(أم هارون) أرمنية مسيحية وليست يهودية / داود عمر داود
تبييض صورة الإسرائيلي
أما الآن وقد انقضى موسم الدراما الرمضانية، فقد انكشف التلفيق الذي مارسه صناع مسلسل (أم هارون). إذ تبين أن الشخصية الرئيسية، القابلة (أم جان)، التي حولت كاتبة المسلسل إسمها الى أم هارون، لم تكن يهودية، بل كانت أرمنية مسيحية، من الطائفة الارثوذكسية، كباقي الأرمن. ولقد استعملت الكاتبة نفس الصفات الطيبة لـ (ام جان)، ونقلتها إلى شخصية (أم هارون)، من أجل أن تخدم غرضاً سياسياً، هو تبييض صورة الإسرائيلي في وجدان المشاهد العربي، من مجرم حرب، قاتل قذر، معتدي أثيم، محتل، غاصب لفلسطين، إلى صورة إنسان محترم، صاحب أيادي بيضاء، يخدم الناس بمحبة وإخلاص. وهذه صفات إيجابية تمتعت بها (أم جان)، القابلة والممرضة المحبوبة، التي عرفها أهل البحرين، وتتذكرها الأجيال إلى اليوم.
كيف أصبحت الأرمنية صارت يهودية؟
لهذا استغل المسلسل سمعة (أم جان) الطيبة، وجعل منها شخصية يهودية، رغم انها الأرمنية، من جذور تركية، ورغم أن إرتباطاتها كلها كانت مع الهند، بلد زوجها المسيحي. فلا يوجد، في سيرتها، ما يمت لليهود بصلة.
ولقد أوردت كاتبة المسلسل، نانسي إيلي يوسف خضوري، اليهودية البحرينية، في كتابها، (من بدايتنا إلى يومنا الحاضر)، قصة (أم جان) على أساس أنها يهودية الديانة، وذلك من بين مغالطات تاريخية متعددة، غرضها الإدعاء بأن حفنة اليهود، الذين جاءوا البحرين كلاجئين، هم أفضل من عاش على ثرى هذه الجزيرة الجميلة، الطيب أهلها. وهذه نظرة تكبر وإستعلاء على من استقبلوا هؤلاء المشردين، وأحسنوا وفادتهم، وأكرموهم، وقاسموهم لقمة العيش، في ظروف صعبة، وجعلوا منهم الأثرياء.
وتنفي جميع المراجع إدعاءات الكاتبة. فصاحبة السيرة، (أم جان)، ظهرت بنفسها، سنة 1977، في مقابلة مع تلفزيون البحرين، سردت فيها سيرة حياتها منذ مولدها في تركيا. إضافة إلى أن الصحف أجرت معها مقابلات، ونشرت عنها تحقيقات، تضمنت شهادات من عاصروها، وعرفوها عن قرب.
سيرة (أم جان)
ولدت الفتاة المسيحية الأرمنية (روث روزيز)، عام 1904، في قرية خارج اسطنبول. ومع بداية أزمة الأرمن، خلال الحرب العالمية الأولى، أُضُطرت بقية عائلتها إلى مغادرة تركيا، ولجأت، هي وشقيقتها وعماتها وخالاتها، أولاً إلى بلاد فارس، ايران حالياً، ومنها إلى الموصل، ثم إلى بغداد، التي كانت ما زالت تحت الحكم العثماني. ثم انتقلن إلى البصرة، محطتهن الأخيرة. وهناك مرضت (روث) فأدخلوها إلى عيادة للجيش البريطاني، حيث أعجبها عمل الممرضات، فعرضت خدماتها عليهن، فتم قبولها بسرعة. وصارت تداوم في العيادة يومياً، تعمل وتتدرب، إلى أن قررت عائلتها العودة إلى تركيا، فأبدت هي رغبة في البقاء كي تتعلم التمريض. فغادرت عائلتها وتركتها في البصرة.
الزواج من مسيحي هندي
بعد ذلك قابلت (روث) شاباً مسيحياً هندياً، زميلاً لها، يعمل في دائرة الصحة، في جيش الإحتلال البريطاني، وتزوجا سنة 1918، وصار اسمها (روث دالي)، نسبة إلى زوجها. وظلت تعمل في عيادة البصرة مدة 5 سنوات، تعلمت خلالها التمريض، والتوليد، وحصلت على شهادة بذلك، سنة 1923، ثم أخذت تعمل بعد ذلك لحسابها الخاص، فيما تعتني بإبنيها (جان) و(جميل).
الذهاب إلى ايران ثم البحرين
ولما انتهت خدمات زوجها في الجيش البريطاني، وطُلب من الأجانب مغادرة العراق، ذهبت عائلة (أم جان) إلى ايران، سنة 1937، حيث عملت هي وزوجها في التجارة، وأرسلا إبنيهما للدراسة في الهند. ولما تعثرت تجارتهما ذهب زوجها إلى البحرين، ليعمل مع شركة النفط (بابكو). ولحقت به زوجته (روث)، سنة 1938. وعملت لحسابها كقابلة، إلى أن التحقت بمستشفى النعيم الحكومي، في جزيرة المحرق، سنة 1940، وصارت تُعرف بـ (أم جان). ولما مرض زوجها، سنة 1954، أخذته إلى الهند، وتوفى هناك، وعادت هي إلى عملها في البحرين، وبقيت فيه لغاية عام 1961، حيث تفرغت للعمل الخاص. ولقد اكتسبت شهرة واسعة، واحترام وتقدير الأهالي، نظراً لمهارتها الفائقة، وخبرتها، وقلة كلامها، وعدم كشف أسرار البيوت التي تدخلها.
الإعلام سلاح فتاك
من غير المعتاد أن يتناول مسلسل خليجي مواضيع سياسية أو تاريخية أو دينية، مثلما فعل مسلسل (أم هارون)، رغم أن منطقة الخليج العربي زاخرة بمثل هذه القضايا، المسكوت عنها، التي يتم تجنب طرحها، لما قد تسببه من انقسامات، ربما تُعرض تماسك المجتمعات للخطر، وتعصف بالعلاقات بين الدول. فالكل يريد أن يحافظ على السلم الاجتماعي والسياسي في المنطقة. وبعكس ذلك تتحول المادة التلفزيونية إلى سلاح خطير، ومادة متفجرة تعصف بالجميع.
ابن السوداء
مثال ذلك، الفلم التلفزيوني الذي جرى انتاجه، أواخر الثمانينات، بتمويل خليجي، في ذروة الحرب مع ايران، بعنوان (ابن السوداء ما زال حياً)، الذي تحدث عن عبد الله ابن سبأ، اليهودي الذي يقال أنه مؤسس فكرة التشيع، ومصدر الفتن في زمانه، بهدف إسقاط القصة على شخصية آية الله الخميني. ولما استلمت الجهة المنتجة مادة الفلم، من المخرج نجدت آنزور، وضعته على الرف، وما زال على الرف، منذ ثلاثين عاماً، حيث قررت عدم بثه أبداً، خشية تداعياته السياسية.
خلاصة القول: ماذا بعد الجاهلية؟
لذلك فإن وسائل الإعلام هي سلاح فتاك، ذو حدين، إن أمسك بناصيتها مستهتر، يحولها إلى أداة مدمرة لذاته، ولمن حوله. فصار لزاماً الإنتباه إلى المضامين الخبيثة التي ترد في ثنايا أعمال درامية، على شاكلة مسلسل (أم هارون)، التي إن استمرت، فإنها ستجعل منطقتنا العربية مثل جمهوريات الموز، التي كانت تغزو بعضها إن اختلفت حول نتيجة مباراة كرة القدم. إذ يبدو أن اشتداد الصراع الدولي أعادنا، من جديد، إلى الجاهلية الأولى، وحروب البسوس وداحس والغبراء. فماذا كان بعد ذلك؟
التعليقات مغلقة.