دراسة هامّة … الحريات والحقوق … نظرة مقارنة / إيمان شمس الدين
إيمان شمس الدين ( لبنان ) – السبت 26/9/2020 م …
“إننا نؤمن بأن الناس خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقا لا تقبل المساومة، منها حق الحياة والسعي لتحقيق السعادة”. هذا ما جاء في مذكرة إعلان الاستقلال الأمريكي في ٤ يوليو ١٧٧٦م.
الحديث عن الحريات يتلازم دوما مع الحديث عن العدالة وكرامة الإنسان، لذلك ظهر مفهوم الحرية كمفهوم قلق، خاصة بعد الثورات التي حدثت في أوروبا ضد الإمبراطوريات والملكيات التي كانت تستمد شرعيتها من ربط وجودها السياسي بالشرعية الإلهية، مما حدا بها إلى إطلاق العنان لسلطتها على الناس، وهذه السلطة كان لها تداعيات سلبية أهمها:
ظهور الطبقية نتيجة الممارسات الاقتصادية غير العادلة؛
قمع الحريات، لمنع الاحتجاج على عدم العدالة؛
زيادة النقمة الشعبية التي أدت إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وقد جاء هذا الإعلان بعد ما عاشه سكان المستعمرات مساتشوسيتس بعد صراع طويل فيها مع الإنجليز الذين كانوا يفرضون ضرائب جائرة على سكان المستعمرات، غير ناظرين للاختلاف الطبقي والمداخيل بين السكان، حيث مارسوا سياسات اقتصادية ظالمة، مما حدا بالسكان إلى الثورة على الانجليز، وجلاء وجودهم عن المستعمرات.
والناظر إلى هذا الإعلان لا يمكنه إلا أن يتفق معه على المفاهيم العامة:
الناس خلقوا سواسية؛
وهب الخالق لهم حقوق لا تقبل المساومة، ومنها حق الحياة؛
السعي لتحقيق السعادة.
والثورة الإنجليزية قامت ضد طغيان الملكية في القرن السابع عشر التي كانت تدعي حقها في الملك أنه مستمد من الله، وتكللت بالنجاح من خلال “إعلان الحقوق” الذي أصدره البرلمان الإنجليزي عام ١٦٨٩م، واشترط على الملك الجديد عدم القيام بأي عمل يؤدي إلى الانتقاص من حقوق الشعب، إضافة إلى عدة حقوق أخرى أهمها: أن حق الملك في التاج مستمد من الشعب وليس من الله. وليس للملك إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة إلا بموافقة البرلمان، ولا تفرض ضرائب جديدة، ولا يشكل جيش إلا بموافقة البرلمان إضافة إلى حرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومصانة.
فأصبح البرلمان هو صاحب الكلمة العليا وهو ممثل لرغبة الشعب، وتبعتها بعد ذلك الثورة الفرنسية حيث أصبحت التغيرات والإصلاحات محطة لتطلعات الشعوب الغربية تسعى لتحقيقها.
لكن دلالات كل من المفاهيم تختلف باختلاف منطلقاتها المعرفية ورؤيتها الكونية، فما هي المساواة، وما هي الحياة التي هي حق وما شكلها، وما هي السعادة؟ وما آليات تحقيقها، وهل السعادة التي هي حق للإنسان ليسع إليها لها ضوابط تصون حقوقه الواقعية كالعدل والكرامة؟ وبعد مرور كل هذه المدة على هذا الإعلان، هل نرى الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تلتزم بضوابط ومعطيات هذا الإعلان؟ خاصة فيما يتعلق بسياساتها الخارجية بعد أحداث ١١ سبتمبر، وعلى مستوى سياستها الداخلية سواء في الشق الأمني أو في الممارسات العنصرية على أساس اللون والعرق، وعلى مستوى قضايا محورية في منطقة الشرق الأوسط وما يتعلق بحق الحياة للفلسطينيين الذين اغتصب الصهاينة أرضهم، وما يمارس ضدهم من تعسف وسلب كل مقومات الحياة؟
فمن المعروف تزايد المحدد الديني كلاعب رئيسي في عملية صنع القرار الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتنامي قوة التيار اليميني المسيحي خلال إدارة الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” وتحالفه مع تيار المحافظين الجدد. وظهر هذا الدور في قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، ومكافحة الإرهاب. إذ عكست هذه القضايا بعدا دينيا واضحا في السياسة الخارجية الأمريكية، عبرت عن طريقة معالجة الإدارة الأمريكية لهذه القضايا. ومن هذه الحقيقة، انطلقت رسالة دكتوراه نوقشت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة حول ” العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في الفترة من ٢٠٠١ – ٢٠٠٨ مستهدفة الكشف عن أثر البعد الديني في السياسة الخارجية الأمريكية، في ظل التغير الحادث في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتوحد الرؤى بين اليمين المسيحي والمحافظين الجدد، وتأثير هذه العلاقة في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وظهور البعد الديني جليا في تلك السياسة.
والتركيز على البعد الديني هو محاولة لفهم الرؤية الكونية التي تنطلق منها السياسات الأمريكية اتجاه العالم الخارجي، وعالمها الداخلي، وتناغم هذه الرؤية مع ما جاء في إعلان استقلالها، وما ترفعه من شعارات كثيرة حول الحريات والحقوق.
ويقصر بالرؤية الكونية: مجموعة الأفكار والمعتقدات التي يرى من خلالها الإنسان العالم الخارجي، ويتفاعل معه. أي فكرته عن الله والإنسان والطبيعة، وكيف تحولت هذه الأفكار إلى مجموعة من النظريات التي تنظم علاقة الإنسان بالله وبأخيه الإنسان وبالطبيعة.
لقد طرحت الكنيسة نفسها وسيطا بين الله والناس، فكانت الممثل أمامهم عن إرادة الله تعالى، وأبرز الممارسات التي قامت بها الكنيسة – علما أن هذا لا يعني أن الكنيسة لم يكن لها أدوارا إيجابية من نواحي أخرى – هذه الممارسات تتعلق بالحريات والحقوق:
أولا: الاعتماد الكلي على الغيب أي ما وراء الطبيعة وإلغاء دور العقل وقدرته على اكتشاف الحقائق.
ثانيا: أعطت صبغة شرعية للملوك والحكام في ذل الزمان، وهم الذين مارسوا كل أنواع الاستبداد على شعوبهم، حيث اعتبرت أن سلطة الحاكم مستمدة من الله، فارتبط الاستبداد في ذهنية الناس بالله.
ثالثا: أقامت محاكم للتفتيش على العقائد، بل حرضت الناس على التبليغ عن الآخرين. وعمدت إلى سياسة منع بيع الكتب التي تطرح أفكارا علمية مخالفة لما جاء بالإنجيل ومخالفة لأفكار أرسطو، التي كانت مهيمنة على معتقدات الكنيسة، وهددت من يتبنى أفكارا مغايرة بالقتل، فبلغ عدد الضحايا من عام ١٤٨٠م – ١٤٨٨م ما يقدر ب ٨٨٠٠ محروق، و٩٦٤٩٤ محكوما بالأشغال الشاقة والعقوبات الأخرى.
رابعا: عارضت كل النظريات العلمية التي تم اكتشافها في تلك الفترة، كنظرية غاليليو عن الأرض، ونظرية دارون في التطور الحيوي، وربطت حتى الأمراض بالله وليس بمسبباتها الطبيعية، وحينما ظهرت الاكتشافات العلمية سبب هذا السلوك هوة كبيرة بين الله والعلم فارتبط الله في ارتكاز الناس بالجهل.
خامسا: عارضت الغرائز الفطرية التي خلقها الله في الإنسان باسم الدين، فاعتبرت التجرد والرهبنة ورفض الدنيا بمفهوم للزهد سلبي، هي من مقومات الحياة والنجاة، رغم أن كانت تمتلك حجم أموال وعقارات طائلة.
ونتيجة الثورات الحروب المذهبية بعد ذلك، والحروب العالمية التي خاضتها أوروبا، بدأت التوجهات السياسية تتبنى النظريات حول الحريات والحقوق التي نظر لها فلاسفة غربيين متفاعلين مع واقعهم السياسي والديني.
الحريات والحقوق:
ولكن ما هو الحق، وهل فعلا الغرب كان سباقا في التأسيس لمنظومة الحقوق والحريات من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
الحق في اللغة: المطابقة والموافقة، وفي اصطلاح أهل القانون: مجموعة القوانين التي تحكم الأفراد، كونهم يعيشون في الوسط الاجتماعي. أما الحق عند الفقهاء هو: ما ثبت به الحكم.
ومعنى ذلك أن الفقهاء علقوا الحق بالقضاء فأصبح للحق آثار، ومهمة القضاء الكشف عنه لتعيين آثاره. أما الشيخ محمد تقي المصباح يزدي عرف مفردة الحق على أن “الحق أمر اعتباري يجعل لشخص (له) على آخر (عليه).”
ولقد كان الوعي الإسلامي بمفهوم الحقوق مبكرا جدا يعود إلى زمن النبي محمد ص من خلال وثيقة المدينة، ومن ثم عهد الإمام علي ع لمالك الأشتر، وقبلها العهد العمري في القدس، ورسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين ع، وحتى لدى فقهاء المذاهب الإسلامية جميعهم، وكان هناك استخدام واسع لمصطلحي حقوق الله وحقوق العبد (الناس)، في عباراتهم.
والحق مصلحة ذات قيمة معنوية أو مالية، أو ذات قيمة مشتركة بحيث يحميها القانون.وتصنف الحقوق إلى حقوق سياسية، وهي الحقوق التي يقررها القانون للشخص، باعتباره منتميا إلى بلد معين، حتى يتمكن من الاشتراك في شؤون الحكم، وفي إقامة النظام السياسي للجماعة، وتهدف إلى حماية المصالح السياسية للجماعة. والحقوق المدنية العامة والخاصة، وهي الحقوق الرامية إلى حماية الأفراد ومصالحهم، وتقسم إلى حقوق عامة وحقوق خاصة. والحقوق العامة هي الحقوق الثابتة للشخص بمجرد وجوده وكونه إنسانا، وقد يطلق عليها، مصطلح حقوق الشخصية كونها لصيقة بالشخصية الإنسانية. وسميت هذه الطائفة من الحقوق بالحقوق الطبيعية وحقوق الإنسان أيضا، أما الحقوق الخاصة فهي الحقوق التي تقررها فروع القانون الخاص المختلفة وعلى الأخص القانون المدني وتقسم إلى حقوق الأسرة والحقوق المالية، والأخيرة تقسم إلى الحقوق العينية والحقوق الشخصية. والحقوق العامة والخاصة إلى حقوق الأسرة والحقوق ذات القيمة المالية بقسميها الشخصية والعينية، نجد أن الإسلام، ومن خلال منظومته المفاهيمية، وضع أسسا ومبادئ واعتبارات واضحة تلامس تلك الحقوق، كما أن بمقدوره مواكبة حركة الواقع ومتغيراته، من خلال إعمال نظام التثبت القيمي والمبدئي والاعتباري، من دون اللجوء إلى ربط المفردات بعضها ببضعها الآخر وقطع صلتها بالواقع، وبسياقها التاريخي والاجتماعي.
وبالطبع يجب أن نلتفت إلى أن كلمة حقوق لا ينظر لها على أنها صيغة جمع للحق بل يتعامل معها ككلمة مفردة المراد منها “أحيانا هو النظام الحاكم على السلوك الاجتماعي لدى المواطنين في المجتمع، أي مجموعة (ما ينبغي وما لا ينبغي) التي يلزم أبناء المجتمع الواحد بالعمل بها.”
فالحقوق مجموعة من القوانين التي تنظم السلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع بينما الحق هو أمر ينظم سلوك الفرد في المجتمع ويحدد ما له على أفراد آخرين عليهم. ويعني ذلك: “أينما وجد حق فقد جعل تكليف أيضا وبالعكس” ومن الضروري أن نعرف أن الحق أمر إرادي للفرد الحرية أن يستفيد منه أو لا يستفيد ولكن التكليف أمر إلزامي أي على أفراد المجتمع الآخرين تكليف في احترام حق الفرد ولا مفر لهم من ذلك.
والمراد بالحق والتكليف في الأمور الاجتماعية أي الحق والتكليف اللذان يصدقان في السلوك الاجتماعي للناس في العلاقات المتبادلة، ولها جعل متقابل ويكون جعل كل منهما مستلزما لجعل الآخر.
ويشير فوكوياما إلى أن حكم القانون لا يوجد إلا حيث توجد جملة من القوانين المتفوقة على التشريع، أي أن الفرد المتمتع بالسلطة السياسية يشعر بأنه ملزم بطاعة القانون… وضمن الفهم الأصلي للقانون بوصفه شيئا من صنع سلطة مقدسة أو عادة أزلية أو الطبيعة، إن المتعذر على البشر تغييره، مع أن من الممكن – والواجب – تفسيره (تأويله) ليلائم الظروف الجديدة… وأما التمييز بين القانون والتشريع، فيعتقد فوكوياما أن المجتمعات ما قبل الحديثة، كان المعتقد فيها أن القانون تضعه سلطة عليا أسمى من أي مشرع بشري، سلطة مقدسة أو عادة أزلية أو الطبيعة، أما التشريع فيتصل بما يسمى اليوم بالقانون الوضعي. ويرى أنه يمكن القول إن حكم القانون لا يوجد إلا حيث توجد مسبقا جملة من القوانين المتفوقة على التشريع. تهدف القوانين والتشريعات في المجتمعات الإنسانية إلى تنظيم العلاقات، وحفظ الحقوق، وتحقيق العدالة.
فمباحث الحق توضح أساس الحقوق، ومباحث الحكم التخييري توضح أساس الحريات، ومباحث الحكم الاقتضائي توضح الواجبات، وهي مباحث ثلاثة تجدها في علم الأصول الإسلامي، وهو ما تنفرد الشريعة بالاهتمام به.
لقد عرف الفقهاء الحق بما يثبت في الشرع سواء كان حقا لله على الإنسان، أم حقا للإنسان على غيره. أما أركانه فهي أربعة:
الشيء الثابت؛
من له حق؛
من عليه الحق (أي المكلف) فردا أم جماعة؛
مشروعية الحق، أي النص عليه في الشريعة وعدم منعه.
ولكن هل أسس الإسلام أو كان له تجربة في موضوع حقوق الإنسان، بحيث تكون هذه الفكرة كمرتكز عام حضرت كرؤية حقوقية متعلقة بالإنسان، بحيث سلب هذه الحقوق هو ظلم يتطلب مواجهة، وأن هذه الحقوق هي ضمن المشروع السياسي للإسلام، أم هو موضوع متأخر يعود لنهضة الغرب؟
النبي ص أسس دستورا سمي فيما بعد من قبل المؤرخين “دستور المدينة”، وضح خلالها رؤيته للدولة ونظم مجموعة حقوق وواجبات تأسيسية تناسب بساطة الدولة في ذلك الزمان ومتطلباته، ولكنها أيضا لها ديمومة كونها متعلقة بالحقوق الطبيعية للإنسان بذاته، ومرجعيتها الشرعية هي الله تعالى.
الركائز الحقوقية لصحيفة المدينة:
سأركز هنا على حقوق أساسية تعتبر محورية وأداتية في تحقيق قيمتي العدالة والكرامة التي هي القيمة العليا. وأهم هذه الحقوق هي الحريات، وموارد المساواة.
صحيفة المدينة أو ما سمي فيما بعد بدستور المدينة، يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم. وبعد إقرار الجميع من قاطني المدينة المنورة على هذا العقد، صارت المدينة دولة وفاقية رئيسها نبي الرحمة محمد ص، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والمساواة والعدل.
إن الوعي الإسلامي بحقوق الإنسان ارتبط بالنص الديني، وذلك يعود إلى مركزية النص في الفكر الإسلامي من جهة، وإلى طاقاته الكبيرة على التثوير من جهة ثانية.
يقول المستشرق الروماني جيورجيو حول صحيفة المدينة:
“حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623 م. ولكن في حالة مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”.
كان أول أهداف السياسية النبوية التعفية على العداوات القديمة بين العرب وكسر حلقات الحروب والثارات، وإقامة مجتمع جديد عل أسس الإيمان والأخوة في الله وفي صحيفة المدينة أسس لإطار شامل يضع الأساس لأخوة عالمية تحق أمن الإنسان وكرامته بصرف النظر عن دينه أو سلالته، أو انتمائه القبلي.
أهم الحقوق التي أسست لها الصحيفة بين الفرد والمجتمع حيث أخذت في الحسبان الأصالتين:
حقوق اجتماعية عامة:
أرسى في هذا الصدد عدة ركائز هي العدل والأمن بالحماية، والتشاور لضمان استقرار المجتمع، خاصة في قرار الحرب.
العدل وعدم الظلم والبغي هو المحور الرئيسي الذي تم بناء الصحيفة عليها، بين الأطراف المتعاقدة أو من ينزل في دارهم من الغرباء.
مشاركة كل أطراف الصحيفة في الدفاع عن المدينة في حال تعرضها للعدوان الخارجي، وهذه المشاركة الجماعية تمثل عصبة يرهب تراصها العدو المعتدي.
التحالف الجماعي ضد أي عدوان هو تحالف دفاعي وليس اعتدائي، أي هو ذو طبيعة وقائية، لا تعكس أي مضمون هجومي، وهو ما يؤكد على أصالة السلم وليس الحرب، وأن الحرب عرض وليس أصل.
الهدف الأكبر للصحيفة كان التصدي للظلم وتحقيق العدل، بين أفرادها المتعاقدين وحتى بين الضيوف النازلين عليهم، وتقر مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، وترفض المحاباة والتحيز والتفاضل على أساس المركز أو القرابة.
ضمنت الصحيفة الحرية والأمن الاجتماعي للأفراد سواء العرب أو اليهود، وأرست قواعد التكافل الاجتماعي لاحتضان الفقير وحمايته، وأسست لمبدأ التعاون على البر والتقوى لحمل الأعباء الطارئة التي تتعرض لها الطبقات المحرومة، وهو ما يمكن أن ينبني عليه إصلاحات اجتماعية لمكافحة الفقر والجوع، ولعمارة المحيط بطريقة حضارية متقدمة.
تبني هذا السلام العام يضمن لكل سكان المدينة على اختلاف انتماءاتهم القبلية والعقدية ودياناتهم وأصولهم، وهو ما يمهد لعملية العمارة والبناء الحضاري، والنهوض بالتجارة والزراعة، في ظلم توافر الأمن والاستقرار لمسار القوافل السيارة التي تمر بيثرب من اليمن وأطراف الجزيرة العربية في طريقها إلي الشام.
الحقوق والواجبات الخاصة
المجتمع كما أسلفنا هو مجموع الأفراد والجماعات التي يتكون منها، فيعمهم الخير الواقع أو الشر، إلا أن صحيفة المدينة جاءت لتراعي الحقوق والواجبات الخاصة لأطراف الوثيقة وخصوصا اليهود:
أدمجت الصحيفة اليهود بالمجتمع، وباتوا جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العام، بحيث يجري عليهم ما يجري على سواهم، وبذلك أنهت حقبة من النبذ والاحتقار في العهد الروماني بحق اليهود، وعاملتهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات.
حفظت كرامة اليهود بحيث أصبحوا أندادا لغيرهم من سكان يثرب يمارسون حياتهم الطبيعية أمام شريعة الله، وليسوا بحاجة لأن يتميزوا بشارات تنتقص من كرامتهم، أو يعتزلوا في جيتوات عن غيرهم.
ضمن الصحيفة لليهود كما لغيرهم حرية الدين والاعتقاد، والمجتمع مسؤول عن المحافظة على أماكن العبادة الخاصة بهم وعن شعائرهم، ولا يحق لأحد إكراههم على دين آخر، ويلاحظ أن هذا الضمان أعطي لهم في الوقت الذي كانوا لا يزالون يرفضون فيه الاعتراف بالرسول ورسالته.
ولضمان عدم الغدر اشترطت الصحيفة على اليهود ألا يتحالفوا مع عدو للرسول أو لأطراف الوثيقة، بل لا يعينوا عدوه بأي صورة من الصور في حال محاولته الهجوم على المدينة وترويع سكانها، وهذا خص اليهود بالذات لتاريخهم في نقض العهود. هذا فضلا عن حمايتهم كأقلية دينية من شأن العدو الخارجي تهديدها، أو استغلالها، كما يهدد المكتسبات التي تحققت لهم لأول مرة في التاريخ.
ثبتت الوثيقة التحالفات بين اليهود والقبائل العربية، بحيث اندمج اليهود في البيئة الإسلامية الجديدة، مع حفاظهم على ثقافتهم وتقاليدهم وكيانهم الخاص.
وبما أن اليهود هم الديانة الأكثر حضورا في المدينة لكن التأسيس لهذه البنود مع اليهود هو تأسيس لها مع الديانات السماوية الأخرى بحيث ما ينطبق على اليهود سينطبق مستقبلا على باقي الديانات، وقد ضمنت لهم الصحيفة أيضا كل المكتسبات التي تحققت بما فيها تلك التي تحققت بالغدر والحيلة، عندما استولوا على أجود أراضي المدينة وسيطروا على اقتصادها. فالأمن وحالة الاستقرار تمنح العرب فرصا أكبر لإدراك ما فاتهم من التجارة والزراعة، دونما مزاحمة اليهود فيما تحقق لهم.
مشاركة اليهود في الدفاع عن المدينة ضد أي أخطار، سيدمجهم بالمجتمع، ولن يشعرهم بالتمايز عن غيرهم، وسيمنحهم ذات العزة والكرامة التي سيشعر بها باقي أفراد المجتمع حين الدفاع عن المدينة ضد الأخطار.
لم تحاول الصحيفة لتدمير أو تفكيك القبيلة والعشيرة، لكنها حولت المفهوم من العصبية إلى المشاركة والاندماج في المجتمع، وتحمل مسؤولية اجتماعية عن كل فرد وجماعة في المجتمع، وخلقت جوا من التضامن والتعاون الذي يقلل من الانتماء العصبوي لصالح الانتماء للمجتمع ككل. وبالتالي يجعل كل قبيلة مسؤولة أمام المجتمع، وهو ما يدفعها للحفاظ على سمعتها وشرفها.
جعلت من مجتمع يثرب بكل مكوناته وخاصة اليهود طائفة من المؤمنين، بحيث يكونوا جميعا “أمة واحدة من دون الناس” خاصة اليهود والمسلمين، وهذا التعريف للأمة شمل كل مكونات المدينة، بالتالي بات إطارا واسعا تتعايش فيه الأديان والسلالات المختلفة.
وقد علق المستشرق لويس باسينيون في كتابه “كلمة الشرف” على معاهدة الرسول مع نصارى نجران عام ٦٣٠ م خلال استقباله للوفد المسيحي عقد الرسول معهم عهدا التزم فيه بحماية سكان نجران وضواحيها، وحماية أشخاصهم وممتلكاتهم، وتعهد باحترام حريتهم في البقاء على دينهم وشعائرهم، مقابل أن يعترفوا بنوع من السيادة السياسية للإسلام”.
ما ميز صحيفة المدينة عن غيرها من الحقوق ومواثيق الحقوق عبر التاريخ، أنها مصدريتها الله تعالى من خلال ما مثله النبي محمد ص، كنبي مُشرّع وكقائد لدولة، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، وهو ما يعطيها الشرعية والمعصومية والإحاطة والشمولية وهي حق ممنوح من الله لعباده، ولا يحق لأحد اغتصابه أو منعه وتغييره، ويجعلها كمرجعية معرفية دستورية وحقوقية يمكن البناء عليها وأخذ الأصول منها. وهو ما يضمن حقانية واستمرارية الأصول الكلية الثابتة عبر الزمان وهي العدالة والحرية والمساواة والتكافل الاجتماعي، ومجتمعا يسعى لتحقيق هدف أسمى قيميا وهي كرامة الإنسان، هذه الكرامة التي ستوثق مع التقادم عراه بالسماء، وتعزز مبدأ التوحيد.
فمثلا وثيقة “الماجنا كارتا” التي قدمها الملك جون الإنجليزي (١٢١٥ م) تحت التهديد بالحرب الأهلية من جانب النبلاء، وأعاد إصدارها الملك هنري الثالث (١٢٢٥م) حين دخل في حرب ضارية مع بابا الفاتيكان، وقد جاء في مقدمة الوثيقة التي أصدرها الملك هنري أنه “يقدمها هدية إلى الله، والكنيسة، والنبلاء، والبارونات، وجميع رجاله”. لقد أدرك الملك أنه لا بد من إعطاء تنازلات إلى درجة السماح بانتخابات حرة، وتوزيع المناصب المدنية والكنيسة على البارونات.”
أما ما يتعلق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث بدأ اهتمام البشرية بموضوع حقوق الإنسان التي مرت بمراحل كثيرة بدأت من الثورة الأمريكية (١٧٧٦م)، والثورة الفرنسية (١٧٨٩م)، وكان آخر تلك المراحل هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن الأمم المتحدة في ١٠ ديسمبر ١٩٤٩م، بعد حروب عالمية أولى وثانية أودت بحياة الملايين من الأبرياء وما خلفته من مرارات ودمار، فجاءت خلفية الميثاق منفعلة مع هذا الألم والمشاعر، فلم تنظر بطريقة متوازنة لجميع الحضارات والشعوب المحيطة والموجودة دون تمييز، وهذه المساعي تؤكد على سعي الإنسان الحثيث لاستكمال حريته وتوثيق حقوقه والتخلص من غائلة الاستبداد والظلم والعبودية.
ونظرا لتشابك هذه المساعي بغض النظر عن جنسية أو دين أصحاب هذه المحاولات، فقد عقدت المندوبة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامي في جنيف بتاريخ ٩-١٠ نوفمبر ١٩٩٨م بعنوان “إغناء الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بالمبادئ الإسلامية”.
في الميثاق العالمي لا توجد إشارة للإيمان بالله تعالى باعتباره مصدرا للخير وعاملا واقيا من الشر، يحكم إرادة الإنسان ويسيطر على ميوله، وإنما نجد الميثاق يركز على المؤسسات والقوانين الوضعية، خلافا لصحيفة المدينة التي اعتبرت الإيمان بالله هو المحور والضمان إلي جانب الشروط والضمانات الأخرى.
حيث تستدعي منظومة المفاهيم الإسلامية، المؤسسة على محورية الله، أن يتم التعاطي مع المفاهيم وفق متطلبات المنظومة، كي لا تحصل الفجوة بين الرسالة المراد إيصالها والمتلقي الذي ينبغي أن يستوعب الرسالة، وأن يبقى على تواصل مع المردود النفسي والاجتماعي للنص وللأحكام المستقاة منه. هذا فضلا عن الاعتبار الاجرائي – الوظيفي، فمن الصعب إيكال مهمة تنفيذ استيفاء الحقوق العامة للناس، من دون السعي – قدر الإمكان – إلي التخفيف من العواقب الوخيمة لحالات سوء التطبيق، سيما مع غياب دولة المؤسسات – بمفهومها المعاصر- ولذلك نسبت الحقوق تلك إلى الله – تعالى- مباشرة، كي يتم التعاطي معها بدقة متناهية، علاوة على التخفيف من وطأة المفاعيل السلبية لسوء الإجراء قدر المستطاع.
تظهر صحيفة المدينة حقوق الأفراد والجماعات باعتبارها جزءا من حقوق الله على العباد يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، مما يكسبها صفة الوجوب الديني، ويضفي عليها القداسة، بحيث تصبح واجبا مفروضا من الخالق على عباده وليست هدية من أحد سواء كان حاكما فردا، أو منظمة دولية، وقد أثبتت التجربة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كيف تستخدم الدول العظمى هذه الحقوق في سبيل مصالحها، فهي لا تقر بها كواجب وإنما كمنحة تمنحها لمن تريد، وتسلبها عمن لا تريده، بل قد لا تكترث بانتهاكها من قبل أنظمة حليفة لها.
وهذه النقطة الحساسة التي تفرق عن صحيفة المدينة هي في مرجعية الصحيفة الشرعية الإلهية التي أوجبتها كفريضة من الفرائض، وجعلت انتهاكها إثما وتقصيرا في أداء الواجب فاعله أي كان، سواء فرد أو مسئول أو حاكم أو مجتمع، فإنه يجب مواجهته وإعادته إلي صوابه لتأدية الحقوق الإلهية الواجبة عليه.
وهذا ما قام به يزيد من انتهاك شديد لما أقره النبي محمد ص في الصحيفة، وما أقره الخليفة الرابع والإمام علي ع في عهده لمالك الأشتر والذي أكد ما جاءت به صحيفة المدينة، وقام بعمل تطويرات ناسبت الأحداث التي عايشتها الأمة، هذا الانتهاك لحق الله، يوجب على الأفراد في موقع المسؤولية الاجتماعية مواجهته وإعادة إقامة الحق في نصابه وفق إرادة الله تعالى.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبانطلاقه من خلفية ليبرالية تعترف بأصالة الفرد، ركز فقط على الحقوق الفردية وبالغ فيها، لكنه لم يحدد مسؤوليات وواجبات هذا الفرد لإقامة مجتمع إنساني فاضل وعادل، بينما الصحيفة أسست لمنظومة حقوق فردية واجتماعية وفي ذات الوقت، وضحت واجبات الفرد والمجتمع اتجاه الأمة والدولة، لتحقيق العدل والأمن والاستقرار، ورفع سقف الحريات وحفظها مما يحقق كرامة الإنسان. والتركيز على الفرد دون المجتمع يخل بميزان العدل، ويكرس الأنانية الفردية على حساب المصلحة الاجتماعية.
الميثاق العالمي لم يشر إشارة واضحة لموضوع التعاون ضد الظلم والطغيان والفساد، بل اعترف ضمن إشارات محددة بالاستعمار الذي كان موجودا في أجزاء من العالم، وأفرد للولايات المتحدة الأمريكية بمعاملة خاصة (المادة ١٤ الفقرة ٢)، بينما صحيفة المدينة تدور في محاورها حول محاربة الظلم والفساد، وحماية الضعيف، دون أي ميزة أو محاباة لأي طرف.
لم تتدخل صحيفة المدينة بعقائد الأطراف المتعاقدة بل أكدت أن كل فريق على ربعته أي احترمت عاداته وتقاليده وهويته الخاصة ودينه، بينما الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يتدخل متعسفا في العقائد حين يتحدث عما أسماه حرية الأديان (المادة ١٨).
صحيفة المدينة ركزت على القيم والمبادئ الفطرية والإنسانية التي تحفظ الفرد وكرامته، وكيانه الاجتماعي والأسري بحيث يتحقق التوازن وفق المرجعية الإلهية المحيطة، بينما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أسس للزيجات غير الشرعية، والتوالد المنحرف (مادة ٢٥/٢).
فدولة المدينة التي قامت على أسس وثيقتها، هي دولة الأمة حيث:
المواطنة فيها ليست على أساس ديني، وإنما على اساس السلم، فمادام الانسان مسالما فهو مواطن، والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب في بناء مرافق الدولة، والدفاع عن حريم المدينة المنورة، ولكل ديانة حريتها في إقامة طقوسها وشعائرها.
لقد نقض ميثاق المدينة كل من اليهود، ومعاوية ويزيد، هذا النقض حينما تحول إلي منهج في سلطة الدولة، ومع التقادم والترهيب والتجويع والتطويع، أدى بهذه الوثيقة إلي ضعف حضورها في وعي المسلمين، لأن العدالة ترفع من مستوى نباهة الناس إلى الأولويات الكبرى، والعدالة تقتضي توفير الحقوق الأساسية للإنسان كالتعليم والتطبيب والحياة الكريمة، بالتالي ترفع مستوى همومه وأولوياته من الهم الفردي المعيشي إلى الهم الاجتماعي في السياسة والاقتصاد وغيرها، وتلفت نباهته إلى ديمومة العدالة، وملاحظة أي محاولة لتقويضها. ولكن ماذا يفعل الفقر والجوع والخوف والظلم بنباهة الإنسان؟
لو ذكرنا مثالا حاضرا، في العالم العربي والإسلامي حيث ينتشر الفقر بدرجة جدا كبيرة، وقد جاء في التقرير العربي للفقر المتعدد حول الفقر المتعدد الأبعاد الصادر عن الأمم المتحدة في بيروت لعام ٢٠١٧م هذه البيانات حول الفقر:
A close up of text on a white background Description automatically generated
A screenshot of a cell phone Description automatically generated
A screenshot of a cell phone Description automatically generated
الجداول توضح حجم الفقر والمعاناة فيما يتعلق فقط بالحقوق الأساسية كالصحة والتعليم ومستوى المعيشة الذي يعكس ما توفره الدولة للمواطن من رفاه، خاصة بين الأطفال الذين يعدون وقود المستقبل ولبنته، فإن كانت المستويات متدنية في الحقوق الأساسية، فهذا يعني مستوى أكبر من القهر والظلم، وبالتالي تدني مستوى النباهة ومستوى الاهتمامات لتصبح متمحورة حول الهم الفردي الذاتي المتعلق بالمعيشة اليومية، وفي ظل الفقر يغيب أدنى وعي بالحقوق، ويصبح وعي الإنسان متسعا فقط لكيفية توفير قوت يومه، والسعي لطلب الرزق الذي يملأ وقته اليومي لهذا الهدف، بالتالي تغيب مع التقادم ثقافة الحقوق والاهتمام بها، وتصبح مسألة هامشية، وهذا التهميش في الوعي هو الذي يُمَكّن الطغيان والاستبداد والانتهاك من الاستمرار، بل يصبح الانتهاك هو الأمر الطبيعي الذي اعتاده المجتمع، وعندما يقوم الحاكم المستبد المنتهك للحقوق، بعمل أقل واجب وتأدية أقل حق عليه للشعب، فإن المجتمع يمجد هذا الحاكم ويعتبره متفضلا عليه، لا أنه ينظر لما قام به الحاكم من أداء حق له على أنه واجب مقدس عليه القيام به، بل عليه ما هو أكبر من ذلك.
فالأدوات التي يستخدمها الحكام عبر التاريخ لتمكين حكمهم الاستبدادي أهمها:
الإفقار؛
التجويع؛
القبضة الأمنية وقمع الحريات، وإشاعة ثقافة الخوف؛
توزيع الثروة وفق مبدأ الولاء، مما يشيع مبدأ نفاق الحاكم ومحاباته، ويعطل مبدأ الرقابة والمحاسبة (الإمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وبين الفينة والأخرى تتصدى النخب الواعية لموضوع الحقوق، وأهمية توعية المجتمعات به، ولكن لأن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان كما أسلفنا غابت عنه العدالة والإنصاف، ولأن موضوع الحقوق يتم استخدامه من قبل الدول العظمى كأداة ووسيلة لتحقيق مصالحها، فإن هذه الشعوب لا تُلْقِ غالبا أذانا صاغية للدعوة الحقوقية، لأنها منذ قيام الدولة الأموية وإلى الآن حكمت بالحديد والنار واعتادت على الانتهاك حتى أصبح جزء من وجودها وثقافتها، وتلجأ لتخوين المطالبين بحقوق الإنسان غالبا بحجة استغلال ذلك من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة مزدوجة معياريا، وبدل أن توظف الشعوب موضوع حقوق الإنسان في صالحها وتؤسس لميثاق خاص بهويتها ومستمد من وثيقة المدينة ومن تراث الإسلام الحافل بها، فإنها تلجأ للحل الأسهل وهو الرفض والتخوين.
فمنذ انطلاقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام ١٩٤٨م، لم يتطرق الإعلان لما يحدث من استعمار ونهب لشعوب لا من قريب ولا من بعيد، ومن المعلوم أن القوي العظمى تستعمل المصطلح والمفهوم وفقا لمعطيات ومصالح محددة لها، وفلسطين خير مثال جلي لذلك.
ونظرة سريعة تحتاج تعميق ليس محله هذا البحث ولكن من باب الإطلالة: أسس النبي ص هي دولة الأمة، أما الدولة الحديثة هي الدولة المدنية، وهناك مواطن افتراق والتقاء بين الدولتين أهمها:
نقاط الالتقاء بين دولة الأمة والدولة المدنية:
– الهدف واحد: تنظيم الحياة الاجتماعية عبر قوانين ثابته، وتوفير الأمن لحماية الأنفس والأموال والأعراض والحقوق، وحرية ممارسة الطقوس والشعائر.
– العقد الاجتماعي، كلاهما يقوم على عقد: النبي: نبوته ورسالته وإمامته مجعولة من الله، وكذلك الإمام علي ع وفق الفقه الإمامي، فإمامته منصوص عليها من الله، وهناك فرق بين نوعين من الولاية:
١.الولاية الجعلية المنصوصة من قبل السماء، تنفذ وتسري على من يؤمن بها (المشروعية الإلهية والمقبولية).
٢. أما الولاية الاجتماعية: هي عقد بين طرفين يلزم كلا الطرفين، وإن لم يؤمن أحدهما بالإمام والنبي (مشروعية وضعية عقدية، ومقبولية)، وكلاهما قاما بأخذ البيعة لتحقيق الولاية الاجتماعية، لتصبح ولايته نافذة على من لم يؤمنوا بهما كولي جعلي.
– الحاكمية للعدالة وسيادة القانون، في كلا الدولتين.
مواطن الافتراق بين الدولتين:
– كلاهما يؤمن بسيادة القانون، لكن المرجعية العليا للقانون في الدولة المدنية للقانون الوضعي، بينما المرجعية العليا في دولة الأمة، هي الخطوط العامة المستفادة من الكتاب والسنة والسيرة العقلائية، والتجربة البشرية التي تحقق العدالة.
– كلتا الدولتين تعتمد على رقابة ومحاسبة الأمة، فالمدنية تعطي المجتمع حقا في الرقابة عليها ومحاسبتها وعزل الفاسد، وكذلك دولة الأمة تعطي هذا الحق للمجتمع، في الدولة المدنية الرقابة حق يمكن للمجتمع التنازل عنه، بينما في دولة الأمة المجتمع واجب عليه أن يراقب ويحاسب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الشهيد الصدر في كتابه الأئمة تنوع أدوار ووحدة هدف يقول: هنا دوران: دور للقيادة ” المعصوم”، ودور للأمة هي الرقابة والمحاسبة، ووزعت الأدوار على أساس العصمة والطاقة الحرارية: يقول كل اتجاه عقائدي على الأرض يؤمن بأن تكون قيادته لإنسان معصوم، بمعنى أن يكون مؤمنا بمبادئه التي انطلق منها، فلا يخطئ في تطبيقها ولا يلوي عنقها، فالليبرالي حينما يستلم القيادة ينظر إليه ناخبوه، على أنه مخلص لمبادئه الليبرالية ومعصوم من ارتكاب الخطأ في تطبيقها وهكذا الشيوعي وإلخ، والأمة – أي أمة – تمتلك طاقة حرارية، أي تتفاعل مع المبادئ والقيم، لذلك كان دورها المراقبة والمحاسبة.
– التداول السلمي للسلطة، في الدولة المدنية تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، بينما في دولة الأمة لا يوجد تداول سلمي للسلطة. ومنشأ هذا في دولة الأمة ان التداول السلمي للسلطة هو وسيلة وليس هدف، والهدف هو العدالة، ومتى تحقق هذا الهدف فهو المطلوب، ولو لم يكن هناك تداول للسلطة، فالأصل في الإسلام هو تربية الأفراد على الأفكار وليس على الأشخاص، حيث أسس الاسلام النظرية وسعى إلى تربية الأمة على تطبيقها وليس فقط التنظير لها، لذلك كما اهتم بالتنظير فهو اهتم بالتطبيق وآلياته، فربط وعي الأمة بالفكرة لا بالشخص، لتمارس دورها الرقابي على تطبيق الأفكار والمنهج لتحقيق العدالة. وبحث تداول السلطة هو بحث جدلي حتى في الداخل الإسلامي، لكنه ليس محل بحثنا في هذه الوريقات.
مبادئ الدولتين التي تجسدت في خلافة الإمام علي عليه السلام:
الحرية شعار في كلا الدولتين.
المنصب وسيلة وليس هدف، وهو وسيلة لتحقيق العدالة.
الارادة المجتمعية الواعية (الكيف لا الكم).
التواصل مع القاعدة المجتمعية.
نبذ الاعلام الدعائي، بحيث لا يصح ولا يسمح لأي محاولات الترويج للذات التي توجه وعي المجتمع وتزيف إراداته.
معيار المواطنة: عند علي ع معيارها الإنسان المسالم، وإن لم يكن مسلما: إما اخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
إلغاء الامتيازات: ليست كل مساواة عدالة. والإلغاء يتم على أساس تحقيق العدالة. فقال ع: إنما انا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم .. وقال “من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق”.
المساواة أمام تطبيق القانون، قال ع لمالك الأشتر في عهده له: لا يفضل أحد على غيره… وليكن أمر الناس عندك في الحق سواء.
المحاسبة: السلطة – المسؤولية – المحاسبة، هذه المبادئ في الدولة المدنية، فمن تولى السلطة مسؤول ومحاسب، وهذا ما أكد عليه الامام ع .
استحداث مناصب كالشرطة، موظفين لهم راتب من بيت المال، يحفظون الأمن وتوفيره للمجتمع الكوفي. وأحدث ديوان المظالم، فقال لمالك الأشتر في عهده له: واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك. ويروى عن النبي ص: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع. وأما في مجال النقد فعليه كمسؤول في موقع السلطة أن: ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونَحِّ عنك الضيق والأَنَفْ، يبسط الله عليك أكناف رحمته، ويوجب لك أبواب طاعته. ثم فصل بين السلطات فنظم القضاء.
الحريات في عهد صدر الإسلام:
لم تسلب الجماعة المسلمة الحق في أن تمارس دورها في النقد والرقابة، وتعطى حق التوقف عن دعم الحاكم في حال ارتكابه للمعصية، أو خروجه عن مشروع الأمة الإلهي والسير بعيدا عنه، وقد دفع ذلك الخليفة الأول أبو بكر الصديق للقول:
“يا أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”
وللخليفة الثان يعمر بن الخطاب موقفا واضحا في هذا الصدد، فهو الذي خاطب المسلمين قائلا:
“ماذا لو رأيتم فيّ اعوجاجا؟ فأجابوه لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا. وقال: الحمد لله الذي وجد من يقوم اعوجاج عمر”.
وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كثرت الثورات والمعارضات السياسية، نتيجة تسلط بعض أقطاب بني أمية على مقومات الدولة، وفساد كثير من الولاة ونهبهم حقوق الناس وأموالهم، وكان أمثال عمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهما يمارسون دورهم في الإرشاد والنقد، وقد تم نفي أبا ذر بعيدا عن المدينة لهذا السبب، حتى توفي في المنفى ودفنه مالك الأشتر.
وقد وصل أمر الفساد إلى انقلاب السلمين على الخلافة، بثورة مكنت البعض من التسلل إلى دار الخلافة وقتل عثمان كتعبير عن السخط الذي وصل إليه المسلمين من انحراف الولاة وعدم عدالتهم، وعدم اتخاذ مواقف حازمة بحقهن تمنع الظلم وتعاقب الفاسد، وتعيد الحقوق لأهلها.
أما الإمام علي فخطب بالناس قائلا: وربَّمَا اِسْتَحْلَى اَلنَّاسُ اَلثَّنَاءَ بَعْدَ اَلْبَلاَءِ فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ اَلتَّقِيَّةِ اَلْبَقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ اَلْجَبَابِرَةُ وَ لاَ تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اَلْبَادِرَةِ وَ لاَ تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لاَ تَظُنُّوا بِي اِسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لاَ اِلْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، فَإِنّي لَسْتُ في نَفسي بِفَوقِ أَنْ أُخْطِئْ، وَ لا آمَنُ مِنْ ذلِكَ من فِعْلى إِلّا أَنْ يَكْفي اللّه من نفسي ما هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنّي. فَإِنمّا أَنا وأَنتم عَبيدٌ ممْلوكون لِرَبّ لا رَبّ غَيْرَه ”
فالخليفة الثاني عمر أكد على ضرورة تقويم اعوجاج الحاكم، وهذا لا يكون إلا بممارسة المسلمين لمسؤوليتهم في الرقابة، ومتابعة شؤون الحاكم، وتقييمه وفي حال أخل بالعدالة، فعليهم أن ينتقدوه ويعارضوه ويقوموه.
وقد حددها الإمام علي ع بضوابط:
النقد بحق، أي النقد ليس لأجل النقد والمواجهة ليست مجرد انفعالات نفسية، بل النقد والمواجهة عليها أن تكون محقة، ومن أوجه الحق الالتزام بالضوابط الأخلاقية والمبادئ القرآنية في النزاع والخصومة.
المشورة بعدل، وهنا يؤكد على مشاورة الناس في آليات تحقيق العدل في حال اعترض أخدهم على ذلك. فيفعل دور الناس في المشاركة السياسية ومراقبة أداء الحاكم.
تأكيده على مساواته كحاكم بالناس، كونهم جميعا عبيد مالكهم الله تعالى، وهذا التأكيد يحثهم على أداء دورهم السياسي في المشاركة والنقد والتقييم، والهدف تحقيق العدل.
وبذلك نجد أن في الإسلام كتشريعات وكبنية دولة، هي أسست لمنظومة حقوق وواجبات، ولمفهوم الحرية السياسية والاجتماعية ضمن ضوابط تمنع هتك الحرمات والكرامات، والتعدي على حقوق وكرامات وحريات الآخرين، وتمنع وقع أي فتنة تؤدي للإخلال بالعدالة أو الاستقرار الاجتماعي.
فشرعية الحاكم لا تستمد من شخصه كمصدر للحق، بل يستمد شخصه الحق في الحكم من الشرع وقبول الناس له، وبالتالي كان منهج التربية النبوية والقرآنية والعلوية هو تربية الناس والخواص بالذات على مبدأ التعلق بالحق، والنظر إلى الأفكار، لا التعلق بالأشخاص ورمزيتهم، بل يكتسب الأشخاص ومنهم الحكام والرموز رمزيتهم من مدى اندماجهم في مبادئ الحق والعدل والحقوق، ويتعلق الإسلام بتربية الإنسان على امتلاك القدرة على تشخيص مصاديق الحق الخارجية بنفسه، حتى لا يتم تدجينه ضمن برادايم (إطار ونموذج مغلق) يرسمه له الآخرون، يستغلون جهله أو عاطفته في فرض شخصيات رمزية كمصدر للحق، بل ينحصر الحق فيها، في قراءة إقصائية، حتى لو كانت هذه الرموز دينية، فالأصل هو الاجتهاد وهو باب من أبواب الرحمة المعرفية، التي تعطي مساحات لجميع المختصين، فهو مصداق جلي للتعددية القائمة على الدليل والبرهان، وليس تعددية فوضوية دون ضابط يُحَكّم معارفها.
فكان الأصل في التربية النبوية والقرآنية – كما أسلفنا – للناس هو التربية على الأفكار والارتباط بالفكرة الحق، فالحق لا يرتبط بشخص وجهة، بل ما يميز أي شخص أو جهة هو ارتباطهما بالحق من عدمه، فتمثيل الحق بأشخاص وحصره بهم أمر نسبي يختلف من شخص إلى آخر في المصاديق الخارجية.
فقد تتفق مجموعة على ما هو الحق، لكنها تختلف على مصاديقه الخارجية، لذلك الارتباط كان بالحق لا بالأشخاص. فجاءت التربية القرآنية والنبوية لوضع معيار كلي مرجعي، يتم من خلاله ضبط سلوك الأشخاص وفق هذا المعيار، ورفضت حصر الحق بأشخاص، لأنه من مثيرات الفرقة والفتنة، ومن مسببات الخندقة الاجتماعية. فكل جهة ستعمد إلى ادعاء انحصار الحق بشخصياتها الرمزية كرد فعل على حصر الحق بشخص بذاته، وهذا يشتت أصل معيار الحق.
وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:
“وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أَفإِن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أَعْقابِكم ومن ينقلب على عَقِبَيْهِ فلن يَضُرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين” آل عمران – ١٤٤
وهي آية غاية في الوضوح حول الارتباط بالحق حتى مع شخص بعظمة نبي الله محمد ص، لأن الأصل أنه نبي بلغ رسالة خالدة خاتمة، جاءت لتربية الإنسان وتوضيح طريق كماله، فإن غاب مبلغها أو رحل، عليها أن تبقى كمنظومة متكاملة حيّة متفاعلة مع الحياة عبر الزمن ومع كل الأقوام، كفكرة وليس كرمز إن رحل رحلت معه كل المنظومة.
فالحرية قيمة أداتية آلية للوصول إلى تحقيق العدالة التي هي بدورها قيمة أداتية لتحقيق الكرامة وهي القيمة الغائية التي تقوم الوجود الإنساني. لذلك فعل الإسلام ورموزه مبدأ الحرية المنضبطة، لتفعيل وتنجيز مبدأ الرقابة والنقد خاصة للسلطة، لرفع نباهة الإنسان بدوره ووظيفته، وتكريس شعوره بالمسؤولية الفردية والاجتماعية اتجاه محيطه وذاته، فهي لم تلغ الفرد لحساب المجتمع ولم تلغ المجتمع لحساب الفرد، بل رسمت وظيفة وحدود كل منهما، ضمن معيارية العدل والمساواة، وتحقيق الحرية وإقامة الحقوق والواجبات، التي تنظم علاقة الفرد بذاته ومجتمعه والسلطة، وتقيم العلاقات وفق مبدأ العدالة الذي يحفظ الحقوق، ويرسم حدود الواجبات، ويفعل وظيفة الإنسان التي تزيد من استشعاره بالمسؤولية خاصة في حال اختل ميزان العدالة، وانتهكت الحقوق، وقمعت الحريات وأهدرت الكرامات.
وهذا هو الفرق بين المرجعية في تشريع الحقوق والواجبات والحريات في الفكر الإسلامي، وبينها في الفكر الغربي، ولو استطعنا عمليا تحقيق التكامل بين الرؤى، وتفعيل مبدأ الحق والعدل، والدعوة إلى نظام إنساني عالمي يحترم كل الأفكار، ويقر المبادئ المشتركة، ويحترم الاختلاف القائم على اختلاف المرجعيات المعيارية، والمعرفية، واختلاف الهويات والجغرافيا، فإنه يمكن الارتكاز على ثوابت كلية إنسانية، واحترام الخصوصيات الجغرافية والهويانية، بما يحقق العدالة والرفاه للجميع، لا أن يتم ممارسة الاقصاء، وفرض رؤية أحادية للحقوق والحريات، دون أدنى احترام للخصوصيات والاختلافات، التي هي أساس في التنظيم البشري في العالم، الذي يقوم على الاختلاف، بالتالي يحترم الاجتهادات البشرية المختلفة، ويترك مساحة حرة لكل قوم بتنظيم رؤيتهم للحقوق الواجبات ضمن أطرهم الفكرية والمعرفية الخاصة. حتى لا يتم رفض أصل الفكرة نتيجة استخداماتها السيئة سياسيا لمصالح الدول العظمى، حتى لو سحقت الشعوب، وتمكنت كل أنواع السلطة والطغيان في المنطقة، لأن أصل استغلالها لهذه الحقوق هو ليس إيمانا منها بحق الناس والعدالة، بل بتحقيق مصالحها حتى لو على أجساد شعوب المنطقة.
إن العدالة معيار لتحقيق الحقوق والواجبات، ورفع منسوب الحريات، وما إن تتحقق العدالة في كل بقعة جغرافية حتى تتحقق كرامة الإنسان، ويرتفع منسوب نباهته ووعيه لدوره، وتقل مساحات الاستبداد والطغيان، ومساحات التدخلات الخارجية، وتتمكن الشعوب من تعيين أنظمة مؤسساتية تمثيلية، تكون كشعوب شريكة في هذه المؤسسات وقراراتها، فتضيق الشعوب بذلك مساحات الفساد، الذي يعتبر الثغرة القاتلة التي تستغلها الدول العظمى للتواجد داخل أحشاء كل وطن، لتنتشر فيها كالسرطان.
التعليقات مغلقة.