( بحث هام جدا ) … د. أمين محمود يكتب: بريطانيا وفكرة الدولة اليهودية … البداية
بدأت الاطماع الأوروبية في فلسطين تبرز تدريجيا خلال العصور الحديثة منذ منتصف القرن السابع عشر، ففي تلك الفترة كان هناك صراع مرير بين الدول الأوروبية حول السيطرة على التجارة العالمية والتحكم في طرق مواصلاتها.
وكان البيوريتانيون ( وهي حركة اصولية من رحم المذهب البروتستانتي نشأت في بريطانيا وانتقلت فيما بعد الى أمريكا وهي تعتبر الركيزة الرىيسة للمسيحية المتهودة ) لا يشكلون آنذاك الطبقة الحاكمة في بريطانيا فحسب ، وانما كانوا هم أيضا القوة المتنفذة فمنهم كان كبار التجار ورجال الاعمال . ونظرًا للصلة الدينية الوثيقة التي كانت تربط
البيوريتانية باليهودية فقد تهيأ لليهود مجال واسع للمساهمة في النشاط التجاري دون خوف او وجل من البيوريتانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم اصحاب مهمة مقدسة في بعث اليهود وتجميعهم في ارض الميعاد كخطوة تسبق المجيء الثاني للمسيح ليحكم العالم من صهيون . وهذه الفكرة كانت متأصلة في الوجدان العقائدي لرئيس إنجلترا البيوريتاني أوليفر كرومويل ( ١٦٤٩-١٦٥٨ ) والذي كان يدرك أيضا مدى الفائدة المادية التي كان بمقدور اليهود تقديمها لاقتصاديات بلده من خلال الاستفادة من خبراتهم التجارية الواسعة واتصالاتهم الدولية المتعددة .
وقد نظم عدد من البيوريتانيين الإنجليز حركة مؤيدة لليهود تهدف الى مساعدتهم على التوطن في فلسطين ، وقاموا عام ١٦٤٩ بتقديم عريضة الى حكومتهم يطالبونها ببذل المزيد من الجهدلمساعد اليهود في العودة الى فلسطين . وكان مما جاء فيها : ان من الواجب على الأمة الانجليزية ان تكون اول الناس وأكثرهم استعدادا لنقل أبناء اسرائيل على سفنها الى الارض الموعودة بأجدادهم ابراهيم واسحق ويعقوب كي تصبح إرثا أبديا لهم ( ريجينا الشريف ، الصهيونية غير اليهودية ص ٢٨ )
وبالرغم من ان هذه الحركة ودعوتها لتوطين اليهود في فلسطين لم يتمخض عنها أي نتيجة عملية الا انها كانت مؤشرا للقوى الحاكمة في بريطانيا وغيرها كي تولي فلسطين مزيدا من اهتمامها وتدرس بجدية حجم الفاىدة المجنية من وراء توطين اليهود فيها سواء كان ذلك في المجالات الاقتصادية او السياسية . وبالفعل فان فلسطين ابتداء من القرن الثامن عشر وبشكل أوضح في القرن التاسع عشر شهدت نشاطا مكثفا واكب التوسع الامبريالي الغربي قامت به مجموعات من التجار وعلماء الاثار والمبشرين والرحالة والمغامرين .
غير ان فكرة توطين اليهود في فلسطين اخدت تلقى المزيد من الاهتمام لدى الدوائر البريطانية في أعقاب االحملة النابليونية على مصر عام ١٧٩٨ حيث ادركت بريطانيا حينها مدى أهمية المنطقة الاستراتيجية من اجل تحقيق طموحاتها ومشاريعها التوسعية.
ولعل من اهم الأسباب التي أدت الى تزايد الاهتمام البريطاني بالاستيطان اليهودي في فلسطين هو ظهور محمد علي في مصر ومحاولاته التوسعية الرامية آنذاك لإقامة امبراطورية عربية قوية تحل محل السلطنة العثمانية المتهالكة . فقد تمكن بمساعدة ودعم من فرنسا ان يبني جيشا من أقوى الجيوش في الامبراطورية العثمانية ، وتم تجهيزه باحدث التجهيزات العسكرية القتالية ، وكان هذا يتعارض مع السياسة البريطانية الرامية الى عدم المساس بممتلكات الدولة العثمانية سواء كان ذلك عن طريق غزو خارجي او ثورة داخلية ، واستطاعت بريطانيا بالتعاون مع حلفائها وقف التوسع المصري وإرغام محمد علي على سحب قواته من سوريا وحصر نفوذه بمصر يحكمها هو وأسرته كمنحة من السلطان العثماني . وقد ادركت بريطانيا بعدها ان وجود طائفة تعتمد عليها في المنطقة أمرا في غاية الأهمية بالنسبة لمصالحها هناك وخاصة ان فرنسا كانت تتمتع منذ عام ١٥٣٥ بحق حماية الكاثوليك وروسيا منذ عام ١٧٧٤ بحق حماية الأرثوذوكس في الدولة العثمانية . اما بريطانيا فلم يكن لها طائفة او جماعة تتحيز لها او تعتمد عليها في تلك المنطقة ، ولذا فقد رأت في اليهود أقلية يمكن ان تعتمد عليها تماما كما فعلت في عام ١٨٦٠ حينما وجدت في الدروز قوة موالية لها اثناء فتنة السنين المشهورة التي ذهب ضحيتها عدد كبير من الدروز والموارنة في سوريا ولبنان ، ولَم يكن من العسير على بريطانيا ان تدرك ان بامكانها الاستفادة من التظاهر بالدفاع عن هذه الطائفة او تلك من المتحيزين لها للتغلغل داخل الدولة العثمانية والحصول على نصيبها من التركة العثمانية فيما لو تعرضت هذه الدولة الى خطر الغزو الخارجي. او الثورة الداخلية .
وقد قامت بريطانيا في يوليو ١٨٣٨ بافتتاح اول قنصلية لها في القدس ، ولَم يمض عقد من الزمن على هذا التاريخ حتى توالى افتتاح مزيد من القنصليات للدول الغربية ، واعلنت بريطانيا انها انشأت قنصليتها بهدف رعاية مصالحها في فلسطين والتي كان من ضمنها تقديم الحماية الكاملة لليهود المقيمين فيها ( I . Parkes , A History of the Jewish People, p . 183 ) ، حيث أصبحت حمايتهم تشكل عملا رىيسا للقنصلية البريطانية لفترة طويلة . ولَم يكن خافيا على الكثيرين ان تقديم الحماية لليهود لم تكن سوى وسيلة استخدمتها بريطانيا كي تتمكن بموجبها من التدخل في شؤون البلد الداخلية وتقوية مركزها أسوة بفرنسا حامية الكاثوليك وهكذا تمكنت القنصلية البريطانية اثر ذلك من إيجاد رعايا لبريطانيا في فلسطين من خلال الاستجابة بسهولة الى طلبات الحماية التي كان يتقدم بها بعض اليهود من حين الى اخر خصوصا اولئك الذين كانوا قد فقدوا لسبب ما حماية دولهم الأصلية ( صبري جريس ،تاريخ الصهيونية ، ج ١، ص ٦٣ ) .
يعتبر اللورد بالمرستون من أشد المتحمسين لفكرة توطين اليهود في فلسطين منذ توليه وزارة الخارجية البريطانية وحتى تسلمه رئاسة الوزراء فيما بعد ، حيث عبر مرارا عن اعتقاده بان بعث الأمة اليهودية سيعطي قوة للنفوذ البريطاني . وقد قام بالمرستون عام ١٨٣٩ باختيار وليام يونغ – وهو إنجيلي متدين ومتطرف – ليكون اول ممثل قنصلي لبريطانيا في القدس . وهذا يدل على ان هذا الاختيار كان يعكس الدور المؤثر لرجال الدين الإنجليز في إقناع حكومتهم منح يهود فلسطين الحماية البريطانية بحجة ضمان سلامتهم وصيانة ممتلكاتهم واموالهم . وبتوجيه من بالمرستون قامت صحيفة Globe اللندنية الناطقة باسم الخارجية البريطانية بنشر سلسلة من المقالات في نهاية عام ١٨٣٩ تدعو فيها الى تكوين دولة يهودية مستقلة في فلسطين حال توفر عدد كاف من المهاجرين اليهود يتيح لهم انشاء دولة خاصة بهم (Walter Laqueur , A History of Zionism , p43) . وقد قامت أيضا جريدة التايمز اللندنية في اغسطس عام ١٨٤٠ بنشر مقال تحت عنوان اعادة توطين اليهود جاء فيه : ان اليهود الغربيين بحوزتهم القدرة المالية على شراء او استىجار فلسطين من السلطان العثماني وارسال إعداد كبيرة من المهاجرين اليهود ليستقروا فيها شريطة ان تتكفل بريطانيا بتوفير الحماية اللازمة لهم وتمضي الصحيفة قائلة : ان قيام دولة يهودية سيفصل بين تركيا ومصر وسيدعم النفوذ البريطاني في الليفانت سياسيا وعسكريا واقتصاديا ( المصدر السابق ) .
وبمعنى اخر فان هذه الدولة المقترحة ستكون اداة لخدمة مصالح المستعمرين الإنجليز في هذه المنطقة من العالم .
وكان اللورد شافتسبوري Lord Shaftesbury ( اللورد اشلي سابقا ) الذي كانت تربطه صلة قرابة باللورد بالمرستون من ابرز العناصر البريطانية تشجيعا لهجرة اليهود وتوطينهم في فلسطين. . كما عارض شافتسبري فكرة ذوبان اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها ودعا الى تكوين دولة خاصة بهم في فلسطين . وقد لعب شافتسبوري دورا مهما في التأثير على أفكار بالمرستون تجاه هذا الموضوع . ففي اثناء انعقاد مؤتمر لندن عام ١٨٤٠ قدم له مشروعا اسماه مشروع ارض بغير شعب الى شعب بلا ارض متضمنا تبني الحكومة البريطانية اعادة اليهود الى فلسطين واقامة دولة خاصة بهم . وحذر شافتسبوري من انه لو تقاعست بريطانيا عن تنفيذ هذا المشروع فان هناك احتمالا كبيرا بتنفيذه على يد دولة اخرى . وهذا بالطبع سيهدد مصالح بريطانيا في الشرق .
ونتيجة لنفوذ وتأثير شافتسبوري ازداد بالمرستون اقتناعا بان اعادة توطين اليهود في فلسطين لن تنطوي على حسنات للشعب اليهودي فحسب ، بل للسلطان العثماني أيضا ، حيث يمكنه الاعتماد على رعاياه الجدد الذين سيعيدون في الوقت نفسه اقليما مهجورا الى سابق عهده في الرخاء والازدهار ( Parkes , p266) وتبنى بالمرستون مشروعا امام الدول المجتمعة في مؤتمر لندن يهدف الى خلق كومنولث يهودي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية . الا انه ادرك ان كسب تأييد اليهود لتقبل هذه الفكرة كان مرهونا بتهيئة الظروف المناسبة التي تمكنهم من الحصول على الارض من العثمانيين والسماح لهم بالهجرة اليها دون شرط او قيد.
ولكي يقضي بالمرستون على مخاوف اليهود ، لجأ الى ممارسة ضغوط شديدة على الدولة العثمانية كي تسمح لليهود بالهجرة الى فلسطين وشراء الاراضي فيها . وأرسل رسالة الى السفير البريطاني في الاستانة يدعوه فيها الى حث السلطان العثماني على السماح لليهود بالهجرة الى فلسطين وإقامة مستوطنات لهم فيها . وكان مما ورد في تلك الرسالة : لا شك انه يوجد لدى المشردين اليهود في أوروبا احساس قوي بضرورة العودة الى فلسطين حينما تكون الظروف مناسبة . وانه لمن الأهمية بمكان ان يشجع السلطان عودة اليهود للاستيطان في فلسطين ، اذ ان الثروات التي سيحضرها اليهود معهم ستزيد بالتأكيد من دخل السلطان . كما ان وجود دولة يهودية في فلسطين سيضمن عدم قيام مشاريع انفصالية في المنطقة قد يقوم بها مجددا محمد علي او احد خلفائه . وإنني اطلب منك بإصرار ان تقنع الحكومة العثمانية بتقديم كل التشجيع اللازم من اجل عودة اليهود الى فلسطين (I. Fiedman, Lord Palmerston and the protection of Jews in Palestine , p.31) .
ويتضح من كل ذلك ان بالمرستون كان يريد ايضا استخدام اليهود كمخلب قط لقمع السكان المحليين من العرب وكبح جماح اي مخططات قد يدبرها محمد علي او من سيخلفه في المستقبل .
التعليقات مغلقة.