الحرب و الصّراع و المساومات على “الحقائق” بين طمس “الوقائع” و تزويرها السّياسيّ التّاريخيّ (1/2) / د. بهجت سليمان
د . بهجت سليمان* ( سورية ) – الخميس 8/10/2020 م …
* السفير السوري السابق في الأردن …
1▪︎ يبدو التّاريخ ، في جانِبٍ كبيرٍ منه ، على أنّه سجلّ للأحداث و الوقائع الاجتماعيّة و السّياسيّة التي تمثّل الصّراعات التّاريخيّة بين القوى المتناقضة و الأفكار المتضاربة ، في إطار شموليّة الأهداف التي تفصل بين الظّواهر التي تشكّل حدوداً متباينة ، للمفاهيم الدّاخلة في النّزاعات على القيم المختلفة ، بهيئة أفراد و جماعات و “قبائل كبيرة” و مجتمعات و دول و منظومات ، احتلّت مواقع المنافسات و التّحدّيات و التناحرات ، التي تتوزّع فيها القوى و التّيارات المتواجهة على خرائط العالم و مساحات الجغرافيا و الانتماءات المتغايرة ..
في الوهلة الزّمنيّة التي تؤطّر ظروف العنف الممارَس تحت شعارات حيويّة مقبولة و مسوّغة ، أو تحت ألوية صريحة و واضحة من التّحدّي و الجشع ، بدافع التّفوّق النّوعيّ أو بدافع ممارسة فائض القوّة الذي تختزنه “ثقافة” من الثّقافات ، التي تجاوزت قوّتُها المختزنة حدودَها ، في صرف النّفوذ و في التّوسّع و فرض نموذجها في صيغته المستكينة على الآخرين .
2▪︎ هكذا تتّخذ الصّراعات لها أشكالاً غير محدّدة ، أو معروفة ، بإجماعٍ ، ما بين الأطراف المتصارعة ، و متغيّرة تبعاً لظروف الزّمان و المكان و درجة التّطوّر الإنسانيّ الظّرفيّ و التَّقنيّ ، و ذلك من أبسط أشكال النّزاعات المسلّحة و المباشرة و حتّى أعقد أشكال الاحتراب النّفسيّ و الأيديولوجيّ و الإعلاميّ ؛
و قد صادف الزّمان أنّنا نعيش ابتكارات فظيعة في هذا الشّأن ، في هذا العصر الذي شهدنا و نشهد فيه حروباً معاصرة أكثر تعقيداً ممّا كان يُمكن ان يخطر في الخيال ، لولا أنّه قد تجسّد أمامنا كحقيقة مباشرة تكاد تكون يوميّة في تكرارها و ثبوتها في المرجعيّات الذّهنيّة التي تشكّل الوعي المعاصر ، مدعوماً بذاكرة مقاوِمَة لكلّ أشكال التّناسي و النّسيان .
و علاوةً على جميع ما يدخل في أسباب الحروب و النّزاعات “غير النّاعمة” من تحدّيات و صراعات على “الأشياء” المعروفة كمادّة للصّراعات و الحروب ، و ذلك من الحدود الجغرافيّة و السّياسيّة ، و حتّى أشكال و مضامين و أيديولوجيا الحكومات المختلفة .. مروراً بنزعات التّفوّق و فرض السّيطرة ، و الأفكار و المصالح .. إلخ ..
فإنّ ما تدور عليه الحروب ، عادةً ، هو أيضاً ما يدخل في أساسيّات هذه الحروب ، كرصيد إعلاميّ و اجتماعيّ و عالميّ ، يُضاف إلى مخزون الممتلكات المتواجهة في ساحات المعارك المباشرة .
3▪︎ ما أعنيه بِ”الحقيقة” ، هنا ، أو بِ”الحقائق” ، هي تلك “الوقائع” الصّادقة في الممارسة الأخلاقيّة في “الهجوم” و “الدّفاع” و توطيد الأغراض المستهدفة في الحرب ، بحثاً عن ، و عملاً على ، إقرار واقع محدّد تُضاف نتائجه إلى غاية الحرب الأخلاقيّة من المنظور الوطنيّ و القوميّ ، أوّلاً ، ثم ، ثانياً ، من المنظور الاجتماعيّ و السّياسيّ و الاقتصاديّ ، و أخيراً من المنظور الفكريّ أو الفلسفيّ ، و هذا كلّه ما يُشكّل “المنظور الأخلاقيّ” للحرب .
على هذه “الحقائق” ، و حولها ، تدور حروبٌ خاصّة ، و مستقلّة أحياناً ، و لكنّها لا تنفصل في محصّلاتها عن الأهداف العامّة للحرب نفسها ، و أغراضها المعلنة و المقبولة في أيديولوجيا الصّراع .
و الصّراع على “الحقائق” ليس موقوفاً على مناسبات الحرب ، مع أنّه يكتسب ، هنا ، أهمّيّته الخاصّة كوسيلة مساعدة في حسم الصّراع و تحقيق أهداف الحرب ..
إذ يُشكّل جزءاً يوميّاً و أسلوباً تاريخيّاً من وجود الأمّة أو الدّولة ، يشدّ من حاضرها و يُلهم مستقبلها و يكون لها بمثابة المخزون الدّائم من مسوّغات و أفضليّات التّطوّر و النّشوء .
و لا تشكّل هذه “الحقائق” التي نتحدّث فيها أيّ جزء من أجزاء “الهويّة” الوطنيّة هذه التي تصنعها الأحداث و الخطوب الجسام و تعزّزها التّضحيات المعروفة عند الشّعوب ..
4▪︎ مع أنّ الحقائق لا تنفصل عن مناسبات تعزيز واقع الانتماء و الهويّة و الصّفات الوطنيّة و القوميّة الأخرى لأمّة من الأمم..
و يمكن أن تشكّل تلك “الحقائق” قيمة أخلاقيّة و إنسانيّة تساعد في ظهور الأطراف في مواقع “الحقّ” ، لتكون سبباً إضافيّاً من أسباب المشروعيّة و الشّرعيّة في الصّراع ، و مسوّغاً أخلاقيّاً أوّليّاً و مستمرّاً من مسوّغات الحرب ، مع أنّ تلك “الحقائق” لا تُشكّل أيّ فارق نوعي “عقليّ” أو فكريّ أو شيئاً آخرَ من هذا القبيل .
و إذا كان الصّراع على هذه “الحقائق” يتّخذ له أهمّيّة قصوى في أثناء الحروب ، فإنّ هذا لا يعني أنّ تلك الحقائق ليس لها معنى في أيّام “السّلم” ، بل ربّما كان استقرارها في ظروف السّلم و امتياز جماعة أو أمّة بها ، ممّا يؤكّدها أو يساعدها على المثول واقعيّاً و الظّهور الأكثر إقناعاً في أوقات الحروب .
5▪︎يميل العالم ، اليومَ ، إلى الظّهور بمظهر “الإنسانيّة” الرّؤوم ، أكثر من أيّ وقت مضى ..
و قد يرجع الأمر إلى أنّ هذا “العالم” يُعاني ، بالفعل ، من عَوَزٍ وجدانيّ أخلاقيّ في من يقف على رأس قواه الفاعلة و المؤثّرة و المساهمة في تشكيل تطوّراته الحاسمة و الأخيرة ، فيُبالغ في أمر تمسّكه بزمرة الصّفات الأخلاقيّة تعويضاً عن فقدانه لها ، و مغالاة بالانحياز لها للتّسويق السّياسيّ التّاريخيّ و الاستهلاك الإعلامي في وقت واحد .
ويبدو الصّراع على “الحقيقة” كأحد أهمّ ما يُميّز فلسفات التّاريخ السّياسيّة التي يعتمدها الحاكمون بتضمينها لأفكارهم بمناسبة و بلا مناسبة ، ليتّخذوا منها ، في أوقات الحروب ، ذريعة من ذرائع ابتزاز “الآخر” في عمليّة من عمليّات احتكار هذه “الحقائق” و الادّعاء بها و اتّهام “الآخر” بتجاهلها و احتقارها في معرض الإخلال بالحقوق الإنسانيّة الأوّليّة التي يُعتبر تجاهلها ضرباً من الوحشيّة في أداء الصّراع و فقدان “السّمات الأخلاقيّة” التي على الحروب أن تجعل منها “مرجعيّة” أخيرة في تمدّد و اتّساع و تنوّع أشكال الصّراع .
من المفهوم كيف أنّ هذا النّوع من الصّراعات ، يأخذ أبعاداً خاصّة و هامّة و مؤثّرة في زمننا الذي يتميّز باتّساع تأثير وسائل الإعلام و الدّعاية الحربيّة و الحرب النّفسيّة ، التي أصبحت جزءاً أساسيّاً و ضروريّاً من وسائل الصّراع في الحروب ، و بخاصّة في ما يُسمّى بِ”القرن الواحد و العشرين ، المُبكّر” ، و الذي بدأ مع نهاية الحقبة السّوفييتيّة ، و سقوط “جدار برلين” في نوفمبر/ تشرين الثّاني (1989م) ، و بداية عصر “العولمة” .
6▪︎في كلّ حرب واسعة و مديدة و كبيرة ، ثمّة صراع تاريخيّ على “الحقيقة” ، كما عرّفناها ، أعلاه ، و ذلك لاحتكارها من قبل طرف من الأطراف ، أو من أجل إعادة صياغتها صياغة تتناسب مع الظّروف و الأهداف و الغايات الخاصّة بأحد الأطراف ، أو من أجل التّوسّع بمفهوم “الحقيقة” الأخلاقيّ ، تمهيداً لاستثمار هذا المفهوم في المناسبة السّياسيّة نفسها التي قامت في إطارها الحرب .
أصبح ، مؤخّراً ، الصّراع على “الحقيقة” ، “الحقائق” ، في أتون الحروب ، مبدأ أساسيّاً في أصول الحرب ، حتّى أنّه يكادُ يكون قد أصبح أحد أسلحة الحرب التي يتنازع عليها المتحاربون ، شعوراً منهم ، جميعاً ، أنّ عليهم يقع إثبات أخلاقيّة الحرب التي يخوضونها ، مع أنّها (الحرب) ، في النّهاية ، تتحدّد بطرفين ، على الأقلّ ، واحدٌ منهما معتدٍ و الثّاني مُعتدًى عليه .
يجري كلّ شيءٍ في هذا “الواقع” كممارسة للصّراع من أجل الهيمنة في طرف من الأطراف ، مقابل “المقاومة” المريرة لمحاولات الهيمنة و التّسلّط و الإخضاع .
7▪︎ و في هذا “الواقع” تختلط المفاهيم و تخضع في طرف منها لإسقاطات من منطلقات فوقيّة و استعلائيّة ، و في الطّرف الثّاني تخضع لدفاعات متعدّدة ضدّ الاستلابات التي تمارسها القوى العنيفة في تفوّقها ذي الأسباب التّاريخيّة المختلفة .
و تظهر “الوقائع” ، تحت تأثير الزّخم الإعلاميّ و الدّعائيّ المُركّز ، و كأنّها تحتاج ، بالفعل ، إلى إعادة قراءة أو إعادة نظر في ممارسات “محايدة” للوعي ، و هو ما يجعل المشهد الثّقافيّ شديد الاختلاط و يجنح نحو قطبٍ واحد وحيد على الأرض ، في عمليّة من عمليّات الاستقطاب الواحديّ المتفوّق بالعنف و الخداع التّقنيّ المتفوّق ، فيما تجنح الأكاذيب نحو أن تحتلّ مواقع الصّدق الواقعيّ في قراءة “الحقائق” الواقعيّة التي يجري عليها التّزوير الممنهج و طمس تلك التي تشكّل مانعاً جدّيّاً في وضوح صورة الواقع على ما هو عليه بالفعل .
8▪︎ كانت الحرب الدولية – السّوريّة “مناسبة” عمليّة قريبة جدّاً و مثالاً لما تقدّم من تنظير حول التّعسّف الفظّ في استخدام “الوقائع” ، بعد تحليلها المختبريّ الدّعائيّ تحليلاً يقلب صورتها قلباً شاقوليّاً كاملاً ، و طمس بعضها و تزوير بعضها الآخر ، في حرب شديدة الاستقطاب ، نظراً لما كان العدوان على سورية يطمح وراء هذه الحرب ، من إخضاع سياسيّ كامل للدّولة السّوريّة ، و ذلك بعد تخريبها تخريباً شاملاً و تدمير كلّ ما يمكن تدميره فيها ، في إطار مرافقة الآلة الدّعائيّة الهائلة التي تصنع من الأكاذيب واقعاً حيّاً ، بالصّوت و الصّورة و الفكرة و النّصّ و الخطاب ، بينما تحرم الحقيقة الواقعيّة من الوصول إلى أمكنتها الضّروريّة في وعي الشّعب بفئاته و جماعاته المختلفة ، ناسفة ، بذلك ، كلّ أساسٍ لوضوح الصّورة الذي يُعجّل بالنّتائج الطّبيعيّة التي يجب أن تكون عليها نهايات الحرب كما هي عليه اليوم شاهدة أمام الجميع في زمان النّهايات الوشيكة للصّورة الأوّليّة المشوَّهة التي كانت لهذه الحرب .
9▪︎ بدأت الحرب بتجييش المشاعر الغريزيّة التي تسكن في أعماق الإنسان المعاصر ، عن طريق حشد الرّأي العام العدائيّ للدّولة السّوريّة بحجة أنّ الدّولة غير ديموقراطيّة و تصادر “الحرّيّة” و تقتل شعبها في السّجون و الشّوارع ، و هو ما يشكّل ، عبر ” البروباغندا ” ، تحدّياً عميقاً لأخلاق العصر في العالم ” الحرّ ” و في كلّ مكان آخر شهد المدنيّة المعاصرة .
تعاضد مع هذه الدّعائيّة السّياسيّة أسطول من المحطّات الفضائيّة العربيّة و الأجنبيّة ، و سُخّرت لها أموالٌ بأرقام فلكيّة لا تخطر على بال الفقراء الذين بدأوا يدفعون أثمان الحرب من حياتهم و دمائهم و استقرارهم و حاضرهم و مستقبلهم منذ الأيّام الأولى للحرب . لقد تسارعت أحداث الحرب على سورية بفعل حجم التّخطيط المسبَق لها و نجوزها في دوائر التّخطيط العالميّ قبل اندلاعها على الأرض .
و لأنّها حرب الأيديولوجيّات المتصارعة على مستقبل الثّقافة و الهويّة و الانتماء ، تبيّن مبكّراً كيف انحرفت الآلة الدّعائيّة للحرب نحو تزوير المصطلحات و المفاهيم و الكلمات الدّالّة على “الحقائق” ، بما في ذلك تزوير و تشويه الحقائق نفسها بالأسلوب نفسه الذي زُوّرت به الوقائع في حرفيّة و تقنيّات معاصرة ربّما استعملت لأوّل مرّة في هذه الحرب ، و هذا ما عكس الأهمّيّة القصوى التي عقدها برابرة الدّمار و التّدمير على مستقبل هذه الحرب الذي اعتبر منذ اليوم الأوّل لها بحكم الحاصل على الأرض .
10▪︎ في كثير من محطات هذه الحرب ، كان “الإعلام” يسبق الصّراع على الأرض في تقرير رغبات تأجيج حرائق الحرب ، مثلما كان قد ظهر بوضوح قاموس مستحدث و جديد من المفاهيم و المصطلحات التي لا سابق لها ، و ذلك في إطار الحرب على “الحقيقة” ، الحرب على “الحقائق” ، و تدمير المضامين العمليّة للحقائق على الأرض ، و حرفها نحو دلالات جديدة تماماً ، بما في ذلك طمس “الحقائق” المستقرّة في المخيال الاجتماعيّ التّاريخيّ و السّياسيّ لمفهوم الهويّة و المواطنة ، و تأليف “حقائق” مزعومة جديدة ، تحلّ كبديل للقيم الثّابتة ، بعد زحزحة تلك المستقرّة و التّشكيك فيها و حذفها ، إن أمكن ..
و هذا ما حصل ، بالفعل ، في الكثير من الحالات التي شهدت تزعزعاً في ثبات القيم و تفكّكاً لأواصر الّلحمة التي تجعل من العبارة الوطنيّة حالة ثابتة بمدلول محدّد سابق و غير خاضع لإعادة النّقاش ..
في وقت استطاعت فيه هذه الحرب المصنوعة بإتقان أن تعيد طرح المسلّمات الوطنيّة و القوميّة و الثّقافيّة ، من جديد ، على بساط البحث ، بعد أن كان قد طواها الزّمان – كما يُفترض أن يكون – في عداد البديهيّات و المسلّمات وفق أقلّ التّوقّعات السّياسيّة و الاجتماعيّة تفاؤلاً و ثقة بالجغرافيا و التّاريخ و الإنسان السّوريّ .
التعليقات مغلقة.