قامات وهامات لن تموت … أُسودُ رام الله الخمسة – رحيل من الشرق الى الغرب / د. سمير أيوب

د. سمير محمد ايوب ( الأردن ) – الإثنين 29/6/2020 م …




قبل أيامٍ ، كنتُ في رحابِ قلعة الكرك ، ومُضيفِيَّ يحدثوني باعتزار عن ميشع الملك المؤابي العظيم ، وعن نائب القدس ابن الكرك العظيم ، المرحوم باذن الله الدكتور يعقوب زيّادين . وانتبهوا الى شرودي والغيم المتوهج في عينيَّ . فربت شيخهم على كتفي باخوة غامرة ، وبقلق سألني : إلى أين وصلت غزلانك ؟ أوصلت خليل الرحمن وعنبها وملبنها ودبسها ؟!
قلت وانا اعانق تنهيدة تتمطى في صدري المشبع بنسائم الجنوب : يا ريت يا صديقي ، فالخليل مدينة الجبارين ، والكرم الذي لا يبات في ظله جائع .
قالت كبرى بنات صديقي بحيرة مرحة : إذن الى اين وصلت يا عم ؟!
قلت وأنا انقل بصري في وجوههم ، وفؤادي غربا وفي كل مكان : إلى دوار المنارة وسط رام الله .
بدأ الرسام الشاب ابن صديقي ، يترنم وعلامات الدهشة على وجهه : وين !! ع رام الله ، ما تخاف من الله يا شيخنا !
قلت : أتدرون يا اخوتي ، أن هذه الاغنية أردنية من الأرشيف الذهبي ، للزمن الاردني الفلسطيني .عنوان لمحنتي الغربة والهوية لعرب فلسطين ، في وطنهم وفي منافيهم !!!
سارعت السيدة الفاضلة حرم صديقي ، تقول وهي اعلامية متقاعدة : نعم صدقت . فقد كانت من أبرز اعمال الإذاعة الأردنية عام 1959 . شاعت كثيرا حين افتتح المرحوم الملك حسين ، منشأة جديدة في الاذاعة الاردنية ، التي كانت غداة نكبة 1948 تبث برامجها من رام الله . ودشن المرحوم معها العمل في مبنى الاذاعة في منطقة ام الحيران في عمان . وفيما اذكر أن كلمات هذه الاغنية ، قد كتبها رشيد زيد الكيلاني ، بطلب من مدير الاذاعة المرحوم عبد المنعم الرفاعي – رئيس الوزراء فيما بعد . ولحنها جميل العاص ، وغنتها سنديانة الاغنية الاردنية سلوى العاص ( نوال العجاوي ) .
وتابعت السيدة تقول : وأذكر حين كتبها الكيلاني ، استعذب كلمات تراثية ، تحكي حوارا بين أب يتحسر على رحيل ولده ، الباحث عن الرزق وهو يسأله : ولفي يا مسافر ، وين ع باب الله ؟! تاركني ورايح ، ما تخاف من الله !!! ولأن رام الله كانت في حينها ، مصيفا لإخوة الضفتين ، طلب المرحوم ابن الكرك هزاع المجالي ، تعديل العنوان من ” وين ع باب الله ” ، الى ” وين ع رام الله ” . فصارت من حينها : إنت يا مسافر ، وين ع رام الله ؟ ما تخاف من الله ، خذيت قليبي ، وما تخاف من الله !!! ومن حينها ، تجاوز صدى هذه الكلمات عمّان ورام الله . وباتت روحها التي لم تتغير ، ثيمة خالدة للوجع الفلسطيني في كل بقاع الأرض . فهو وجع مشحون بكل معاني الفقد والحنين والامل .
قلت وانا سعيد بما سمعت : وين ع رام الله يا سيدتي : باتت ايقونة خالدة ، لم يملها الناس ولن ، رغم أنها قد ولدت ، قبل اكثر من نصف قرن من الان . وتابعت قائلا : وهناك في بعيد الزمان ، قدمت الكرك ايضا لفلسطين ، الكثير من قلبها وعنفوانه . أنصت جميع من كانوا معنا ، وجلهم من منطقة الكرك ، وعيونهم تترقب سماع المزيد .
فقلت متابعا بفرح : رام الله كما تعلمون مدينة عربية فلسطينية ، إلى الشمال من القدس . تطل غربا على الساحل الفلسطيني الذي لا يبعد عنها اكثر من 45 كلم . تغيرت أهمية المدينة من عصر الى آخر . وهي تحتل الان مركزا سياسيا ، يجعلها من اهم مدن فلسطين ، بعد ان اتخذ الاسلويون منها ، عاصمة ادارية وثقافية مؤقتة لهم .
رام الله كلمة كنعانية تعني المنطقة المرتفعة . تضاربت الأقوال حول تسميتها . إلا أن الثابت تاريخيا ، أنها أسست على يد الشيخ راشد الحدادين ، أحد مشايخ العشائر العربية في الكرك . الذي قرر إثر خلافات عشائرية في القرن السادس عشر ، الجلو عن موطنه غربا . دخل على أهل البيرة ، فرحبوا به . وأشارو عليه بخربة حرجية مجاورة لهم اسمها رام الله ، لتكون موطنه . اشترى الشيخ راشد الخربة من عائلات البيرة القدامى ، دون أن يعلم أنه كان يؤسس لمدينة سيكون لها دورا هاما في تاريخ الفلسطينيين .
ولكن الشيخ الحدادين ، الذي نجح في موطنه الجديد ، لم يفارقه الحنين لمسقط رأسه ، فقرر العودة إلى الكرك . تاركا وراءه أبناءه الخمسة وهم : صبرة ، وإبراهيم ، وجريس ، وشقير ، وحسان . أجداد العائلات المعروفة بأسماء : آل يوسف، وآل عواد، وآل الشقرة، وآل الجغب، وآل عزوز .
تنتصب الآن في مستديرة المنارة ، وسط مدينة رام الله ، خمسة تماثيل من الأسود ، ترمز لأبناء الشيخ راشد الحدادين . وتجسد تاريخ المدينة وأصول عائلاتها .
هناك مطالبة حثيثة الآن ، لتشييد نصب تذكاري يليق بمؤسس المدينة . تكريما له ولتعريف الأجيال المعاصرة والقادمة ، بفضله في تأسيس مدينة الحكايات والنضال المتصل ، حول ضفتي نهر الاردن ، من اجل تحرير كل حبة تراب في فلسطين .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.