المفكر د. أمين محمود يكتب: اليهود الروس والحل الصهيوني




د. امين محمود* ( الأردن ) – الأحد 14/6/2020 م …
* وزير أردني أسبق …

بالرغم من اهتمام البرجوازية اليهودية الغربية بايجاد حل لمشكلة اليهود الروس، الا ان اولئك الذين اهتدوا “للحل الصهيوني” لم يكونوا من البرجوازيين اليهود وحدهم وانما كانوا أيضا من بين من اطلق عليهم لقب “الصهاينة الأغيار”، ومعظمهم كان من الطبقات البرجوازية الحاكمة في الدول الأوروبية، اذ أخذ هولاء يجرون دولهم منذ مطلع القرن التاسع عشر الى التنافس في طرح المشاريع الخاصة بتوطين اليهود في فلسطين او عند الضرورة في أي منطقة من المناطق التي كانت تسعى هذه الدول الى مد سيطرتها ونفوذها عليها.

ولم يكن الهدف من وراء ذلك التخلص من عبء هذه الهجرات اليهودية الوافدة الى دولهم فقط، وانما أيضا الى ما يمكن ان يقدمه هولاء المهاجرون اليهود في المناطق التي كانوا سيستقرون فيها من خدمات جمة للمصالح الاستعمارية لهذه الدول الغربية.

ومن ناحية اخرى أخذت البرجوازية اليهودية من جانبها تسعى في أعقاب تبنيها الحل الصهيوني الى تنظيم مشاريع تهدف الى تهجير اليهود وتوطينهم في مستعمرات زراعية في مناطق مختلفة في العالم بما فيها فلسطين، وذلك لابعادهم قدر الإمكان عن أوروبا الغربية، وإيجاد حل لما كان يسمى “المسألة اليهودية” مستغلين في ذلك الذرائع الغيبية المتداولة حول موضوع الصِلة التاريخية بين يهود العالم و”ارض الميعاد” في فلسطين.

وقام البرجوازيون اليهود باستخدام العديد من المفكرين ورجال الدين اليهود للترويج لهذه الذرائع الغيبية الدينية من اجل كسب اكبر قطاع ممكن من عامة اليهود لدعم الأهداف التي كان هولاء البرجوازيون اليهود يسعون لتحقيقها من وراء تبنيهم للحل الصهيوني.

وقد تمكن هولاء المفكرون من توفير “إطار ايديولوجي” ينطوي على مفاهيم وأساطير دينية مستمدة من التراث اليهودي تحفزهم لقبول مبدأ الهجرة ومغادرة اوطانهم الأصلية والانتقال الى فلسطين حيث تمكنوا من اجلاء غالبية سكانها العرب والاستيلاء على أراضيهم وحرمانهم من حقهم في وطنهم معتمدين في ذلك على أساطير دينية مستمدة من التراث اليهودي كأسطورة “ارض الميعاد” التي لعبت دور الجاذب الأكبر لليهود الى فلسطين.

وبالرغم من كل ما سبق فان فلسطين لم تشهد طيلة قرون طويلة هجرات يهودية واسعة واقتصر الامر في تلك الفترة الواقعة في أواسط القرن التاسع عشر على جماعات صغيرة من المتدينين اليهود الذين كانوا يستقرون في الارض المقدسة ويكرسون حياتهم للصلاة والدراسات الدينية معتمدين في معاشهم على الصدقات التي كانت تصلهم من يهود الشتات.

وقد بلغ عدد اليهود في فلسطين مطلع القرن التاسع عشر حوالي ٦ آلاف شخص معظمهم من اليهود السفارديم وكان يعيش ثلثهم في القدس والثلث الثاني في صفد وأما الثلث الاخير فكان يعيش في طبرية والخليل، وقد ارتفع هذا العدد في منتصف القرن ليصل حوالي ٨٧٠٠ شخص (الياس شوباني، اسراىيل في خمسين عاما ، ج ١ ، ص ١٠٧).

وفِي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين شهدت فلسطين موجتين متلاحقتين من الهجرات اليهودية التي ظلت وتيرتها تتصاعد ويتزايد عددها بشكل متسارع حتى مطلع الحرب العالمية الاولى وتولت تنظيم الموجة الاولى (١٨٨٢-١٩٠٣) حركة البيلو وهي اسم مشتق من الأحرف الاولى للجملة التوراتية التي تعني بالعربية: “يا بيت يعقوب هلموا فنسلك نور الرب” وكانت غالبية أعضائها من طلبة جامعة خاركوف الروسية، وكانوا في البداية من اليهود الروس فقط، ثم لحق بهم فيما بعد اأعداد كبيرة من يهود أوروبا الشرقية.

وقد تراوح عدد أفراد هذه الموجة الاولى من المهاجرين بين ٢٥-٣٠ الف مهاجر معظمهم من روسيا ورومانيا وبولندا. وكان لهذه الموجة الفضل في ارساء الأسس التي قامت عليها فيما بعد الحركة الاستيطانية اليهودية في فلسطين رغم انها كانت تتصف بالعفوية وعدم التنظيم. اما الموجة الثانية من الهجرات اليهودية (١٩٠٥-١٩١٤) فهي الموجة التي جلبت المستوطنين العقائديين ممن كانوا يحملون روى صهيونية لاستكمال وضع الأسس الممنهجة للحركة الاستيطانية اليهودية تمهيدا لقيام الكيان السياسي اليهودي في فلسطين.

وكان هؤلاء المهاجرون يحملون معهم افكارا اشتراكية كان لها الفضل في خلق وتوثيق الروابط الديموغرافية بينهم وبين اوطانهم الأصلية في روسيا ودوّل أوروبا الشرقية.

وفِي حين استقر غالبية أفراد الموجة الاولى في المدن لم تتجاوز نسبة العاملين منهم في الزراعة اكثر من (5%)، نجد المنضوين تحت لواء الموجة الثانية البالغ عددهم ما بين ٣٥-٤٠ الف مهاجر يتجهون صوب الزراعة التي كانوا يَرَوْن فيها مفتاح الحل للمسألة اليهودية “وإصلاح الهرم الاجتماعي المقلوب لدى اليهود”، اذ كانت الأقلية منهم تعمل في العمليات الإنتاجية الاساسية والأكثرية في العمليات الهامشية.

ويعزو المفكر الاشتراكي العمالي اليهودي بوروخوف هذا الوضع الشاذ الى “كوّن اليهود قوما لا يملكون أرضا خاصة بهم يلجأون اليها ويستقرون فيها”. ويتضح من هذا التحليل ان بوروخوف كان يحاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، حيث خلص من تحليله الى حتمية الحل الصهيوني كوسيلة لتزويد الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة الانتاج التي تمثلها ارض فلسطين، لا سيما وأننا كنّا نرى في صفوف اليهود عددا كبيرا من المحامين والأطباء والمفكرين اضافة الى كبار المرابين والصيارفة، في حين لم تكن سوى قلة قليلة منهم من الفلاحين والعمال. (Arthur Hertzberg , The Zionist Idea ,p. 354).

وكان غالبية هولاء المهاجرين اليهود من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين عاما . وكانوا متشعبين بالافكار الاشتراكية الثورية دون ان تتوفر لهم على الصعيد العملي اَي ضمانات او مدخرات مالية تذكر ، فلجأوا من جانبهم مستخدمين مختلف الشعارات والديباجات الثورية وما توفر لديهم من قدرة واستعداد للسيطرة على الاراضي العربية وإجلاء سكانها الأصليين بحجج واهية * كالتخلف * و* ضعف الإنتاجية * وما شابه . كما اخذوا يعملون في الارض بايديهم معتقدين انهم بذلك يتحولون من شخصية هامشية غير مستقرة الى شخصية منتمية منتجة وذات قيمة إنسانية .

وتبنى هولاء المهاجرون اليهود مبدأ الملكية الجماعية بدلا من مبدأ الملكية الخاصة ، واعتمدوا في نجاحها على تطبيق استراتيجية * الضرورة * ومبدأ * من كل حسب طاقته الى كل حسب حاجته * ( ياسر العظمة ، اليسار الصهيوني ، ص ٦٣-٦٤ ) . وقد قدر لهذه الموجة ان تصبح اكثر روافد المنظمة الصهيونية العالمية قوة وتاثيرا على الصعيدين السياسي والعملي ، وبالذات بين المستوطنين اليهود المستقرين في فلسطين الذين كانوا يعرفون * باليشوف * . ونجحت هذه الموجة بشكل رىيس – كما ذكرنا سابقا – في تشييد الأساس الذي قام عليه البناء السياسي للحركة الاستيطانية اليهودية في فلسطين . كما. نجح مستوطنو هذه الموجة في إقامة مؤسساتهم الخاصة بهم في شتى المجالات الحزبية والسياسة والثقافية والاجتماعية والاستيطانية وحتى العسكرية ، مما ساعد على استقرارهم وتسهيل تنفيذ مخططاتهم .

وقد خرج من بين صفوف هذه الموجة الرواد الأوائل أمثال دافيد بن غوريون واسحق زفي وليفي أشكول ، ورفع هولاء شعارهم العنصري * غزو العمل * الذي دعا الى مقاطعة الايدي العاملة العربية واستبدالها بالايدي العاملة اليهودية . * فالعمل العبري * -في نظرهم – هو الذي يودي في النهاية الى التفاعل والتمازج بين العمال اليهود و * التراث اليهودي * . كما اصر هولاء الرواد على استعمال اللغة العبرية كلغة قومية منطوقة بين المستوطنين اليهود .

وفِي ربيع عام ١٩١٧ قام بن غوريون بتاسيس حزب العمال الصهيوني الذي تبنى برنامجا يدعو فيه الى تأميم جميع وساىل الانتاج وبناء المجتمع على أسس اشتراكية بحيث يتم التوصل الى هذا الهدف عن طريق الصراع الطبقي . كما دعا بن غوريون الى تحقيق السيادة السياسية الذاتية للمستوطنين اليهود في فلسطين ، ومقاومة جميع القوى والتيارات التي تشكل عقبة في وجه الهجرة اليهودية والتي كان يتوقف عليها تقدم وتطور البروليتاريا اليهودية في فلسطين .

وكان من مساهمات هذا الحزب الصهيوني الطلاىعي ادخال الوحدة الاقتصادية التي أصبحت تعرف باسم الكيبوتز وهي عبارة عن وحدة تعاونية زراعية اقتصادية تؤمن بالملكية الجماعية وترفض الملكية الخاصة الحرة .

وقد جلب المهاجرون اليهود فكرة الكيبوتز الاشتراكية التعاونية معهم من اوطانهم الأصلية في روسيا وأوروبا الشرقية حيث كان يطلق عليه لقب الكولخوز . وقد شكل الكيبوتز صلة وصل قوية في تمتين الارتباط الطبيعي Natural Link بين المستوطنين اليهود في فلسطين ( اليشوف ) من جانب و مواطنهم الأصلية في روسيا وأوروبا الشرقية من جانب اخر . ومن الجدير بالذكر ان هذا التوجه الاشتراكي للمهاجرين اليهود ومجتمعات اليشوف في فلسطين انطلق أساسا من روسيا منذ عهد القياصرة واستمر أيضا في عهد البلاشفة .

وبالرغم من ان الاشتراكيين الصهاينة لم يتبنوا المفهوم الماركسي للصراع الطبقي ، الا ان السوفييت كانوا يتعاطفون مع الاتجاه الصهيوني الاشتراكي . ومن الواضح ان التوجه الاشتراكي بعد قيام الدولة اليهودية كان يستمد اصوله من روسيا وأوروبا الشرقية منذ القرن التاسع عشر ، مما اذ، الى اكتساب الحركة الصهيونية الاستيطانية زخما قي هذه المناطق لا سيما و ان العديد من الأحزاب الصهيونية في فلسطين أخذت تشكل لها امتدادات ومراكز تنظيمية في كل من روسيا وأوروبا الشرقية ، اضافة الى العديد من مناطق أوروبا الغربية .

وقد اعترف بوروخوف لهذه الأحزاب بفضل كبير في نشاطها ومساهمتها في * بث الروح في الأمة اليهوديه كي تعيد بناء دولتها من جديد*. ان المتأمل البسيط في مقولة * الأمة اليهودية * التي تدعي انها ظلت تنتظر وترنو ببصرها الى * صهيون * طيلة الفي عام للعودة اليه كأمة لتعيد بناء * دولتها * ، يظهر ان هذه المقولة امر لا يمكن ادراجه الا ضمن تلك التزييفات التاريخية الفاضحة التي وجدت بشكل او باخر مسارب لها في تاريخ البشرية . فإذا القينا نظرة سريعة على طبيعة الحياة التي كان يعيشها قدماء اليهود لوجدنا انها لا تعدو كونها كيانا يماثل في معالمه الاساسية تلك الكيانات التي كانت تقوم وتنشأ في عهود كانت تتسم بالحروب القبلية المتواصلةوكانت أشكال الكيانات والدويلات تتعاقب والأقوام والقبائل تتخالط فيما بينها وتنتقل للعيش من مكان لآخر .

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.