الطاهر المعز يكتب : الجزائر، على هامش ذكرى الإستقلال (05 تموز/يوليو 1962 – 2020 )

تحرير الجزائر.. بين صفعة "الباي" وبنادق الثوار

الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 5/7/2020 م …

لا تتطرق هذه الورقة، بعمق، إلى تاريخ الجزائر، أو وقائع النضال الوطني من أجل التحرير والإستقلال، وإنما تقتصر على بعض هوامش الوضع الحالي، باعتبارها مُؤشِّرات قَدْ تُؤثّر في مُستقبل البلاد ومواطنيها، وكذلك مُحيطها، تونس والمغرب، بشكل خاص، وكان هذا المُحيط (مع مصر آنذاك) أكْبَر سند للمقاومة الوطنية التي أدّت إلى استقلال البلاد.   




يُعْتَبَرُ استقلال الجزائر محطة هامة، في تاريخ الجزائر، وفي تاريخ الشّعُوب الواقعة تحت الإستعمار والهيمنة الإمبريالية، حيث اعتبرت فرنسا أن الجزائر فرنسية، منذ العام 1830، ودامت فترة الإحتلال 132 سنة، وبلغ عدد الشبان الفرنسيين الذين وقع تجنيدهم، أثناء سنوات حرب التحرير، أكثر من مليونَيْ مُجَنّد، واستقلت الجزائر، رغم ميزان القوى المُخْتل.

تُوفّي جيل حرب التّحرير، ويُطالب جيل أبنائهم وأحفادهم بحياة أفْضَل، وهم على حق في ذلك، فالجزائر غنية بثرواتها ولكن لم يستفد المواطنون، من توزيع العائدات، باستثناء فئة صغيرة من “المَحْظوظين”، أي من البرجوازية (العسكرية والمَدَنية)، وتواصلت الهجرة المُكثفة القانونية وغير القانونية (أو ما يُعبّر عنه في المغرب العربي ب”حَرْق الحدود”، أي العبور خلسةً إلى أوروبا، عبر البحر الأبيض المتوسّط ) نحو الدولة التي كانت تستعمر البلاد، واستمرت سيادة اللغة الفرنسية (واللغة ليست وسيلة تخاطب واتصال فحسب، بل هي وعاء ثقافي وحضاري) في البلاد، بعد قرابة ستة عُقُود من الإستقلال، وتتهدد البلاد انقسامات حادّة، تُغذيها الإمبريالية، وحركات رجعية انفصالية في شمالها وفي جنوبها، فيما تُحيط بالبلاد دول يحكمها الإخوان المسلمون، أو دول نجحت الإمبريالية في تفتيتها وفي إغراقها في “الفوضى الخَلاّقة”، كما وعد تيار “المحافظين الجدد”، السائد في الولايات المتحدة…

تُحيي البلاد، للسنة الثانية على التوالي، ذكرى الإستقلال في ظل حركة احتجاجية، كانت بداياتها مفهومة، ثم غرقت في الضّبابية، وفي ولاء بعض مُكوناتها للقوى الخارجية، واستغلت الإمبريالية الأمريكية والفرنسية الفُرْصَة لفرض شُروط تدعم هيمنة شركاتها على ثروات البلاد، واستخدمت هذه القوى الإمبريالية “القوة الناعمة”، لحد الآن، للتدخل عبر بعض أطراف الحركة الإحتجاجية، بواسطة شراء الذّمم ورشوة بعض الرّموز، كما تفعل منذ العشرية المُظْلِمة (1990 – 2000)، فأنشأتْ أو اخترقت بعض منظمات ما يُسمّى “المجتمع المدني” أو المُنظّمات “غير الحكومية”، عبر التمويل والإعلام، ونجحت إلى حدٍّ مَا في إحلال الفوضى والغُمُوض داخل صفوف التقدّميين…       

تقويض الدّول من الدّاخل، أداة هيمنة “ناعمة”:

عندما يتناول أحدنا موضوع المؤامرات التي تُصممها وتشرف على تنفيذها الإمبريالية (الأمريكية والأوروبية)، يتهمنا البعض بالمبالغة (وهي عبارة مُلَطّفة لإخفاء اتهامنا بالكذب، واختلاق أو تزييف الوقائع) فهل هي من نسج خيالنا، أم هي ترويج ل”نظرية المُؤامرة”، كما أصبحت تُسمّى تَهَكُّمًا، وذلك تَجَنُّبًا لمُقارعة الحجة بالحُجّة، والرّدّ على ما نُقَدّمُهُ من وقائع ووثائق…

جرّبت الإمبريالية الأمريكية، عبر وكالة الإستخبارات المركزية (سي آي إيه) ما أصبحت تُسمى “الثورات المُلَوّنة”، في بولندا، منذ بداية عقد الثمانينات من القرن العشرين، بواسطة قيادات الكنيسة الكاثوليكية، والإتحاد الدولي للنقابات الحُرّة (International Confederation of Free Trade Unions – ICFTU  ) الذي أسّسَتْه وكالة المُخابرات، كمنصة نقابية عُمّالية، مناهضة للشيوعية، ومُعادية للإتحاد العالمي للنقابات، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (سنة 1949)، ثم استخدمت الولايات المتحدة اساليب “الإندساس” والرّشوة لتقويض النظام في الإتحاد السوفييتي، الذي نَخَره الفساد والتناقضات من الدّاخل، وما انفَكّت وزارة الخارجية ووكالة الإستخبارات وغيرها ( في الولايات المتحدة) تُطَوِّرُ تقنيات وأساليب الإطاحة بالأنظمة، والحُكومات المُصَنّفة “مُعادية”، أو التي لم تَعُدْ في حاجة إليها…

أهم المنظمات الأمريكية المُشاركة في تصميم وتنفيذ “الثورات المُلَوَّنَة”:

أسست وزارة الخارجية الأمريكية، سنة 2000، مركز “كنفاس” (لتطبيق أساليب الإطاحة بالأنظمة، دون عُنف ظاهر، أو عبر تكتيكات “العُنْف النّاعم” ) وأنشأت منظمة “أوتبور” (مُقاومة) في بلغراد، عاصمة يوغسلافيا، بالتعاون مع وكالة الإستخبارات (سي آي إيه)، ومنظمة “جين شارب” ( أحد مُنَظِّرِي زعزعة استقرار البلدان، عبر “العنف الناعم” 1918 – 2018)، بدعم من “الوقف القومي للديمقراطية” (نيد) الذي أسسته وكالة الإستخبارات، سنة 1980، بهدف الإطاحة ببعض الأنظمة، باستخدام غطاء “حقوق الإنسان”، وبتمويل سَخِي من الكونغرس ومن الوكالة الأمريكية للتعاون الدّولي (يو إس آيد)، ومن مؤسسة “جوردج سوروس” وغيرها، ونشرت منظمة “جين شارب”، بعد وفاته، كتابًا بعنوان “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية”، يشرح أساليب التّمرّد “السّلمي”، بهدف الإطاحة بالأنظمة التي تمكنت الولايات المتحدة من إضعافها، قبل ذلك، بفضل الدّعاية المُوجّهَة، وتمويل أحزاب المعارضة الموالية لها، ومنظمات حقوق الإنسان، والأقليات الاثنية والدينية وغيرها، ( 41 مليون دولارا في يوغسلافيا سنة 2000 وأكثر من خمسين مليون دولار في جورجيا سنة 2003، وحوالي 65 مليون دولارا في أوكرانيا، سنة 2004، وأكثر من 120 مليون دولارا سنة 2014، بحسب صحيفة “واشنطن بوست” )، وتزويدها بتجهيزات الإتصال وبالهواتف المحمولة وتجهيزات الإعلام والتصوير، والتجسس على الشرطة، باختراق شبكات الإتصال الخاصة بها، بإشراف مباشر من ضُبّاط المخابرات الأمريكية، لفك “الشفرة”، وباليافطات المطبوعة وبأدوات طَبع الشعارات على الأرض وعلى الجدران، وكراء الحافلات لنقل المتظاهرين، من المُدُن والأحياء، مجانًا، وغير ذلك من المتطلّبات…

تجدر الإشارة إلى مشاركة شركات عابرة للقارات في التبرع بعشرات الملايين من الدّولارات، بواسطة المنظمات الأمريكية، لتمويل النشاط المُعادِي للحكومات التي لا ترضى عنها الولايات المتحدة، وتتضمن القائمة شركات التكنولوجيا المتطورة والإتصالات ( آبل، فيسبوك، غوغل…) وشركة التجهيزات الرياضة (نايك) وشركة “ديسني”، لتصنيع وترويج “الفنون والثقافة” الإمبريالية الأمريكية، وعبر المؤسسات “الخيرية” التي أنشأتها شركات ومصارف عديدة مثل “فورد” و “روكفلر”، و”هوليت بكارد”، وغيرها… 

في الجزائر، قَوّضت الحكومات المتتالية منذ أربعة عُقُود (منذ حوالي سنة 1980) مكاسب المرحلة السابقة، وخسر العاملون بعض المكتسبات، في ظل خصخصة القطاع العام، وغياب أو ضُعْف أدوات النضال النقابي والسياسي، واستخدمت الدّولة ريع النفط، لإثراء بعض الفئات، ولشراء السلم الإجتماعي، بإلقاء بعض الفُتات، للفئات الشعبية، وللفُقراء… لكن ما يحصل منذ شهر شباط 2019، فيما سمي “الحراك”، يُثير العديد من التساؤلات المشروعة، بشأن الشعارات (مثل “فَلْيَرْحلوا جميعا”، بدون أي بديل)، أو بشأن الأهداف (غير المُعْلَنة)، وبشأن المرحلة المُقبلة، في ظل انخفاض إنتاج النفط، بسبب نُضُوب بعض الحقول، وانخفاض الأسعار في الأسواق العالمية، منذ منتصف حزيران/يونيو 2014، وبسبب الإغراق الذي تُمارسه السعودية والولايات المتحدة (النفط والغاز الصّخْرِيَّيْن)، فهذه القوى والأحزاب لم تُقدّم برامج بديلة لبرامج ولسياسة الحُكومة.

أثارت تعليقات وانحياز وسائل الإعلام وبعض الحكومات الأجنبية بعض التّساؤلات المشروعة بشأن بعض من وقع تنصيبهم (في الخارج) كزعماء وقادة لانتفاضة الشعب الجزائري، التي انطلقت، في شباط/فبراير 2019، ضد ترَشّح عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة، بعد قضاء عشرين سنة في منصب الرئاسة، ونال بعض هؤلاء “الزُّعماء” المُنَصَّبِين شهرةً إعلامية في الخارج، وجوائز أجنبية، تثِير معظمها الشُّبهات، ناهيك عن التّمويل الأجنبي الذي يعْسُرُ إخفاء آثاره، خاصة وأن الإمبرياليين، كما الصّهاينة، بفضَحُون دائمًا “زبائنَهم”، وعُملاءَهم.

يُبَيِّنُ موقع “الوَقف القَومي الديمقراطية” الأمريكي (وهي شبكة من المنظمات التي تُمولها الحكومة، عبر وزارة الخارجية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والكونغرس ووكالة الإستخبارات وبعض الشركات الخاصة…) على سبيل المثال، ومنذ سنوات عديدة، حجم المبالغ التي أنْفَقَها “دَعْمًا” لمنظمات يَنْشُرُ قائمتها أيضًا، وهي مُبَوّبَة حسب البلد، ومنها المنظمات الجزائرية، الموصوفة ب”غير الحُكومية”، ولكن الموقع الذي أعلن تسديد وقف “نيد” 291 ألف دولارا، لمنظمات جزائرية، سنة 2019 (سنة “الحراك”) تراجع وأحجم عن نشر أسماء المنظمات التي استفادت من المال الأمريكي الفاسد، أو الرّشوة السياسية، وقد يكون ذلك بطلبٍ من قادة هذه المنظمات، وأظْهرت بيانات غير رسمية حصول منظمات “شبابية” (يقودها كُهُول)، ومنظمات “حقوق الإنسان”، وغيرها، على مبالغ ضخمة، من الولايات المتحدة، ومن أستراليا وكندا، وجميعها مُستوطنات أوروبية بيضاء، تأسست بعد إبادة السّكان الأصليين، وكذلك من الإتحاد الأوروبي ومن اليابان، وعُرف عن هذه التمويلات التي يُسدّدها الرأسماليون، بأنها استثمارات، أو أداة هيمنة “ناعمة”، تهدف تقويض الدّول من الدّاخل، وخاصة إذا كانت هذه الدول منتجة للمحروقات مثل الجزائر التي تضم أراضيها معادن أخرى عديدة، خاصة في الجنوب، لم يقع استغلالها بعد، وتستخدم الولايات المتحدة (والقوى الإمبريالية الأُخرى) الإعلام، لبث الدّعاية المُوجّهَة، وتمويل أحزاب المعارضة الموالية لها، ومنظمات حقوق الإنسان، والأقليات الاثنية والدينية وغيرها، وسبق أن كتبت صحيفة “واشنطن بوست”، بمناسبة إحدى “الثّورات المُلونة (أوكرانيا، سنة 2014) تقريرًا عن المبالغ التي وقع إنفاقها (بين 2004 و 2014)، والأساليب التي تتوخّاها المخابرات الأمريكية، والمنظمات “المانحة” والداعمة لهذه “الثورات المُلَوّنة”…

  نَشر بعض الكتاب والمُثقفين الجزائريين بعض المقالات عن تلاعب بعض الرموز الرجعية (يحمل العديد منها جنسية المُستعمر الفرنسي)، عبر استخدامها المظاهرات الشعبية في الجزائر، للتكسّب وللحصول على منافع خاصة ( أموال أو مناصب أو شُهرة… )، ومن أهم هؤلاء الكُتاب، “أحمد بنسعادة” الذي نشر كتابا سنة 2015 عن دور المنظمات الأمريكية في تخريب الإنتفاضات العربية، وكتابا آخر، سنة 2019 عن دور هذه المنظمات في الجزائر، ودعمت المنظمات الأمريكية المشبوهة، الرّموز الرجعية الجزائرية، التي ساعدتها على اختراق حركة الإحتجاجات، وتحريف مسارها، وتحويل وجهتها نحو زعزعة الإستقرار الهش في البلاد الواسعة، والمُحاطَة بالبلدان غير المُستقرة، حيث تعددت التدخلات العسكرية الأطلسية، في ليبيا وتشاد ومالي والنيجر، ولا تزال المنظمات الإرهابية تتربص بالبلاد، خاصة في الجنوب، حيث تَعْسُرُ مراقبة الحُدُود الموروثة عن الإستعمار الفرنسي…

استغلّت المنظمات الأمريكية عَشْرية الإرهاب في الجزائر، عندما غادر العديد من المُثقفين والفنانين البلاد، خوفًا على حياتهم، وتمكّنت من إنشاء شبكة من المُثقّفين، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، وتولى “الوقف القومي للديمقراطية” تأهيل وتدريب العديد منهم، ومن بينهم سعيد سعدي، مؤسس حزب “تَجَمّع الثقافة والديمقراطية”، وصديق الصهيوني “برنار هنري ليفي”، منذ عُقُود، والهواري عدّي ومُصطفى بوشاشي وكريم تَبُّو وزبيدة عَسُّول، وحكيم عدّاد (مؤسس تجمّع العمل الشبابي، سنة 1992، وتموله الحكومة الأمريكية، بشكل غير مباشر، منذ 1997)، وغيرهم، ممن نَصّبتهم وسائل الإعلام الفرنسي والأمريكي زُعماء “الحراك الجزائري”، وكان “المنتدى الدّولي لبحوث الدراسات الديمقراطية” الأمريكي (أحد فُروع “الوقف القومي للديمقراطية”)، قد تكفّل بصَقْل مواهبهم في الخطابة والمُراوغة، وفي تَحْسين صورة الإخوان المسلمين (لقاء مصطفى بوشاشي مع علي بلحاج، أحد الزعماء الإسلاميين الأكثر تطرفا في الجزائر)، وتقديم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وخيانة الوطن، بمثابة “وجهة نظر، يمكن مناقشتها وقبولها والتعايش معها”، وتعمّق هؤلاء “الديمقراطيون” الجزائريون في دراسة “محاسن الديمقراطية الامريكية”، بإشراف فرنسيس فوكوياما وصامويل هنتفتون ودونالد هوروفيتز، بداية من سنة 2005، في مؤسسات البحث والدراسات التابعة لشبكة “الوقف القومي للديمقراطية”، كما مَوّلت منظمة “راند” الأمريكية، وهي منظمة بحثية، في خدمة الحكومة الأمريكية والشركات الكُبرى، عددا من الدراسات والبحوث السياسية التي أعدّها باحثون جزائريون، لإثراء ملف الجزائر لدى الحكومة الأمريكية، وخاصة وزارة الحرب الأمريكية، واستفاد “مصطفى بوشاشي” (الذي نصبته فرنسا مدافعًا عن حقوق الإنسان في الجزائر) من تمويلات الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي (الحكومة الأمريكية)، منذ سنة 2000، لإعداد ملفات عن الجزائر وفلسطين، كما فرضت فرنسا منذ سنوات بوتفليقة عددًا من الوزراء، وأشهرهم وزيرة التعليم المناهضة لتعليم اللغة العربية…

يمكن تلخيص القواسم المشتركة التي تجمع هؤلاء الأشخاص الذين ذكرنا أسماءهم (وغيرهم ممن لم نذكُرهم)، والذين “كَرّمتهم” الإمبريالية الأوروبية والإمبريالية الأمريكية، في التمويل الأجنبي، والولاء لقوى أجنبية قبل الوطن، وفي لعب دور “غسّالة” جرائم الإسلام السياسي، وربما كان للمال القَطَرِي تأثيره عليهم، وقَطَر ليست مُستقلة، بل تحتل قاعدة عسكرية جَوِّيّة أمريكية واحدة نصف مساحتها، ولا تتجاوز نسبة القَطَرِيِّين والقَطَرِيّات 10% من سكانها…

يُؤشِّرُ تنصيب هؤلاء الأشخاص من قِبَل الإمبرياليتَيْن الأمريكية والفرنسية، ناطقين باسم الحركة الإحتجاجية في الجزائر، إلى التوجّه الأمريكي العام، الذي يعتبر تيار الإخوان المسلمين “إسلاما سياسيا مُعتدلاً”، وحظِيَ نفس هذا التّيار بدعم أمريكي وأوروبي، في سوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس والمغرب والأردن، وتحاول الولايات المتحدة استغلال الإحتجاجات لتقديم تيار الإخوان المسلمين، بزعامة “علي بلحاج” كبديل للحكومة الحالية، مع المحافظة على التّوجّه الرأسمالي الليبرالي، وعلى مصالح الشركات العابرة للقارات، وتمكين هذه الشركات من حصة إضافية في ثروة البلاد من المحروقات ومن المعادن غير المُستَغَلّة، ويُشكل بعض رُموزُ حقوق الإنسان (مصطفى بوشاشي) ومنظمات الشباب (  حكيم عدّاد) والتيارات الثقافية والأكاديمية والسياسية “العلمانية” ( الهواري عدّي، وسعيد سعدي) وغيرها، غطاءً وضَمانة لمن يُذَكِّرون بمسؤولية الإخوان المسلمين وفُرُوعهم في المجازر وفي الدّمار الذي حَل بالبلاد، خلال “العشْرِية المُظْلِمة”…

استغلال القوى الخارجية للوضع الإقتصادي والإجتماعي:

تستورد الجزائر نحو 80% من البضائع التي تحتاجها، بقيمة خمسين مليار دولار، سنويًّا، ولا يُشكل القطاع الصّناعي سوى حوالي 6% من إجمالي الناتج المحلي، وبعد انهيار أسعار النفط، الذي تعتمد عليه الدولة بنسبة تقارب 95% من إيرادات العملات الأجنبية، وبعد شُحّ الموارد المالية، وانخفاض الإحتياطي المالي للدولة، عجزت الحكومة عن شراء السلم الإجتماعي، وأعلنت، “في إطار مكافحة الفساد”، عن خطة لاسترجاع الأموال المنهوبة عبر التفاوض وإرسال ملفات عَدْلِيّة إلى خمس دول غربية وعربية تربطها اتفاقيات قضائية مع الجزائر (فرنسا وإسبانيا ومالطا وتونس والمغرب )، لجأ إليها رجال الأعمال اللصوص، وهربوا الأموال المنهوبة إلى مصارفها، عبر تضخيم الفواتير، أو عبر “الإستثمار” في المشاريع الوهمية، وقدّر بعض خبراء الإقتصاد المَحلِّيِّين قيمة الأموال المنهوبة، خلال عشرين سنة من حُكْم الرئيس بوتفليقة، بنحو مائتيْ مليار دولار، وتزامن هذا الإعلان مع محاكمة وزراء ورجال أعمال في قضايا فساد، مع الإشارة أنه يمكن للمؤسسات المالية، التي توجد بها أموال هؤلاء اللصوص والفاسدين، إطالة الإجراءات القانونية، لتتمكن من  الاستيلاء على الأموال المودعة لديها “بعد انقضاء 10 سنوات على تاريخ آخر سحب أو إيداع في الحسابات”، وتستغرق إجراءات استرجاع الأموال المنهوبة ما لا يقل عن ثلاث سنوات…

وقّعت الجزائر اتفاقيات علاقات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، سنة 2002، ثم سنة 2005، وهي علاقات تبعية لا يستفيد منها سوى الإتحاد الأوروبي، ومصارفه وشركاته، وبعد مرور أكثر من عقد، بدأت سلطات الجزائر تُحاول مراجعة الإتفاق، ثم تفاقم خلاف السلطة الجزائرية مع الإتحاد الأوروبي، بسبب “تدخل الإتحاد الأوروبي في الشؤون الداخلية”، بحسب السلطات الجزائرية، عندما أراد الإتحاد الأوروبي إرسال لجان مراقبة إلى الجزائر، أثناء الإنتخابات، كما أثناء التظاهرات الشعبية، خلال سنة 2019، وبداية سنة 2020، وأدّى تطبيق الجانب الإقتصادي للإتفاقية إلى تبعية الجزائر للسلع الأوروبية، واختلال الميزان التجاري، وعدم تكافؤ المبادلات بين الطّرَفَيْن، لأن الجزائر لا تُنتج ولا تصنع ما تحتاجه، بل تستورد حاجياتها من أوروبا، ولا يستطيع الإنتاج المحلي الضعيف منافسة إنتاج الشركات الأوروبية العابرة للقارات، والمدعومة من الحكومات ومن مؤسسات الإتحاد الأوروبي…

من جهة أخرى، كانت الحكومة تُخطّط لخفض قيمة الدّينار الجزائري، بنسبة 34% مقابل الدولار، بداية من كانون الثاني/يناير 2020، ووقع تأجيل تنفيذ هذا القرار، لكن انهيار أسعار النفط يجعل الدولة تفقد جزءًا هاما من إيراداتها، ويؤدّي “تعويم” الدينار (خفض قيمته) إلى مزيد من ارتفاع أسعار السّلع الغذائية واللحوم والأسماك، رغم طول الشواطئ الجزائرية، وكانت الدولة تُخطّط أيضًا لإلغاء الدعم تدريجياً بداية من العام 2020 وخفض قيمة التوريد، ولئن لم تكن على الجزائر ديون خارجية تُذْكر، فإن رئيس الحكومة الأسبق صَرّح في شباط/فبراير 2019، أن قيمة الدّيْن الدّاخلي المتراكم تُقدر بنسبة 34% من الناتج الإجمالي المحلي.

من أسباب الإحتجاجات، البطالة والفقر:

اعتقلت الشرطة، سنة 2018، أكثر من ثلاثة آلاف شاب جزائري، كانوا يُحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا، في عمليات هجرة غير نظامية، بينما يغادر المدارس نحو 400 ألف طفل، كل سنة، بحسب تقرير الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان عن الفقر في البلاد، حيث تحتاج أكثر من 670 ألف عائلة للسكن، وارتفع عدد من هم تحت خط الفقر إلى ما يزيد عن 15 مليون مواطن (من إجمالي حوالي أربعين مليون نسمة)، أو ما يُعادل 38% من إجمالي عدد المواطنين (كانت النسبة 24%، سنة 2014 )، فيما فاق عدد الأطفال القاصرين الذين يعيشون في الشوارع (بدون مأوى) 11 ألف، وأعلن البنك العالمي أن أكثر من 10% من سكان الجزائر يعيشون في فقر مدقع (كانون الأول/ديسمبر 2019) في حين يستحوذ نحو 10% من السكان على حوالي 80% من الثروة، بحسب نفس التقرير الذي أصدرته الرابطة في شهر شباط/فبراير 2019، عند انطلاق الإحتجاجات، رَفْضًا لولاية خامسة لعبد العزيز بوتفليقة، وارتفع معدل البطالة الرّسمي من 11,1% بنهاية الربع الأول من سنة 2018 إلى 11,7% بنهاية الربع الثالث من نفس السنة، أو حوالي 1,5 مليون مُعَطّل عن العمل، وتصل هذه النسبة لدى الشباب (أقل من 25 سنة) إلى قرابة 30% بحسب بيانات “الديوان الوطني للإحصائيات”، وفاقت نسبة البطالة 20% لدى النّساء، ونسبة 45% لدى الشابات (أقل من 25 سنة)، ويُشكل العاطلون عن العمل، غير الحاصلين على أي شهادة مدرسية نحو 45,8%، والحاصلون على شهادات جامعية 27,8% من إجمالي العاطلين، بنهاية سنة 2018، ولا يتوقع انخفاض عدد العاطلين ولا نسبتهم من قوة العمل بسبب انخفاض الاستثمارات الحكومية والخاصة، والرّكود الإقتصادي، وانهيار أسعار النفط الخام، وإهمال الحكومات السابقة والحالية الإستثمار في القطاعات المنتجة، ما لا يبشر بهدوء على الجبهة الاجتماعية، نظرًا لارتفاع الأسعار وعجز ملايين المواطنين عن شراء السلع الضرورية، بحسب البيانات الرسمية المنشورة في أيار/مايو 2019، وأدى ارتفاع نسبة البطالة وتجميد التوظيف الحكومي، وخصخصة القطاع العام، إلى لُجُوء الباحثين عن شُغل، إلى الإقتصاد الموازي، ويقدر حجم الأموال المتداولة في الاقتصاد الموازي بنحو أربعين مليار دولارا، أو ما يُقارب 40% من إجمالي الناتج الإجمالي المحلي للبلاد، سنة 2018…

يتوقع البنك العالمي (كانون الأول/ديسمبر 2019) ارتفاع نسبة التضخم من حوالي 5% إلى 9%، سنة 2020، ما يرفع من عدد الفُقراء ونسبتهم، وارتفاع معدّل البطالة بنحو 1,5%، ونَشَر البنك هذه البيانات قبل انتشار وباء “كوفيد 19″، وقبل تعطيل الإقتصاد، وقبل الإنهيار الحادّ لأسعار النفط الخام، وأوردت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (التي تُمولها مؤسسات الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) ملاحظات عن تدهور مستوى المعيشة، من خلال تفَشِّي مظاهر الفقر والدّعارة، والبطالة وتزايد الراغبين في الهجرة بأي ثمن، وانتشار ظاهرة التسول وأطفال الشوارع، وتشغيل الأطفال، وانتشار الأحياء الفوضوية (العشوائيات) والأكواخ القصديرية ، في ضواحي المُدُن الكُبْرى…

صراع “الهوية”، بوابة للإستعمار؟

من الأجْداد المُقاومين إلى الأحفاد المُطبّعين:

بعد حصار بحري دام ثلاث سنوات (من 1827 إلى 1830)، احتلت الجيوش الفرنسية عاصمة الجزائر، ولكنها لم تتمكن من احتلال كامل الأراضي الجزائرية، سوى بعد أربعين سنة (سنة 1870)، وقامت سلطات الإحتلال بنَفْي العديد من الجزائريين المُقاومين، نحو مُستعمراتها البعيدة (كاليدونيا الجديدة، أو “كاناكي”، وجزيرة “لاريونيون”، ومستعمرات بحر الكاريبي…)، فيما هاجر المئات (من بينهم مُقاومون) نحو المشرق العربي، بين سنتي 1830 و 1914، بسبب الإضطهاد الإستعماري، والإستيلاء على الأراضي الزراعية لصالح المُستوطنين الفرنسيين، ومن أشهر المقاومين المنفيين “الأمير عبد القادر”، ولا تزال الأُسَر الجزائرية تعيش في الشام، وفي فلسطين (القُدْس وحيفا واللد…)، كما كان “محمود الاطرش” (القدس 1903 – برلين 1978)، أحد قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، وعضو قيادة الأممية الشيوعية (كومنترن)، من أصل جزائري، واعتقلته السلطات الفرنسية في فرنسا، وسجنته ثم أرسلته إلى الجزائر…

بعد عُقُود من انطلاق المقاومة المُسلّحة (1954)، واستقلال الجزائر (1962)، ظَهَرَ، خلال “العشرية المُظْلمة” (1990 – 2000)، جيل من مشاهير الرياضيين الشباّن (ياسين براهيمي، و رفيق حليش…) والفنانين الرافضين رفضًا قطعيا لأي شكل من أشكال التطبيع، مُقابل ظهور جيل من المُثَقّفين والفنانين الإنتهازيين، المُسَبِّحين بحَمْد الإستعمار، والمُطبِّعِين مع الكيان الصهيوني، خلافًا للموقف الرسمي الجزائري، الظّاهر، رغم التقاء بوتفليقة مع رئيس حكومة العدو الصهيوني “إيهود باراك”، خلال جنازة الحسن الثانين سنة 1999، وبعض هؤلاء المُثقفين والفنانين كان محسُوبًا على اليسار، وشارك المخرج السينمائي “إلياس سالم” في مهجران “أسدود” المحتلة، قبل انسحابه، بسبب الإنتقادات، وشارك المُخرج “مرزاق علواش”، عديد المرات، منذ سنة 1994، بأشرطته السينمائية الممولة من الدولة الجزائرية بنسبة 85%، في مهرجانات سينمائية ينظمها الإحتلال الصهيوني، بفلسطين المحتلة، وفي تشرين الأول/اكتوبر 2015، شارك شريطه “مدام كوراج” ضمن فعاليات مهرجان صهيوني بمدينة “حيفا”، ما أثار نقدًا حادًّا له، لأنه يُشارك بأشرطته للمرة الثالثة في مهرجان “حيفا” الصهيوني، وإن لم ينتقل شخصيا لحضور العروض، لكنه ليس الوحيد، ممن يعتقدون أن التطبيع أقصر طريق للشُهرة الشخصية، وفي مقدّمتهم الكاتبان “بوعلام صنصال” و “كمال داوود” اللذَيْنِ لم يكلاَّ من كَيْل المدائح للإستعمار وللكيان الصهيوني ولبرنار هنري ليفي الذي مَكّنَهُما من الشُّهْرَة في باريس، كما في تل أبيب، ويبالغ هؤلاء في الدفاع عن اللغة والحضارة الفرنسية، وعن فرنسا الإستعمارية، بانتهازية، فهما، وغيرهما، ينتميان لما يُسمّى في المغرب العربي “حزب فرنسا”، أي الدفاع عن اللغة والثقافة والسياسات الفرنسية، انطلاقًا من “تَشَبُّهِ المَغلوب بالغالب”، على رأي “عبد الرحمان بن خلدون”، و “فرانتز فانون”، وكان “كمال داود” قد رفع دعوى قضائية بمحكمة وهران ضد الروائي، رشيد بوجدرة، بتهمة “القذف” الوارد في كتابه “مهربو التاريخ”، حيث وصف “بوجدرة” بعض الكُتاب والصحافيين والفنانين الجزائريين (بوعلام صنصال وياسمينة خضراء وكمال داود وسليم باشي، و كوثر عظيمي، والمخرجين السينمائيين أحمد راشدي ومحمود زموري…)، ب”الكتاب والمُثَقّفين التلفيقيين” الذين يُزيّفُون التاريخ الجزائري، لأنهم مُصابون بعُقْدَة المُستعمَر، وباحتقار الذّات، و”انبهار المنهزم بالمنتصر”، وتزامنت هذه الحملة التطبيعية مع نَشْر أبناء وأحفاد عُملاء وجلاّدي الإستعمار، العديد من الكُتب التي تُمجّدُ هؤلاء العُملاء، ومنهم وسيلة تامزالي (كان والدها عميلاً أعدمته الثورة) وفريال فيرون (عَذَّب جَدُّها “بوعزيز بن غانة”، الشهيد الشيوعي “المَكِّي شباح”، حتى الموت، بشكل بَشع، سنة 1936)…

تركز الصحافة الفرنسية على مجموعة من الكتاب الفرنكفونيين الجزائريين الذين برعوا في الدفاع عن “محاسن” الإستعمار، وعن الحضارة و المدنية الفرنسية، مقابل البربرية العربية الجزائرية، لتجعل فرنسا من الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، سلاحًا لتصفية حساباتها التاريخية مع الجزائر التي تحررت بالعُنف المُسلّح، وخصصت مجلة “لوبوان” اليمينية الفرنسية، في منتصف نيسان/ابريل 2019، عددا خاصا للكاتب كمال داود، ليطرح موقفه المعادي للعروبة وللثقافة العربية في الجزائر، واعتبارها استعمارا، بينما يعتبر الثقافة الفرنسية، ولُغتها التي لا تزال مسيطرة على الأجهزة الرسمية للدولة، إرثًا حضاريا، وليس استعمارا، وما كمال داوود سوى نموذج لمجموعة من العملاء الذين مكّنتهم فرنسا (القوة المُسْتَعْمِرَة) من البُرُوز ونَيْل الشُّهْرَة، ما داموا يُمَجّدُون الإستعمار والصهيونية، ويُعلنون العداء لكل ما هو عربي، وكتب “كمال داوود باللغة الفرنسية في صحيفة “يومية وهران” ( 17/12/2009): “نحن الجزائريون لسنا عربا، واللغة العربية التي استعمرتنا لُغة مَيِّتَة…”، ثم كتب، بعد خمس سنوات: “أنا أكتب بالفرنسية، ولا أكتب بالعربية، لأن هذه اللغة (أي العربية) مُفَخّخَة بالمُقَدَّس” ( الملحق الأدبي لصحيفة “لوفيغارو” اليمينية جدًّا 16/10/2014)، ولهذه الأسباب وغيرها، دافعت الأوساط الإستعمارية والصهيونية على هؤلاء الكُتاب ومنحتهم الجوائز…

بعد عشرين سنة من لقاء الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مع المُجرم الصهيوني “إيهود باراك”، تراجَع دَوْر الجزائر في الساحة الدّولية، قبل أن تُؤَدِّيَ الإنتفاضة الشعبية إلى تدخّل الجيش وإبعاد بوتفليقة وأقاربه عن السلطة، لكن الإنتفاضة تحمل في طياتها عددًا من المتناقضات، وحاولت وسائل الإعلام الأجنبية، وخاصة الفرنسية، تقديم بعض الرموز الموالية لها كبدائل، فيما استغلت بعض القوى الإنفصالية المتصهينة (والفرنكفونية والمعادية لكل ما هو عربي) هذه الإنتفاضة لتُعزّز التقارب مع الصهاينة…

في المقابل لاحظ المتابعون الحُضُور الدائم للراية الفلسطينية، وللشعارات الدّاعمة للشعب الفلسطيني، كما كان العلم الجزائري مرفوعًا في مُظاهرات الفلسطينيين في غزة، وبقيت الجزائر، رغم مظاهر التطبيع الرسمي أو غير الرسمي، ورغم تطور العلاقات مع الولايات المتحدة، من الدّول العربية التي لم تطرح بناء علاقات مع الكيان الصهيوني، ولذلك تُركّز الأوساط الصهيونية على الجزائر…

ورد في موقع إخباري صهيوني ( “جي. أس.أس نيوز” 20 أيلول/سبتمبر 2016 )، إقامة الكاتب والشاعر الجزائري كريم عكوش (أحد مُنَظِّرِي الإنفصاليين الأمازيغ)، رفقة وفد من الصحافيين والكُتاب الجزائريين، لمدة أسبوع كامل، في فلسطين المحتلة “للإطلاع على إنجازات أكبر دولة ديمقراطية في العالم”، بحسب الموقع الصهيوني، ومنذ انطلاق الإحتجاجات الشعبية في الثاني والعشرين من شهر شباط/فبراير 2019، اهتمت بها مراكز البحوث والدراسات الصهيونية، ونشر هذه المراكز عددًا من الدّراسات، التي تُحاول طَرْح كافة الإحتمالات، وتأثير كل منها على الكيان الصهيوني، وعلى علاقاته الرسمية وغير الرسمية، مع المُحيط، أي مع المغرب وموريتانيا وتونس، وبعض القوى والمليشيات في ليبيا، كما في بلدان إقريقيا، ما تحت الصحراء الكُبرى، وتأثير الأحداث في الجزائر على الوضع في المشرق العربي، ومُحيط فلسطين المُحتلّة، واقترحت بعض المقالات في الصحف الصهيونية ضرورة اغتنام فرصة الإحتجاجات، لتكثيف الإتصالات، سواء في الجزائر، أو في دول إقامة المهاجرين الجزائريين (فرنسا بشكل خاص)، بهدف ربط أو تعزيز العلاقات مع مُمثلي “الأقليات”، ومع بعض الشخصيات، التي قد تخدم الأهداف الصهيونية، بشكل مباشر أو غير مباشر… 

تغييرات جوهرية في العلاقات الخارجية – تحالفات باسم “محاربة الإرهاب”:

بدأت الولايات المتحدة، منذ سنة 1994 (بعد توقيع اتفاقيات أوسلو)، بواسطة حلف شمال الأطلسي، تطرح حوارا متوسٌطيٌا/أطلسيٌا، مع سبع دول متوسٌطيٌة من غير أعضاء الحلف، “بهدف التٌرويج للأمن والإستقرار الإقليمي”، ولعبت تركيا دور الوسيط، ليجمع “الحوار” كلاٌ من الحلف الأطلسي من جهة وموريتانيا والمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن والكيان الصٌهيوني، من جهة أخرى. وفي 2003 أثمرت هذه الجهود عن انعقاد قمٌة في اسطنبول جمعت 26 دولة بهدف “تنمية إطار الحوار المتوسٌطي”، وإدماج الكيان الصهيوني في عمليات تدريب ومناورات مشتركة مع بلدان المغرب العربي، بداية من 1995، والتحقت الجزائر سنة 2002، وتجري المناورات بإشراف الحلف الأطلسي، بدعوى الإنقاذ أو مقاومة الكوارث أو حماية البيئة…ومنذ 2001، تبدي الولايات المتحدة اهتماما خاصٌا بالمغرب العربي، واتسمت سياستها بحركيٌة مريبة، وركٌزت سنة 2002 برنامجا أسمته “ميبي” (ميدل إيست برتنارشيب أنشيتيف) أو مبادرة الشراكة للشرق الأوسط، بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتحت إشراف إدارة شؤون الشرق الأوسط ، بوزارة الخارجية (كعنوان فرعي لأطروحة الشرق الأوسط الكبير، الممتد من المغرب إلى أفغانستان وحدود الصٌين وروسيا)، وتعاونت أمريكا في عديد المناسبات مع أوروبا (وفرنسا بشكل خاص) لتبادل الخبرات والمعلومات وتدارس الاستراتيجيات المستقبلية…كل هذا بالتوازي مع السياسات الأوروبية الخاصة كمسار برشلونة، وعلاقات الشراكة، والحوار الأورو-مغاربي، قبل طرح فرنسا مشروع “الإتحاد من أجل المتوسٌط”، بعد وصول ساركوزي للرئاسة.

استضافت الجزائر اجتماعا لقادة أركان الجيش في كل من مالي وليبيا وموريتانيا والنيجر (سنة 2009) من أجل تطوير استراتيجية إقليمية لمكافحة الإرهاب، وإنشاء مركز قيادة أمنية إقليمية في مدينة “تامنراست”، جنوب الجزائر.

 أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا حول الإرهاب ( 5 آب/أغسطس 2010)، وجاء في أحد فصوله “أن البلدان المغاربية (أي المغرب العربي)، وخاصة الجزائر، أحرزت تقدما ملحوظا ضد الإرهاب”، وأن حكومات دول منطقة الصحراء “سعت إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة بالتصدي للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إلا أنه كانت هناك حاجة للحصول على الدعم الخارجي في شكل بناء القدرات العسكرية وقدرات فرض القانون”، وأشاد ممثلو الإدارة الأمريكية “بالنجاحات التي أحرزتها جهود قوات الأمن الجزائرية في مكافحة الإرهاب… والدفاع عن الأراضي الجزائرية، ما اضطر شبكة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لنقل عملياتها نحو الجنوب في منطقة الساحل، في موريتانيا والنيجر ومالي، وقامت بمضاعفة هجماتها في تلك المنطقة”. وتركز التقارير الأمريكية على “ضرورة التعاون” الدولي “لمكافحة الإرهاب”، لتبرير مشاريعها الهيمنية (مثل أفريكوم) ولتبديد أموال الدول الفقيرة وحلفائها المؤقتين في شراء الأسلحة (الأمريكية) والعتاد وأجهزة المراقبة والتخابر، وتدريب قوات الجيش والأمن على استخدامها (في ثكنات أمريكا أو على أيدي خبراء أمريكيين في افريقيا) عوض إنفاقها على مشاريع تنموية، لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي وخلق وظائف، لتشغيل العاطلين، وتطوير الصناعات الغذائية والتحويلية، وتطوير مؤسسات التعليم والصحة الخ. وتكررت هذه الإجتماعات ذات الصبغة الأمنية والمخابراتية، وتطور معها تغلغل الإمبريالية الأمريكية في المنطقة.

انعقد في الجزائر، يومي 7 و 8 أيلول/سبتمبر 2011، مؤتمر لوزراء خارجية الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر إلى جانب الدول الأعضاء في مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي و”خبراء في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة” (أي مخابرات الدول الإمبريالية)، “لبحث سبل تكثيف التعاون في مجالات التدريب والأسلحة والاستخبارات والتنمية”، وفق ما ورد في البيان الختامي للمشاركين في هذا “المؤتمر الوزاري حول الأمن في الساحل”، واختيرت الجزائر “لما لها من خبرة ومهارات وشرعية لا غبار عليها، في مكافحة الإرهاب”، وأشاد قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم”، الجنرال كارتر إف هام بـ “الدور المحوري الذي تلعبه الجزائر في حربها المستمرة ضد آفة الإرهاب الشنيعة”، وتزامن انعقاد المؤتمر مع تعبير حكومات دول المنطقة (خصوصا مالي والنيجر) عن تخوفاتها من تداعيات الإطاحة بالنظام الليبي، وانتشار الأسلحة، “وتأثيرها على استقرار المنطقة المحيطة بالصحراء”، وادعت الدول الإمبريالية، التي أججت الحرب في ليبيا، أن “تركيزها منصب على كيفية مساعدة بلدان المنطقة على القيام بحملاتها الخاصة لمكافحة الإرهاب ومحاربة التهريب عبر الحدود..” وأعلن وزير خارجية الجزائر، التي أصبحت تلعب دور القوة الإقليمية، والوسيط بين الإمبريالية ودول المنطقة: “إننا بحاجة إلى شركاء وإلى تمويل وإلى تأهيل ومعدات ومعلومات”، رغم التصريحات العديدة لقادة الجزائر بأن الحرب ضد الإرهاب هي أولا وقبل كل شيء مسؤولية بلدان المنطقة ولا يمكن لأحد التدخل واتخاذ قرارات نيابة عنهم. واجتمع وزراء خارجية الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر في واشنطن، خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2011، مع مسؤولين أمريكيين سامين (منهم مستشار الرئيس المكلف بملفات الإرهاب والأمن القومي)، لبحث شؤون أمن الساحل، وحسب الوزير الجزائري المكلف بالشؤون الإفريقية، مَثَّلَ هذا الاجتماع “مرحلة نوعية”، ورسخ الشراكة الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وجاء مكملا لعدة مؤتمرات سياسية وعسكرية واستخباراتية استضافتها مؤخرا الحكومات الإقليمية بما فيها قمة باماكو (عاصمة مالي) التي قادت إلى إجراءات جديدة لتبادل المعلومات، وقبل ذلك زار مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، المكلف بالمغرب العربي، الجزائر، ل”بيع عتاد عسكري، في إطار مكافحة الإرهاب”، وأقر بوجود شراكة “هامة” بين الجزائر وأمريكا تقوم على”الصداقة والمصالح المشتركة العديدة ” (والواقع أن لا دخل للصداقة في هذا المجال)، وأصبحت الحكومة الجزائرية ترى “أن التعاون مع أمريكا لمكافحة الإرهاب أساسي وضروري في مستوى تبادل المعلومات والتدريب والتكنولوجيات والتنمية الاقتصادية. لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في إطار جماعي منظم ومتفق عليه.”، وتلح الجزائر، في نفس الوقت، على الربط بين الاستقرار الأمني والتنمية.

كانت الجزائر وجنوب افريقيا ونيجيريا وليبيا من المعارضين لتواجد قواعد عسكرية أمريكية في افريقيا، في إطار “أفريكوم” (برنامج عسكري أمريكي في إفريقيا)، فغيرت أمريكا تكتيكاتها وأصبحت تعتمد على المحادثات والتدريبات العسكرية الثنائية، وركزت على الجزائر ( رغبة منها في التموقع في المنطقة العربية، قريبا من منابع الطاقة والمعادن وغير بعيد من طريق مرورها)، وتكثفت زيارات الضباط من القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم) ومسؤولين أمريكيين آخرين إلى الجزائر في بداية سنة 2010، “لتظهر أن هذا التعاون في محاربة الجماعات الإسلامية الإرهابية في الساحل الإفريقي هو هدف مشترك، تأمل أمريكا والجزائر تحقيقه” وزارت “سوزان إف بورك”، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي لمنع انتشار الأسلحة النووية، الجزائر لمدة 3 أيام، (من 20 إلى 22/02/2010) وقالت “تلعب الجزائر دورا هاما في مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف وتعتبر شريكا هاما”، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2009، التقى قائد “أفريكوم”، الجنرال ويليام وورد (شغل المنصب قبل الجنرال كارتر هام)، الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى، لمناقشة “الجهود الأمريكية الجزائرية المشتركة ضد الإرهاب، وخاصة تبادل المعلومات من خلال التدريب.” وشدد الجنرال “ويليام وورد” على أنه لم يأت للجزائر ليطلب منها استضافة مقر “أفريكوم” (وقد كانت هذه المسألة مطروحة في وسائل الإعلام)، وبعد أقل من شهرين من زيارة قائد “أفريكوم”، التقى مسئولون من القوات الجوية الجزائرية، في عاصمة الجزائر، قائد القوات الجوية الأمريكية في افريقيا، لمواصلة النقاش حول التعاون في الحرب ضد الإرهاب في المنطقة المغاربية والساحل الصحراوي، وقال اللواء “رونالد لادنيي” أن أمريكا “مستعدة للعمل جنبا إلى جنب مع الجزائر، من أجل ضمان الإستقرار ومواجهة هذه التهديدات” (عن صحيفة “الوطن” 26/01/2010)، وحسب موقع “مغاربية” ( موقع أسسته وتديره وزارة الحرب الأمريكية)، بتاريخ 26/02/2010، فإن “تأسيس أفريكوم يشكل تحولا في الحضور الأمريكي في القارة، من السياسي والإقتصادي إلى العسكري، ولو بشكل غير مباشر، وإن زيارات مسؤولي أفريكوم إلى الجزائر استهدفت أساسا معالجة الوضع الأمني في الساحل الافريقي، وتهدف الشراكة العسكرية بين أمريكا والجزائر إلى تحديث القوات العسكرية في المنطقة وتبادل المعلومات الأمنية والإستخباراتية، قبل تزويدها بتجهيزات متطورة، على غرار أجهزة الرصد، والطائرات الإستطلاعية من دون طيار”، أي ربط جيوش المنطقة بالجيش الأمريكي، تجهيزا وتدريبا وإيديولوجيا أيضا لمدة طويلة. وأعلن الجنرال ويليام وورد عن “تطابق الأهداف بين الجزائر وأمريكا، ورغبتهما في الإستقرار وحماية المواطنين الأبرياء من الضرر، والعمل معا على للوقاية من أعمال التطرف العنيف”. ولا يستحي الجنرال “وورد” من الحديث عن حماية المواطنين الأبرياء، وهو الذي ساهم في الإعتداء على العراق واحتلاله وتدميره باستخدام الأسلحة السامة والفتاكة، كما ساهم في عديد المهمات القذرة في فلسطين والوطن العربي وغيرها. لكن يبدو أن أمريكا استفادت من تجربتها في العراق وفي أفغانستان، وأصبحت لا تكتفي بالمراقبة من السماء بواسطة الأقمار الصناعية أو بواسطة التكنولوجيا، وعادت إلى التركيز على جمع المعلومات بواسطة المخبرين والجواسيس، وهو ما بدا جليا في البيانات والتصريحات الرسمية الأمريكية أو من جدول أعمال الإجتماعات المشتركة، وتحاول أمريكا الإستفادة القصوى من جيوش ومخابرات “الأصدقاء”، والتخفيف من خسائرها البشرية، فتعهد بالمهمات القذرة إلى الجيوش والمخابرات المحلية، وتستأثر أمريكا بإيرادات بيع الأسلحة والتكنولوجيا، ومراقبة مصادر الطاقة وطرق تسويقها.

خاتمة:

 تُعتبر الجزائر مُهَدّدة بالفعل، الآن أكثر من أي وقت مَضى، بفعل الوجود العسكري والسياسي التّركي (الإخواني والأطلسي والصهيوني) في ليبيا، وحُكم الإخوان المسلمين في تونس، وفي المغرب (رغم خُضوع حكومة المغرب للمخزن، أي الملك وشَبَكته السياسية والإقتصادية) والجزائر مُهدّدةبالمجموعات الإرهابية، كما بالجيوش الأوروبية والأمريكية على حدودها الجنوبية، في مالي والنيجر…

إن المخاطر المحيطة بالبلاد ( الدّولة والوطن والشعب) لا تُبَرِّرُ الصمت أمام السياسات التي ينتهجها النظام، من خصخصة، وعدم تحويل اقتصاد الرّيع النّفطي إلى اقتصاد مُنتج، يُمكن البلاد من تحقيق الأمن الغذائي، فالجزائر ثاني أكبر مُستورد للقمح، في العالم، بعد مصر…

كانت حكومة الجزائر من رُوّاد تأسيس مجموعة السبعة والسبعين، ومن الدول التي أمّمت المحروقات، وشكل خطاب هواري بومدين في الأمم المتحدة (نيسان/ابريل 1974) حدثًا سياسيا، شَكْلاً (ألقى الخطاب بالعربية، وهي سابقة في الأمم المتحدة ) ومضمونًا، حيث تكلم نيابة عن مجموعة السبعة والسبعين، من أجل “نظام اقتصادي عالمي جديد”، كما كانت حكومة الجزائر تُدافع عن مصالحها بندّية، مع فرنسا، سواء في مسائل الهجرة أو المحروقات وغيرها…

بعد 58 سنة من الإستقلال، تقهقر دور الجزائر، في الساحة الدّولية والعربية، ولا يزال الإقتصاد الجزائري ريعيا، ومرتبطًا بأسعار النفط، التي لا تتحكم بها البلدان المُنتجة والمُصدّرَة، بل تُحدّد العوامل الخارجية والشركات الإحتكارية العابرة للقارات، أسعار النفط وكافة المواد الأولية، ولم تستخلص حكومات الجزائر المتعاقبة (كما حكومات البلدان المنتجة والمُصدّرة للنفط) الدّروس من أزمة منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ولا من الأزمات الدّورِية للرأسمالية التي تؤدّي، كل عشر سنوات تقريبا، إلى انهيار أسعار النفط، ولا تزال الجزائر، كغيرها من البلدان المنتجة للنفط، تُعاني من انهيار الأسعار، منذ منتصف شهر حُزيران/يونيو 2014، وجَسّم انطلاق الإحتجاجات، ردّ فعل شعبي ومَشْرُوع، على خطط التقشّف وإلغاء دعم السلع الأساسية، وزيادة الأسعار، وتراجع الإحتياطي النقدي بنسبة قاربت 60%، خلال أربع سنوات، وارتفاع نسبة البطالة، وارتفعت معها نسبة الفقر…

إن ضُعف القوى التقدّمية لا يُبشِّرُ بخير، ولا يبعث على التفاؤل بمستقبل الجزائر، ومحيطها المغاربي، لكن تمتلك الجزائر من الثروات ومن الخبرات والقُدرات البشرية، التي تُمكّنها من تحقيق “التنمية المُستدامة” الحقيقية، ومن القضاء على البطالة والفَقر، ووضع حد للهجرة غير النظامية التي تؤدي بحياة العديد من الشّبان، غرقًا في البحر الأبيض المتوسّط… 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.