من سليم الحصّ إلى حسان دياب /د. حياة الحويّك عطيّة

يا صور:: الرئيس حسان دياب يزور ضمير لبنان دولة الرئيس سليم الحص في ...

دياب يشبه الحص في أنَّ سيرته الذاتية لم تتضمَّن بنداً يتعلَّق بفضائح الجنات الضريبية ولا بسرقة شواطئ البحر ولا بفضائح “ويكيليكس” ولا بسرقة الإسمنت والكهرباء والاتصالات.

التاريخ لا يعيد نفسه، لكنَّ المعطيات إذا ما تشابهت أو تكرَّرت تعيد النتائج. ثمة رجل اسمه سليم الحص، كفوء وخلوق ونادر، وصل يوماً إلى موقع الرئاسة التنفيذية في لبنان، وأراد أن يكون رجل دولة بكل ما تعنيه الكلمة، مدركاً أن عليه أن يبدأ بمكافحة الفساد؛ الفساد بأنواعه المالية والإدارية والأخلاقية والسياسية. استعرت بوجهه المافيات، وأطلقت عواء وسائل إعلامها – ملكياتها – وأبواقها المأجورة أو الغرائزية. نجحت شبكة المافيات، وذهب الرجل إلى البيت، ليحمل معه لقب “ضمير لبنان”.

ضمير لبنان لا يحضر عندما يطلق النداء للاجتماع التقليدي لما يسمى “رؤساء الوزارة السابقين”، ولا يحضر عندما يخرج رؤساء الوزراء السابقون ليذهب كلّ منهم إلى شركائه في إحدى المافيات العابرة للطوائف، ولما يُسمى حركات وتنظيمات لا وجود لها في الواقع إلا لحراسة المعتقلات الطائفية؛ حراسة تتلقّى عليها أجراً هو ضمان تقاسم الحصص التي يرمون منها الفتات إلى سجناء هذه المعتقلات من الغوغاء والرعاع، الَّذين يعلفون بالنزر اليسير، كي يكونوا متوفرين عندما تحتاجهم صناديق الاقتراع، أو ساحات الحروب الأهليّة، أو ما هو دونها بقليل من حاجات الضّغط في الشوارع، أو بهذا الشّكل أو ذاك، لحماية المرتكبين أو لمنع محاسبتهم أو لتعزيز حصصهم عند بازار جديد.

بالأمس، ذهب رجل آخر ينتمي إلى سليم الحص، يشبهه في أنه لم يأتِ من بيوتات الإقطاع الذي تركته لنا السلطنة العثمانية مذ سمحت له بشراء فرمان استعبد بموجبه البلاد والعباد، وما يزال، ولم يولد ليجد نفسه سياسياً أو نائباً أو وزيراً، بصرف النظر عما إذا كان أمياً أو أبله أو عابثاً أو خليعاً.

لم يأتِ من بيوتات الإقطاع الآخر المالي، الذي حكَّمته برقابنا منظومة فساد دولية وعربية لا تريد لنا حتى ذاكرة المدينة؛ منظومة غذَّت تدمير البلاد طوال الحرب الأهلية، لتشتريها بالبخس، وتبيعها حيث تشاء بعدها، وها هي اليوم تعيش معركة بيع ما تبقى من أصول الدولة، كي تمنحنا الضوء والرغيف.

لم يأتِ من مخلفات الميليشيات التي تجعلنا نتوقع أن نرى يوماً أبو بكر البغدادي أو من ورثه وزيراً للثقافة أو للأوقاف في العراق، وربما رئيساً للدولة، وربما “كبيراً” تتبرَّك به العباد.

حسان دياب يشبه الحص في أنَّ سيرته الذاتية لم تتضمَّن بنداً يتعلَّق بفضائح الجنات الضريبية، ولا بسرقة شواطئ البحر في بلد البحر، ولا بفضائح وثائق “ويكيليكس”، ولا بسرقة التراب والحجر والإسمنت والكهرباء والاتصالات والبنوك والاحتكارات، ولا بشفط مليارات تفوق ما يتسوّله لبنان اليوم من صندوق النقد الدولي الذي يتدلَّل بشروطه التعجيزية، ولا بإطعام الناس طعاماً مسموماً فاسداً، ولا بشراء أصوات القطعان في الانتخابات النيابية، ولا بالتعامل مع الإسرائيلي والاستعانة به لضرب البلد، ولا بانتحال ألقاب علمية يضحك منها ساخراً، فأصحابها إمّعات في يده.

ولأنَّه لا يملك أياً من هذه المآثر، ولم يشارك في تهريب 80 ملياراً خارج البلد، أودعها لدى الغرب الذي يستطيع مصادرتها عند أول لحظة غضب، كما يستطيع فرض العقوبات على أصحابها إن تجرأوا بكلمة، لبّى إحساس الكرامة أمام جان إيف لودريان، ولم يحنِ رأسه ويخرس، كما فعل الآخرون أمام إيمانويل ماكرون…

لأنه كذلك، كان يمكن أن يذهب في التحقيقات حتى خواتيمها: التحقيق في كارثة المرفأ، والتحقيق الجنائي في مصرف لبنان الَّذي قد يكشف كارثة أكبر من كارثة المرفأ. لم يكن الأمر أحجية، فالأسماء معروفة لكل الناس، وتوزّعها على الخارطة السياسية اللبنانية البشعة يظهر معنى تحالف المافيات، ويظهر معنى شجرة العائلة النتنة الممتدّة من أصغر موظَّف إلى أكبر سياسيّ.

لأن حسان دياب غير مقطوع من هذه الشجرة، لم يكظم غيظه خوفاً، إلى أن ذهب الشرطي الفرنسي، فأطلق الصفارة للمأجورين من جهة، ولمن جرّوهم وراءهم من المقهورين الموجوعين الفاقدين للتمييز، فكسروا ما لم يكسره الانفجار، واتجهوا إلى مؤسَّسات الدولة بدلاً من التوجه إلى بيوت رموز الفساد وقتلة الناس.

كثيرون منهم هم صبية ما يسمى المنظمات غير الحكومية، تلك التي كتب وزير الخارجية الفرنسي هيوبرت فيدرين في العام 2000 مقالاً طويلاً (صفحة كاملة) في صحيفة “لوموند” الفرنسية عنها، يشرح فيه كيف تتَّخذ الدول الغربية من هذه الشبكة المهولة من “NGOS” جيشاً ضخماً من السوس الذي ينخر هياكل مجتمعات العالم الثالث، فيحولها إلى أشكال هشة متهاوية، قرار إسقاطها أو توجيهها بيد الجهات التي تموّلها.

هل يمكن أن يعطينا شخص مثالاً واحداً لمن تمرَّد على تعليمات مموّله؟ يخافون إغلاق الصنبور، كما يخاف الآخرون فتح الملفات، وكما أصابهم الرعب من فتح التحقيقات… وكالمجانين هرول المجرمون الكبار، وكالمجانين تدفَّقت الأدوات الصغار، وتمركز الهدف بإسقاط الحكومة قبل أن يحصل أي شيء من ذلك.

لأجل كل ذلك، لم يتذكر السنَّة أنه سنّي، ولم تقل أية مرجعية دينية أن استهدافه هو استهداف للطائفة، ولم يركض أي مرجع ديني إلى بعبدا ليقول إنه خط أحمر، ولم يسوّق جهابذة التنظير للفساد والمفسدين من الطوائف الأخرى لأن التعرض له هو تعرض للاستقرار والتوازن في البلد. كانوا كلّهم في خطر الفضيحة.

كان يجب أن يسقط قبل أن يصل ديفيد هيل ليطرح من جديد ترسيم الحدود البحرية وسلاح حزب الله والخصخصة.
بعدها، تعود عصابة علي بابا إلى تقاسم عمولات الغاز القادم، وبيع الأملاك العامة المخصخصة، وتقاسم قميص يوسف… بعدها تضمن عصابة علي بابا عدم ملاحقتها ومعاقبتها كما تستحقّ.

وخلالها، يقوم الفرنسي بالدور الذي اعتاد أن يوكل إليه أميركياً منذ آخر عهد شيراك وكل عهد ساركوزي، وها هو الآن يتجدَّد مع ماكرون: محاولة الاحتواء لتمرير ما تريده واشنطن، وإن لم تنجح… فتذكَّروا محاولة ساركوزي طوال الأعوام 2007-2008-2009 في احتواء سوريا مباشرة، وعبر لبنان، وما فجَّره فشلها من حقد ودور خطير في الحرب السورية، بلغ أقصاه مع مرحلة هولاند التي كان فيها لودريان وزير دفاع؛ دور قد لا تكون سفينة الأمونيا إلا جزءاً من ناره التي انفجرت في وجهنا.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.