيَّ شيءٍ بهيٍّ على الإطلاق.” والنتيجةُ أنّ البطاقات البريديّة لا تصوّر ماوريليا كما كانت، بل تصوّر “مدينةً أخرى، كان اسمُها ـــ للمصادفة ـــ ماوريليا، مثلَ هذه.”

ماوريليا جبرا، إذا جاز التعبير، كانت دائمًا بيتَ لحم طفولتِه، يبحث عن خلاصه في بطاقاتها البريديّة القديمة، ويتوارى بطلُه (هو) فيها، من دون أن تُفلِح محاولاتُ الكشف عن أسرار غيابه، وسيعودُ يومًا ـــ كالمسيح ـــ وتعودُ معه بغدادُ والقدسُ، مطهّرتيْن من الاحتلال والقمع والتخلّف، تتزيّنان بالموسيقى ومعارضِ الفنّ وعروضِ الأفلام وقراءاتِ القصة والشعرِ والجدالاتِ الفلسفيّة المحتدمة (في المقاهي) والنساءِ الجميلات المثقفات. لكنّ بطاقات جبرا البريديّة القديمة ـــ ويا لألاعيب الزمن الكموميّ ـــ لا تُصوّر بيتَ لحم/القدسَ/بغدادَ كما كانت، بل تُصوّر مُدنًا أخرى، كان اسمُها ـــ للمصادفة ـــ بيتَ لحم/القدسَ/بغدادَ، مثلَ هذه!

2

“رفعت الفتاةُ قدمَها وقالت: ‘انظرْ!’ فنظرتُ، ولكنْ لم أرَ فيها ما يثير، سوى إصبعِها الكبيرِ مصبوغًا إظفرُه بالأحمر، وباديًا من طرف حذائها الأنيق. فقلتُ لنفسي: فلأنصرفنّ إلى ما هو أخلقُ بالرجال. واتجهتُ نحو المدينة.” (جبرا، صراخ في ليل طويل).

المدينة هي مكانُ اغترابي الأوّل والأخير، حيث يتشوّه البشرُ، ويعزفون كلّ لحظةٍ لحنَ رجوعهم الأخير إلى ذواتهم المتفرّدة. المدينة قبرٌ كبيرٌ لفردٍ واحد. حاولتُ أن أتجاوزَه حين كتبتُ السفينة؛ ففي خضمّ أرضٍ عائمةٍ ـــ كفلك نوح ـــ على ماءٍ يفيض على مدّ البصر، يحصل ذلك التضامنُ العزيزُ، الذي سرعان ما يتفكّك وينتهي عندما تُلامس الأقدامُ اليابسة. “الناس في السّفينة يضحكون بسهولة، ويحبّون بسهولة، ويعترفون بسهولة، ثم ينسون كلّ شيء بسهولة.” (جبرا، السفينة)

حالما نطأ الأرضَ/ المدينةَ مرّةً أخرى نتبعثر ونخونُ ويَطعن كلّ واحد منّا صديقَه في ظهره. قرأتُ مثلَ هذه الفكرة في قصّةِ كاتبٍ وُلد سنةَ نُشر كتابي الحادي عشر، النار والجوهر في العام 1975، وظهرتْ سنة 2012 في كتابٍ له اسمُه أرى المعنى، بعد أن شبعتُ موتًا. يقول: “هذه المدينةُ ليست لنا: عندما يستيقظُ فيها الصّباحُ وتتحوّلُ سمائي إلى كراسٍ وطاولات، ويتحوّلُ نُدُلي المجنَّحون إلى رجالٍ ونساء، وتتحوّلُ أضوائي المتقطّعةُ إلى علبٍ سوداءَ بفتحاتٍ زجاجيّة، ينزل الجميعُ بسرعة. وفي الشارع، يرفعُ كلُّ واحدٍ منهم مسدّسهُ في وجهِ الآخر، وأغرقُ في البُكاء.”

صدق المؤلف.

هذه المدن ليست لي. ليست لنا. الفرقُ أنّني لن أرفعَ مسدّسًا في وجهها، وسأصرخ مع كارلوس ليسكانو المستيقظِ من كابوسه: “أكونُ في بيتي، وأُعتقَل. أدركُ وجودَهم أمام بيتي ودخولَهم عليّ، فأقفزُ من السرير وأبحثُ عن سلاح. أكرهُهم، أكرهُهم إلى أقصى درجات الكراهية. أبدًا، أبدًا لن يأسروني من جديد… لا أريد قتلهم، ولكنني سأجعلهم يقتلونني…” كالمسيح.

أنسحبُ إلى ذلك السَّديم الذي تتعارك فيه كراتٌ نطّاطة. سفينة على بحر. سيّارةٌ يقودها وليد مسعود بسرعة جنونيّة، في شارعٍ مظلمٍ، إلى قلب الخلاء، في ليلةٍ ممطرة. ثم يوقفها فجأةً. يَفتح بابها، ويُلقي بالراكب/صديقِه إلى قلب الظلام، ويذهب. يذهب ولا يعود. ويظلّ الخلاصُ مؤجّلًا.

هذه المدينة ليست لي. ليست لنا.

3

“وهكذا هجرنا التلالَ والوديانَ والكرومَ إلى الحيّ المظلم، بما فيه من بيوتٍ كالقبور، ومراحيضَ فائضةٍ، وهواءٍ ملوّث. فشاهدتُ ‘التقدّم’ من الأسفل، إذا صحّ هذا القول. شاهدتُه غريبًا عنه، ثم ضحيّةً له.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

سنعود إلى فيصل درّاج، لا جالسًا على شرفة المقهى كما تركناه قبل قليل، بل في كتابه، ما قبل الدولة، ما بعد الحداثة، وفيه يتحدّث بألمٍ عن أفول نجم الحداثة العربيّة في المهد قبل أن يتبلورَ مشروعُها التنويريُّ في قوّةٍ رافعةٍ لمجتمعات العالم العربيّ. في عبارة جبرا أعلاه نتلمّس التشخيصَ ذاتَه في قالبٍ نبوئيّ: فشل الانتقال العشوائيّ، الذي فرضه إفقارُ الرّيف، من القرية إلى شبهِ المدينة، من مجتمع التكافل القديم إلى مجتمع التنافس الجديد، من “التخلّف” (المستقلّ والمكتفي ذاتيًّا والقابلِ للبقاء) إلى “التقدّم” (التابعِ والمبتورِ والمشوّه). إنّه”التقدّم” من الأسفل، أو التقدّمُ مقلوبًا، أو التقدّمُ المتعلّق بالقشور/ بالسلعة، لا بالأساس/ بالإنتاج/ بالمعرفة.

يخبرنا درّاج عن مأساة المثقف التنويريّ المزدوجة. المأساة الأولى “آتية من منظور المثقف الذي يَنْقض البنيةَ الاجتماعيّة، مقترِحًا مجتمعًا جديدًا لا يوافق السلطةَ، ولا يرحِّب به الخاضعون كثيرًا…” وتأتي المأساةُ الثانية من “مكر التاريخ، الذي استَولد ـــ ولأسبابٍ متعددة ـــ مثقفًا عربيًّا، ولم يَستولدْ معه، أو له، طبقاتٍ اجتماعيّةً تحتاج الثورةَ أو تحلم بها. ولذا بدا المثقّفُ عاريًا أو شبهَ عارٍ، معلّقًا في الفراغ.” بهذا المعنى يكون التقدّمُ الذي ينادي به المثقّفُ التنويريُّ غريبًاعن المجتمع، ثم يصير ـــ وصاحبَه ـــ ضحيّةً له. ولهذا سيظلّ جبرا يحسّ بالوحدة، ويتحدّث عنها كسرٍّ يؤسِّس لغياب المُخلّص وعودتِه اللاحقة. ولهذا أيضًا يظلّ درّاج يُفضّل (مثلي) صحبةَ الكتب على صحبة ذوي العقول الفارغة، ويفضّل (مثلي أيضًا) الكتابةَ على الدخول في جدل عقيم معهم.

4

“أجترّ جراثيمَ السماء، وأدوسُ عظامَ الموتى، وأرى الجماهيرَ الجائعة تفترس ضحاياها بأنيابها، وأحسُّ بالموت يعتنق البرّ والبحر، ويملأ الفضاءَ برائحة الأجساد المتفسّخة، ويسقي الأشجارَ اليابسة من دم الشباب.. والله يقهقه طوال الليل، طوال النهار، طوال الأبديّة.” (جبرا، صراخ في ليل طويل).

لازمني إحساسٌ مبكّرٌ بعبث الوجود، عبثِ الموت، عبثِ الانتظار. ربّما لهذا عكفتُ على ترجمة في انتظار غودو، رائعةِ صموئيل بيكيت. وأمام فظائعَ لا تتوقّفُ عن التوالد، يظلّ سؤالي مستمرًّا عابرًا للأجيال: أثمّة معنى، مغزى؟ يقول العِلْم: لا. وبينما نجلس، أنا وذلك الكاتب الذي تحدّثتُ عنه سابقًا وصار الآن على تخوم الأربعين، في كرسيّ الحديقة ننتظر إجابةً أخرى، لا نسمع سوى قهقهةٍ لامبالية، فيَقرأُ لي على وقعها فقراتٍ من قصّة في كتابه، مقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل، اسمُها “الصراط”:

“في لحظة القُرب، لحظةِ النور، لحظةِ الالتحام، تشعر الأرواحُ بأقدامها ترتفع قليلًا وكأنّها تطفو؛ تحسُّ بعقلها يشعّ ويتخاطب مع المحيطِ مباشرةً، دون وسائط. تمدُّ الأرواحُ أيديَها وتصرخ: ‘هل وصلنا؟’، فيردّ الصمتُ بصوته البشع، ويسود هدوءٌ كأنّه اللاشيء. في موجةٍ من الأمل، تُغمض الأوراحُ أعينَها وتقبضُ، فيتبدّد النّورُ والقُربُ وحلمُ الالتحام. وعندما تُفتح الأصابعُ، تجد كلُّ روحٍ قلبَها النابضَ، فتعيدهُ بسرعةٍ إلى مكانه، وتتابعُ المسير. ‘تعالَ يا بُنيّ الـمُتعَبَ إلى مَن لا أوّل له ولا آخر،’ والأرواح تسير، ولا نهاية للطريق.”

لا نهاية للطريق، ويظلّ السؤالُ مستمرًّا عابرًا للأجيال. وأظلّ قلقًا في رقدتي الأبدية، أخرج بين حينٍ وآخر، لعلّ أحدَهم وجد ضالّتي فأستريح.

5

“واستجماعًا لشتات عزيمتي أشعلتُ سيجارةً، وسحبتُ منها نفسيْن عميقيْن، ثم ألقيتُ بها عنّي ورأيتُ الشّررَ يتطايرُ منها. وإذا رجلٌ ـــ متسوّلٌ ولا ريب ـــ يقفز من بين ثنايا الظلام ويلتقطها ويحشرُها في الحال بين شفتيْه. فابتسمتُ وفكّرتُ في إعطائه سيجارةً كاملة، غير أنّني وبّختُ نفسي على هذه الميوعة، واستمررتُ في المشي.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

هذا نصٌّ متفجّرٌ، حداثيٌّ، متعدّدُ الطبقات، يفتح آفاقَ المتلقّي على كثرة من الاحتمالات. إنه قصّة قصيرة جدًّا كُتبتْ، على الأرجح، قبل العام 1946، سنة نشر الرواية التي تضمّنتْه، وهي روايةٌ أعتبرُها أفضلَ ما كتبه جبرا في هذا الجنس الأدبيّ. أحبُّها لأنّها كُتبتْ بعقليّة القاصّ ومنهجيّةِ القصّة القصيرة: التكثيف الشديد مترافقًا مع حفرٍ عموديٍّ، لا استرسالٍ أفقيّ. فيها اكتشفتُ أنّ مفتتح الحداثة السرديّة صار له عندي مفتتحٌ جديد. اقرأوا معي:

6

“مشى رجلٌ نحوي وابتسم، إذ ظنَّ أنّه يعرفني، وأقبل عليّ بحرارةٍ (فأجفلتُ!)، وأمسكَ بيمناي مصافحًا، وقال: ‘أين كنتَ غائبًا؟’ ثم تعثّر وتلعثم خجلًا حين لم أستجبْ لحرارته، فأدرك أنه أخطأ في ظنّه. ‘عفوك، عفوك’ راح يكرّرها. ‘حسبتُ أنّك..’ غير أنّني لم أتريّثْ لأسمع بقيّة شرحه، وقد أدهشني أنّني أشبهُ رجلًا آخر. فقلتُ لنفسي: طبعًا الظلام.. وأشعلتُ سيجارةً أخرى.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

هذه قصّة قصيرة جدًّا مرّةً أخرى، مدهشة، حداثيّة في شكلها، وفي تركيبها داخل بنية رواية، وفي مضمونها القائم على الاغتراب ـــ وهي ثيمةٌ تنتشر داخل أعمال جبرا الكثيرة، لكنّها مكثّفة هنا إلى أقصاها: فالرجل، المقبلُ بحرارة، سرعانَ ما يرتدّ إلى موقفٍ اعتذاريٍّ كامل، وكأنّه ارتكب خطيئةً بالسلام على رجلٍ ظنّ أنّه يعرفه وتبيّن عكسَ ذلك.

يعرف جبرا ـــ الذي زار مدنَ أوروبا وعاش فيها ـــ كيف يُلقي الغرباءُ السلامَ بعضُهم على بعض، بتحيّةٍ أو ابتسامة. لكنّ الراوي هنا يضمر احتقارًا مرًّا للقادم: لم يعبأْ به أو يستمعْ إلى عذره التبريريّ. “طبعًا الظلام،” قال لنفسه. ففي النور، سيرى الغرباءُ/المغتربون أنفسَهم بوضوح، وسيتعرّفون إلى اغترابهم حين يروْن محيطَهم في الضوء، فيتأكدون أنّهم ليسوا منه وليس منهم؛ أما في الظلام، فثمّة إمكانيّةٌ للالتباس، إمكانيّةٌ لأن يمدَّ الواحدُ يدَه إلى الآخر أو إلى المحيط لوهلةٍ سرعانَ ما تتبدّد قبل الملامسة.

“يَخْلق من الشبه أربعين”: هكذا تقول العبارةُ الرائجة. لكنّ صاحبَنا المتوحّد، المغتربَ في محيطٍ من الخراب، يستغرب، بل يستنكر، أن يشبهَه أحد. كتبتُ في أرى المعنى: “صخرةُ الوعي فوق القلب ثقيلةٌ ثقيلة. أنا أحدٌ أحد، قال العارفُ وحملها ومشى.”

7

“في الصّميم نحن وحيدون. حياتنا أشبهُ بالعلب الصّينية: علبةٌ داخل علبةٍ ـــ وتتضاءل العلبُ حجمًا إلى أن نبلغ العلبةَ الصغرى في القلب منها جميعًا. وإذ في داخلها لا خاتم ثمين من خواتم ابنة السلطان، بل سرٌّ أثمن وأعجب: الوحدة.” (جبرا، السفينة)

مباشرةً خطرتْ لي صورٌ كنتُ التقطتُها لتكون غلافَ كتابي، الفوضى الرّتيبة للوجود: اللعبة الروسيّة الشهيرة، التي تشْبه العلبَ الصينيّة، مفروطةً على رخام المطبخ؛ أما اللبّ الذي لا ينقسم فضائعٌ في دوّامة القشور الأكبر:

كان غرضي أن أبيّن الرّتابة المتماثلة في أنماط الفوضى، حيث الحدثُ الفيزيائيُّ لا يشبه الحدثَ الذي يسبقه بل يكرّره في السياق العامّ، وعلى هذا انبثقتْ هندسةُ “الفراكتال” (هندسة عدم الانتظام المنتظم، أو هندسة التكرار المتغيّر) عن نظريّة الفوضى. وكنتُ أريد، من جهةٍ أخرى، الإشارةَ إلى الطبقات المتعدّدة التي تختفي خلفها حقيقةُ الإنسان المتعدّدةُ الوجوه، والكاذبةُ في أحيانٍ كثيرة. “الحقيقةُ أنّ الحقيقةَ هي كذلك حساءٌ/” يقول أدونيس، “تدخل في تركيبه/أعشابُ الألفِ اللام الكاف الذّال الباء.” في القلب منها يجلس الإنسانُ العاري، المجرّدُ من زخارفه وادّعاءاته، الإنسانُ الوحيد. وهذا الإنسانُ الوحيد، إنِ استطاع أن يلقي بأكوام الحقائق/الدوغما التي تصنع أثوابَه وطبقاتِه، ويجعلَ من قلبه داخلًا وخارجًا معًا، فسيتحوّل مباشرةً إلى المفكّر المتأمّل من جهة، والثوريّ الطليعيّ من جهةٍ أخرى، وسيحاول ـــ كما مردوخ في الإينوما إيليش ـــ أن يشقّ السديمَ الأول، ويُخرجَ الحركةَ من السكون.

8

“وأنا بين الناس وكأنّني لستُ منهم، أسمعُهم ولا أفهمُهم، أكلّمُهم ولا يفهمونني، والحركة بينهم أشبهُ بالسير في الوحل اللزج إلى ما لا نهاية.” (جبرا، يوميّات سراب عفّان)

في تمرينٍ فكريٍّ درجنا على ممارسته أسبوعيًّا، ألقى فيصل درّاج سؤالًا ـــ قنبلةً مِن على شرفة المقهى: “كيف تعمل على تحرير مجتمعٍ تكرهُه، وأناسٍ تكرههم؟” لحسن الحظّ لم يكن حولنا زبائنُ كثيرون، فلم يُصبْ أحدٌ بأذًى. ولمّا صرنا في حيرةٍ من أمرنا جاءتنا ثريّا الريّس بإجابةٍ مقترحة: “عندما يتحرّر الناسُ، يتغيّرون إلى الأفضل. هذا هو ما يدفعُنا: التغييرُ، أو بالأحرى: الأملُ في التغيير.”

أما أنطونيو غرامشي، الجالسُ على طاولة مجاورة يسترق السّمعَ، فضبط نظّارتَه ذاتَ العدستيْن المستديرتيْن، وحدّثنا عن الإنسان الشعبيّ الذي يمتلك وعيًا متناقضًا، فقال:

“الانسان الجماهيريّ [الشعبيّ] يمارس عملًا، لكنّه لا يعي عملَه وعيًا نظريًّا واضحًا، مع أنّ هذا العمل الذي يبدّل العالمَ هو في الوقت نفسه معرفةٌ بالعالم، [لكنّ] وعيَه النظريّ قد يكون مضادًّا لعمله تاريخيًّا. فيمكن القولُ إنّ عنده وعييْن نظريّيْن (أيْ وعيًا [واحدًا] متناقضًا): أحدُهما وعيٌ يتضمّنُه عملُه ويجعله يتّحد بأعوانه اتحادًا حقيقيًّا في سبيل التبديل العمليّ للواقع؛ والآخرُ وعيٌ سطحيٌّ أو لفظيّ، ورثه عن الماضي وقبله بلا نقد.”

ها قد حلّها غرامشي إذًا: تدميرُ الوعي السطحيّ عبر نقده في الواقع، على الأرض. وبذلك يُلغى التناقضُ المزدوج: الكامنُ في وعي الجمهور، والكامنُ في وَحدة المثقّف.

يستدرك جبرا ويلتقطُ هذا التناقض: “ومع ذلك، أولئك هم الناس الذين تأمّلتُهم في حياتهم، وأشفقتُ على مصيرهم، والخوفُ والقلقُ كامنان في عيونهم. لقد جلستُ شهرًا بعد شهر، كنبيّ أثقلتْ كاهلَه السّنون، أفكّر في أوصابهم. لا ريب أنّني إنّما رأيتُ في شقائي شقاءَ البشرية، فبقيتُ أطيلُ النظرَ فيه.” (صراخ في ليل طويل). وهو بلا شكّ يقترب اقترابًا شديدًا من مثقف غرامشي العضويّ.

9

“الكتابة المأجورة للصحف؟ لقد جرّبتُها. لا خير فيها ولا تسلية. فلا أنت ترفّه عن الجماهير، ولا أنت تسرّ نفسَك. وعندما تحصل على النقود، فالأرجح أنك تنفقها على أتفه الأشياء. ولذلك فإنني أفضّل اللعبَ بأنفي.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

“إذا لم يكن الفنّ متّصلًا بجحيم النفس، فإنّه لن يتّصل بفراديسها. الفنّانون الذين يستجيبون دائمًا لما يريده الناسُ طرّاشون، صبّاغون، بغايا، سمّهم ماشئتَ.” (جبرا، السفينة)

الصدقُ ثوريٌّ دائمًا، وكذلك الاتّساقُ مع الذات، وامتلاكُ المشروع/ الرؤية/ الحلم، سواء تعلّق الأمرُ برسم لوحة، أو اتخاذِ خيارٍ اجتماعيّ، أو مجرّد اللعب بالأنف. واضحٌ أنّ جبرا حسم موقفَه من “المثقف” الانتهازيّ، واختار (كما يشهد له عبد الرحمن منيف) الخروجَ عن السّرب، ورفضَ الدّخالة بالمفهوم القبليّ. في عالمنا العربيّ المعاصر تتعدّد اليافطاتُ كثيرًا: حزب، جمعيّة،…؛ لكنّ الجوهر يظلّ موحّدًا: قبيلة، تجمعها العصبويّةُ والمصالحُ الأنانيّة والحفاظُ على مناطق النفوذ الصغيرة. نبذ جبرا القبيلةَ (فلسطينيًّا وعراقيًّا)، وانحاز إلى الجديد والمتمرّد في الفنّ والأدب.

أمّا إنْ تأملتم حالنا الآن، حيث السائد أنّ “المثقف” تابعٌ للسلطة، متسوّلٌ على بابها، مفذلِكٌ لفظائعها، فستستنتجون جمودَ زمننا عند نقطةٍ خبِرها جبرا جيّدًا، وقاومَها بحلمه، جريًا على عادةِ مَن عشِقَهم من الرومانسيين الإنجليز. وستعرفون كيف يظلّ هذا الرجلّ راهنًا، شابًّا. وستعذروننا إذ نحتفي به بعد أكثر من عشرين عامًا من موت

10

“وقد لازمتني تلك الزهورُ الخياليّة أيّامَ كنتُ لا أرى في أحياء المدينة القديمة أثرًا لشجرةٍ أو زهرة. فكنتُ أذهب إلى المدرسة، وألتهُم كلّ كتابٍ يقع في يدي، وأغذّي حلمي الصغيرَ عن الزهور سرًّا لئلّا تقضي عليه الجدرانُ الطاعنةُ المتداعيةُ حولي.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

ثمة شيءٌ آخر يمتلكه جبرا، سابقٌ لعصره، بل لعصرنا أيضًا: حساسيّتُه الحادّة تجاه كلّ ما يتعلّق بالطبيعة وأشيائها؛ بداياتُ وعيٍ إيكولوجيّ متقدّم، يبدو غريبًا على مَن تأثّر بالمسيحيّة، التي ـــ شأن بقيّة الأديان الإبراهيمية ـــ تجعل الإنسانَ علّة الكون ومركزَه، وتسخّر جميعَ الأشياء لخدمة احتياجاته ورغباته ونزواته. ولعلّنا نتذكّر التصوّرَ القديمَ للكون، حيث الأرضُ في المركز (لأنها مُستقرُّ الإنسان)، بينما تدور الكواكبُ والأفلاكُ والنجومُ حولها، منصاعةً لـ “صورة الله”؛ في حين يحتقر المؤمنُ “دارَ الفناء” الزائلة هذه، ويضع نصب عينيه “دارَ البقاء.”

لا نجد مثلَ هذا عند جبرا، بل نجده يتعامل مع الطبيعة انطلاقًا من مدرسة وحدة الوجود، حيث الإنسان جزءٌ صغيرٌ من كيانٍ عضويّ متشابكٍ مترابط، كلُّ عناصره مهمّةٌ يؤثّر بعضُها في بعض. ونجد تناسخاتٍ مختلفةً لهذه المدرسة في معتقدات سكّان “العالم الجديد” الأصليين، وفي البوذيّة والهندوسيّة وبعضِ أشكال الصوفيّة.

مثلُ هذه الفكرة الجوهريّة والطليعيّة في آن ما تزال غائبة عن الغالبيّة، أعامّة كانوا أمْ “مثقفين،” فيُلقون أعقابَ سجائرهم من نوافذ السيّارات، ويحرقون الغابةَ بدلًا من حرق المدينة.

11

“سأحرق كلَّ هذه الأوراق. سأحرقُها الآن (…) وفي تلك اللحظة سمعتُ دويّ انفجارٍ شديد، اصطكّت له أسناني، واهتزّت به الأرضُ تحت قدميّ. ونظرتُ من النافذة، وإذا النهار قد انبلج رماديًّا، صافيًا، ولم أكن قد لاحظت ذلك.” (جبرا، صراخ في ليل طويل)

النهار يطلع بعد الحريق. وهاجسُ الحريق حديثٌ دائمًا، وراهنٌ دائمًا. وربما كان هذا الهاجسُ الغاضبُ الساخطُ على الواقع هو ما دفعني إلى الكتابة بعد أن تأثّرتُ بموسيقى الروك والميتال الغاضبة، وتعرّفتُ بعدها إلى كاتب “اليأس والقسوة” الأوّل بلا منازع، حيدر حيدر، الذي لا يتوقّف عن التبشير بالحريق: “فهل تحترق الغابةُ العربيّةُ ليخرجَ من رمادها عصرٌ مضيءٌ آخر، أمْ أنّنا مقبلون على مزيد من الكوارث والانهيارات التي ستقذف بنا إلى حواف الانقراض؟”

في رواية جبرا الأولى تحرق “ركزان” أوراقَ أجدادها، تحرق عبءَ الماضي وآثامَه وقيودَه، وتحرق قصرَها/قصرَهم. فالتحرّر من الماضي هو شرطُ الحاضر والمستقبل؛ ومن تحت رماد الحرائق، تصعد العنقاء.

12

“وسيجيء يومٌ بعد أقلّ من سنة، سأجد فيه مَن يُذكّرني بأنّ الذي يسير بين الناس بلا قناع، كأشخاص لوحتي، عليه أن يدفع الثمنَ غاليًا.” (جبرا، شارع الأميرات)

ثمّة عجوزٌ يبيع مقتنياته ليستمرّ في الحياة. يتراءى له شيلي كإيقونةٍ مقدّسة، وجهُه منطبعٌ مكانَ وجه المسيح وسط الهالة الذهبيّة، تحفّ به الملائكة. المسيح السائر على درب الجلجلة حمل الصليبَ على ظهره؛ وصاحبُنا حمل التفاؤلَ بقادمٍ سيأتي حتمًا وقريبًا.

حدّثني صديقي القاصّ إبراهيم صموئيل عن انهيار اليقين، وما يصاحبه من يأسٍ يطاول الكتابةَ والفنّ، فيَظهر بيّنًا لمعانُ لاجدواهما أمام واقعٍ لا يتوقّفُ عن تصعيد مأساويّته. لعلّ جبرا، كإبراهيم، دفع الثمنَ غاليًا عندما شاهد عالمَه الأنيقَ يتفسّخ ويتعفّن، فانتزعه قطعةً قطعةً وألقمه النارَ التي تدفّئه. لكنّني أطمئنهما معًا: نحن وُلدنا في عصر الانهيار، لكنّنا لا نبشّر بالحريق كما فعل حيدر، بل نسعى إليه ونكمله إلى نهاياته السعيدة. لوحتُنا ـــ ويا للأسف ـــ لن يرسمها عاشقٌ يطنّ قلبُه بين فتاتين، بل يفرش عليها ماليفتش مربّعَه الأسود، ويمزّقها فونتانا بسكّينه، وأمدّ أنا يدي في جرحها المفتوح وأوغل في دمها. لا ننفكّ عن السير، لكنّنا نتابعه من منطلقاتٍ يحْكمها التشاؤمُ. غير أنّ التشاؤم هو أشدّ أنواع التفاؤل قدرةً على النقد والمواجهة والاحتمال. التشاؤم هو الأمل. هذا وعدي إليك يا جبرا. نم مرتاحًا.

عمّان

الإحالات حسب ورودها في النصّ:

جبرا إبراهيم جبرا، شارع الأميرات، تقديم: عبد الرحمن منيف (بيروت: دار الآداب، 2012، ط 2).

جبرا إبراهيم جبرا، البئر الأولى (بيروت: دار الآداب، 2009).

Italo Calvino, Invisible Cities – New York: Harcourt, 1972

جبرا إبراهيم جبرا، صراخ في ليل طويل (بيروت: دار الآداب، 2003).

جبرا إبراهيم جبرا، السّفينة (بيروت: دار الآداب، 2008، ط 5).

هشام البستاني، أرى المعنى (بيروت: دار الآداب، 2012).

كارلوس ليسكانو، عربة المجانين: سيرة السجن، ترجمة: حسين عمر(بيروت ـــ الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2007).

جبرا إبراهيم جبرا، البحث عن وليد مسعود (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1989).

فيصل درّاج، ما قبل الدولة، ما بعد الحداثة (عمّان: أزمنة، 2011).

هشام البستاني، مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل (القاهرة: دار العين، 2014).

هشام البستاني، الفوضى الرّتيبة للوجود (بيروت: دار الفارابي، 2010).

جايمس غليك، نظريّة الفوضى: علم اللامتوقّع (بيروت: دار الساقي، 2008).

أدونيس، “الآلة حيوان آخر والعمل يموت،” دبي الثقافيّة، العدد 110، يوليو 2014، ص 13.

جبرا إبراهيم جبرا، يوميّات سراب عفّان (بيروت: دار الآداب، 1992).

جاك تكسيه، غرامشي: دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم مخّول، مراجعة جميل صليبا (دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، 1972).

حيدر حيدر، أوراق المنفى: شهادات عن أحوال زماننا (بيروت: دار أمواج، 1993).

عن الاداب.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.