حكايةُ قرية لبنانية جنوبية على حدود التاريخ / موسى عباس
موسى عبّاس ( لبنان ) – الثلاثاء 26 / أيار ( مايو ) / 2020 م …
منذ زمنٍ مضى لم يتآكله الدهرُ بعد ، تواطأ التاريخ والجغرافيا على أمانٍ وأحلامٍ كانت تترعرعُ في جنباتِ ربوةٍ عامليّةٍ وادعةٍ ترنو إليها جبالُ جليل فلسطين منقمّة”سَعسَعْ”.
كانت تغفو على أصوات “بنات آوى” ويمتشِقُها الفجرُ على موسيقى إلهيّةٍ تنبعث من حناجر البلابل والشحارير تسبّحُ الخالقَ
الذي أودعها سرّاً لم يكن يفقهَهُ إلّا نبيّ الله “سُليمان الحكيم”.
كان يلتحفُها “التينُ والزيتونُ وطورُ سنين”
وسندِيانٌ معتّقٌ وكرومُ عنبٍ تحتضنُ عناقيدَ تتدلًى حبّاتُها كضروعِ الضأن،وأريافُ من شُجيرات رُمانٍ أكوازُها تماثِلُ نهودَ العذارى ، تحميها أشواكٌ تنغرسُ في جسد من يتجرأ على قطافِها.
واحدةٌ من تلك القرى العاملية الهادئة المجاورة لأنجسِ المخلوقات وأحقرهم الذين إغتصبوا أرضاً كانوا رفضوا أن يدخلوها ” إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا نحن ها هنا قاعدون “،ولكن بعد آلاف السنين أُدخِلوا إليها بقوّةِ المستعمرين .
وفي ليلةٍ باردةٍ ظلماء من ليالي تشرين الثاني عام 1976كان موعدٌ مع مرارة رحيلٍ لم ينتظره أحدٌ من أبنائها .
رحلوا بعد مقاومةِ ثلّة من شرفائها ما امتلكوا يومها سوى الإيمان والصبر وبِضعةٌ من قطعِ سلاحٍ لم تُسمِن ولم تُغنِ في مواجهةِ المدافع والدّبابات المتسلّلة بعد قصفٍ عنيف استمرّ لأيّام وليالٍ ، وبعد حصارٍ استمرّ لأشهرٍ نفذّته أيادي عملاء أذلّاء من أبناء قرى مجاورة وما أنجدها يوم ذاك لا حليف ولا صديق.
ودخلوها مرتكبين مجزرةً يندى لها الجبين.
هُجّر الكِرام الذين أبوا إلا أن يكونوا مثالاً وقُدوةً ليس لأبنائهم ولأحفادهم ولمن تبعهم إلى يومِ الدّين وإنّما لجميع الشرفاء على إمتداد الوطن والتاريخ ،رفضوا العمالة والخسّة فدفعوا الثمن غالياً جدّا، ولكنّ ذلك الثمن لم يكن أغلى من كرامتهم ، وهل للكرامة من ثمن؟!
لم تكن تلك المرّة الأولى في تاريخ “حانين” التي تتعرّض فيها للغزو والإحراق والتهجير ، ففي العام 1920 يعني منذ قرنٍ من الزمن غزاها الإحتلال الفرنسي وعملاؤه وأحرقوها ودمّروا منازلها وهجّروا أهلها ولكنّهم أعادوا بناءها من جديد.
وتكرّر فعل التهجير والإحراق والتدمير من جديد في السادس عشر من شهر تشرين الثاني من العام 1976 على أيدي الصهاينة والعملاء من القرى المجاورة .
ومرّت السنون تُزاحمُ بعضها البعض وتشتّت شملُ الأهل والأحباب في مناطق متقارِبة تقارُب الإصبعِ للإصبع وأخرى متباعدةٍ تباعد القارّات.
لكنّ “حانين” لم تبتعد ولو لطرفةِ عينٍ لا عن العقول والقلوب ولا الأيادي ، حيث بقيت مزاراً لثلّةٍ من المناضلين المقاومين من أبنائها الذين كانوا يذيقون الصهاينة وعملاءهم مُرّ الكمائن والعبوّات .
وسقط غالبية الجنوب تحت سطوة الإحتلال بدايةً في آذار من العام 1978 ولاحقاً معظم لبنان في حزيران من العام 1982.
وبزغ فجرُ مقاومةٍ جديدة أشدّ ساعداً وأقوى عزيمة وكان لأبناء “حانين ” شرف الإنخراط
بدايةً في صفوف المقاومين من أحزابٍ يساريّة كانت تتقدّم صفوف المواجهة مع الإحتلال وعملائه على مساحة تمدّدهم من قلب العاصمة وصولاً إلى حدود فلسطين ، ومن ثمّة لاحقاً في صفوف المقاومة الإسلامية .
وسقط الشهيد تلو الشهيد من “حانين”كما من كلّ جغرافيا العزّة والشرف على امتداد مدنٍ وقرى رفضت الإستكانة والذلّ فتكاتف أبناؤها راصّين صفوفاً ما تزحزحت قيدَ أنملةٍ عن مواقع الفِخار والكرامة رافعين شعار “الشهادة طريق النصر” ، سقط شهداء وجرحى رووا بدمائهم الزكية أرضاً تدنّست برجس الإحتلال والعمالة فطهّروها فكانت دماؤهم قُرباناً مقدّساً على مذبح التحرير وأثمرت نصرِ أيار العام 2000.
وعاد الأحياء من أبناء حانين بعد 24 عاماً من المعاناة التي كان أقساها رحيل عشرات الأعزّاء من الأهل الذين كانوا يتوقون للعودة وحلمُهم أن يُدفنوا في ثرى بلدتهم فكان رحيلهم قبل التحرير غصّةً في قلوبهم وقلوب أبنائهم وأحفادهم الذين غرسوا فيهم بذرة الكرامة والعزّة وأنّ الأرض والعرض صِنوان وأنّ التضحيات مهما غلت تبقى رخيصةً دونهما وأن من يتخلّى ويتخلّف عن المساهمة في أداءِ دوره لا حقّ له في الحياة.
دمرّها الإحتلال والعملاء وجهدوا في إخفاء معالمها بحيث لم يُبقوا على أثرٍ لحدودِ منزلٍ او حقل ، لكنّ إرادة الحياة أقوى من جبروت الطّغاة .
وهل هناك أعظمُ من طعم النصر ؟
ها هي تلك الربوة الشمّاء الأبيّة التي أبى أيٌّ من أبنائها أن يبيعها ب”ثلاثين من فضّة ” الذُلّ والعمالة وبعد خمسةٍ وعشرين عاماً من التحرير ترفُل بثياب العزّة والكرامة و لن يطأ أرضها بإذن الله غازٍ أو مُحتل طالما أن أحرارها الأبطال يحرسونها بأهداب عيونهم جيلاً بعد جيل.
التعليقات مغلقة.