بين مشروعين … وطني فلسطيني وصهيوني احتلالي / د. فايز رشيد

فايز رشيد

د. فايز رشيد ( الأردن ) – الأربعاء 22/7/2020 م …

صراع وجودي، إنه الصراع العربي الصهيوني، وليس الصراع (الخلاف) الفلسطيني الإسرائيلي، كما يحلو لبعض وسائل الإعلام العربية تسميته.
أحسن سارتر في وصف الوجودية، ومعتقدها الرئيسي في «أن وجود المرء يسبق ماهيته» والتركيز على ضرورة حرية الإرادة الإنسانية، فالوجود والزمان مترابطان، كما يقول هايدغر في دراسته الأونتولوجيّة (علم الوجود) من خلال نهج الفينومينولوجيا – العلم الذي يدرس خبرة الوعي، العلم بالأشياء وطبيعة الذات – وفقا للفيلسوف هوسرل مؤسس علم الظواهر، والأخير كان معلّم هيدجر، ولذلك ربط كارل ماكس بين محاكمة الحدث، والزمن الذي جرى فيه، لأن الظروف متغيرة.
صحيح، رغم تأثره بهيدجر، كان سارتر يشكّ بشدة في أي مقياس يمكّن الإنسان من الوصول إلى الاكتفاء، عند الالتقاء مع الوجود، لكنه في سرديته، أثبت أن الإنسان كائن مدفوع برؤيته للكمال، أي أن الإنسان «كائن يسبب نفسه» عند الولادة في الحقيقة الماديّة التي هي جسد المرء، يجد المرء نفسه موضوعاً من دون إرادة في الوجود، وماهيته تتكون بفعل عوامل عديدة، ثم إن للوعي القدرة على تصوير الإمكانيات وإيجادها، أو إلغائها.
نسوق المقدمة للاعتماد على الحقائق العلمية في تحليل المطروح، فالمشروع الاغتصابي الصهيوني جاء من العدم، حاولت الصهيونية تحوير وتزوير الحقائق، من أجل إسباغ صفة الوجودية عليه، ذلك في مسارين: الأول، الادّعاء بحقها التاريخي في فلسطين، واختراع الحاخامات لمقولات تضليلية، وسرقة آثار فلسطينية والادّعاء بيهوديتها. والثاني، محاولة نفي وجود الشعب الفلسطيني من الأساس، والادّعاء بأن فلسطين كانت خراباً، وكانت صحراء مقفرة (إقرأ كتاب نتنياهو «مكان تحت الشمس»)، جاءت الهجرة اليهودية إليها وقامت بتعميرها. اعتبر الفيلسوف سورين كيرغارد، وهو أول فيلسوف وجودي، على الرغم من أنه لم يستخدم مصطلح الوجودية أبدا.. افترض أن كل فرد، وليس المجتمع أو الدين، مسؤول عن إيجاد معنى لحياته منفردا، وأن يعيش حياته بشغف وصدق أو «بأصالة». نقول ذلك لأن المشروع الصهيوني اتكأ على الدين والتاريخ المزَوّر في اغتصابه لفلسطين، لذا فهو باطل من أساسه. في المقارنة بين الإيمان الفلسطيني حامل المشروع الوطني والحقوق الشرعية، بـ»الإيمان» الصهيوني حامل ومؤسس المشروع الصهيوني، نجد أنهما متنازعان على الأرض نفسها، التي احتلها الصهاينة بحق القوة، والفلسطينيون عليها والمهجّرون منها يتسلحون بقوة الحق، والفرق كبير بين المفهومين، فصراع الوجود يستمد هويته من وجود الصراع، خاصة أن العقل الصهيوني أسس مفاهيمه ومقولاته من خلال تزاوج التاريخ مع الدين، والسياسة مع القوة ، لذا فهو عقل استلابي يحاكي الواقع بأدوات لا علاقة لها به، ويرسمه بألوان ماورائية، على عكس العقل الفلسطيني ذي الخصائص الشرعية، التي تمتلك الحقوق، ولزومية التحرير، والنضال ضد استلاب الغاصبين لوطنه.

المشروع الوطني الفلسطيني عند انطلاقة الثورة، شخّص الصهيونية على حقيقتها، وجاء منسجماً مع التطلعات الوطنية لشعبنا

صحيح أن المشروع الوطني الفلسطيني مرّ بمراحل مختلفة، منها مرحلة – سموها تجاوزاً بـ»الواقعية» التي تعني: الإيمان بأن واقعنا أو جزءًا منه يشترط تطابق العقل مع الواقع، بعيداً عن المعتقدات والمبادئ، لذا، يميل الواقعيون إلى الاعتقاد بأن ما نؤمن به الآن، هو مجرد مقاربة للحقيقة، وأن كل ملاحظة جديدة تقرّبنا أكثر من فهم الواقع، وبالمنظور الكانطي، فإن الواقعية هي نقيض المثالية، حتى بالمنظور المعاصر لا يمكن تطبيقها في فلسفة الثورة، لأن الواقعية فلسفة أفلاطونية تصلح للمدارس الأدبية والرياضية والعلوم، ولا تصلح في استرداد الحقوق، وتتعارض مع المشروع الوطني الفلسطيني، وتبرر المشروع الاغتصابي الصهيوني، فالتعامل مع الواقع الظالم، هو ارتهان واستسلام له، ويشكل التباسا مع مفهوم «المثالية» في الوقت الذي ينبغي فيه عدم الخلط بينهما، كما أوضح ذلك فلاسفة مثل، جورج بيركلي، حيث إن التجريدات الأفلاطونية ليست مكانية، أو مؤقتة أو عقلية، ولا تتوافق مع تركيز الوجود العقلي في معارك التحرر الوطني. الواقعية الثورية «لا تعني فنّ الممكن» وفقا لغورباتشوف، وإنما تغيير زيف هذا الواقع، وإعادة الحق إلى أصحابه بكافة الوسائل الممكنة.
أصبح من الواضح أنه بعد توقيع اتفاقيات كمب ديفيد عام 1978 وأوسلو 1993، ووادي عربة 1994، فإن العدو استغلها لمزيد من قضم الأراضي الفلسطينية والعربية، وشهية حاخاماته تطمح إلى مزيد من التوسّع على حساب الأرض العربية. هذا هو جوهر المشروع الصهيوني باختصار. قالوا لنا: إن الاعتراف بإسرائيل، سيعني سلاماً معها، وتوقفها عن ضم الأراضي، لم يدركوا حقيقة الصهيونية أولا، ولا حقيقة المتغيرات الإسرائيلية بعد الإنشاء القسري للدولة ثانياً، ولا المخطط الصهيوني المقبل للمنطقة ثالثا.
المشروع الوطني الفلسطيني عند انطلاقة الثورة، شخّص الصهيونية على حقيقتها، وجاء منسجماً مع التطلعات الوطنية لشعبنا، وأي متغيرات في ما بعد جرت عليه، استغلتها دولة الكيان، لمزيد من ابتزاز الجانب الفلسطيني، لإبداء المزيد من التنازلات. كوندوليزا رايس، صاحبة مبدأ «الفوضى الخلّاقة» وفي كتابها «أسمى مراتب الشرف: من سنين حياتي في البيت الأبيض» تكشف كيف تآمرت واشنطن وتل أبيب لقتل الرئيس ياسر عرفات، وأن غزو العراق وأفغانستان لم يكن لنشر الديمقراطية فيهما، وإنما لأهداف احتلالية واقتصادية وسياسية أخرى.
من المعروف أن المشروع الوطني الفلسطيني تمت إعادة صياغته في دورة المجلس الوطني الثانية عشرة، التي انعقدت في القاهرة عام 1974 وانحصر في ما سُميّ وقتها بالبرنامج المرحلي (النقاط العشر) الذي يدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، مع ضمان حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين. وباسم هذا المشروع تم توقيع اتفاقيات أوسلو، والولوج إلى المفاوضات، التي لا يبدو أن لها نهاية، ما أعطى الوقت الكافي للطرف الصهيوني، لتدمير الأسس التي قام عليها هذا المشروع. ولكن السؤال أيضاً يكمن في تجنب الإجابة عن التناقض البنيوي الكبير، الذي يجمع بين إقامة الدولة على 22% من أرض فلسطين (والتي تتناقص تدريجيا، وبمشروع الضم الجديد ستتقزّم إلى 8%)، وفي الوقت نفسه المطالبة بالعودة الى دولة تعرّف نفسها بأنها ليست دولة مواطنيها، وسنّت قانوناً يؤكّد «يهوديتها». هذا التناقض أدى بالضرورة الى تهميش هدف عودة اللاجئين، الذي ترفضه إسرائيل رفضاً مطلقاً. ولكن هذا العجز البنيوي يتجسد أيضاً في تجنب ذكر المكون الثالث من شعبنا، ذلك المكون الذي حافظ، وما زال، على العلاقة الوطيدة مع ما كان وطناً واحداً تحول معظمه «لفئات» استعمارية استيطانية. وهنا يكمن جوهر انحسار المشروع الوطني الفلسطيني، من حيث أنه لم يتعامل مع المشروع الصهيوني على هذا الأساس.
نعم، المشروع الوطني الفلسطيني هو في جوهره تحرري، أي أنه يعبر عن تطلعات المكونات الثلاثة لشعبنا، بالانعتاق من مشروع استعماري استيطاني، لكن للأسف هناك جماعات لها مصالح طبقية ضيقة، قزّمت مفهوم المشروع الأساسي بشكل يعبّر عن مصالحها الطبقية، أو من ناحية أخرى، مصالح أيديولوجية لا ترى الأبعاد التحررية للمكونات الثلاثة بشكل متكامل، وتتميز بأجندة اجتماعية محدودة لا تأخذ في الحسبان مفهوم العدالة الاجتماعية، إلا من منطلق الإحسان والصدقة وخلط ذلك بمفهومي المقاومة والصمود؟ وبالتالي فإنها رؤية قصيرة النظر لمفهوم المقاومة، وإن كانت هي السائدة في جزء يشكل ما يقارب 1.8% من أرض الوطن، تخلط خلطاً واضحا بين ما يمكن أن يُحقَق على المدى القصير، وتعتبره استراتيجية تحررية، والنظرة التحررية بعيدة المدى، وهي الغائبة كلياً من برنامجها، فتصبح إعادة انتشار قوات الاحتلال حول قطاع غزة وتحويله من معزل عرقي إلى معسكر اعتقال، انتصاراً هائلاً، وتصبح زيارة وفد للتضامن مع أهله إنجازا، ولكن مع إقصاءٍ كاملٍ للأشكال النضالية الأخرى.
عليه فإن النظام السياسي الفلسطيني برمته، بما فيه كافة الفصائل الوطنية والإسلاموية، يحتاج الى مراجعة نقدية شاملة، آخذة بعين الاعتبار الوصول الى العودة الأساسية لمنطلقات الثورة، بعد أن أثبتت التجربة الحيّة، أن العدو الصهيوني ماضٍ في مشروعه حتى النهاية، وهو لم ولا ولن يقبل بحل الدولتين ولا حلّ الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة، ولا الدولة ثنائية القومية، ولا الدولة لكل مواطنيها، ويأخذ في حساباته الديموغرافيا الفلسطينية، وقد تعرضت إلى هذه المسألة المقلقة للمشروع الصهيوني، مؤتمرات هرتسيليا منذ الخامس حتى المؤتمر 19 ، بمعنى أن الشعار الإسرائيلي يتبلور في جملة «أرض أكثر، وعرب أقل» والدليل على ما نقول، قانون «الدولة اليهودية» والقانون المنوي سنّه الذي يقضي بشرعنة المستوطنات، وما سيجري ضمه، وتطبيق القانون الإسرائيلي عليه، ومنع الفلسطينيين من المرور إلى بيوتهم وأراضيهم على 61% من مناطق الضفة الغربية، المسماة بالمنطقة (C). هذه حقيقة العدو الصهيوني، ومن لا يدرك ذلك، يجهل حقيقة المشروع الصهيوني. في الوقت الذي يُفترض فيه، معرفة العدو أولا، قبل الشروع في مجابهته، ذلك أن المعرفة المنقوصة، تحيد بالنضال عن طريقه المفترض، وتؤدي بالثورة إلى تجاوزات وأخطاء تنعكس سلباً ووبالاً عليها.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.