قراءة في ديوان ” جرافيتي على جدران القلب ” للشاعر فرحات فرحات / شاكر فريد حسن

 شاكر فريد حسن ( فلسطين ) – السبت 17/10/2020 م …



” جرافيتي على جدران القلب ” عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة للصديق الشاعر الديلاوي فرحات فرحات، كانت قد صدرت قبل فترة من الزمن، عن مكتبة كل شيء الحيفاوية لصاحبها الناشر الأستاذ صالح عباسي، ووصلتني قبل أيام بعد اعتقالها في البريد بسبب الاغلاقات والكورونا، وهي تضاف إلى مجموعتيه السابقتين ” أن نشرب السراب” و” ضيف شغف “.
فرحات فرحات شاعر عريق له حضوره في المشهد الأدبي والثقافي الكرملي والمحلي القطري منذ السبعينات من القرن الماضي، نشر كتاباته في الصحافة الفلسطينية في الداخل والخارج، وصدر له في مجال السرد القصصي ” ريترو “، ورواية ” القضية رقم 13 ” بالاشتراك مع الشاعر مجيد حسيسي، فضلًا عن كتابه ” لكل إنسان الحق في بداية جديدة “.
جاءت المجموعة الجديدة ” جرافيتي على جدران القلب ” في 270 صفحة من الحجم المتوسط، بطباعة فاخرة، ومن تصميم شربل إلياس، وقدم لها الدكتور حسين حمزة. واشتملت على قصائد غنائية، غنية بالصور التي تجعل منها لوحات شعرية تفتح أمامنا عوالم ومحاور لا تنتهي سعة وعمقًا وأبعادًا، وتقنية جمالية في البناء الشعري، وتتركز حول الأنثى والمكان والقصيدة.
وعلى الغلاف الخلفي للمجموعة نقرأ شهادات للشاعر نمر سعدي، والشاعر المترجم نزار سرطاوي، والدكتور حسين حمزة. فيقول نمر سعدي : ” فرحات فرحات يكتب قصيدته بثقة عالية وحساسية مرهفة .. يقذف بها طازجة.. خضراء.. شهيّة في وجه الوجود.. شفافة متموجة حينا وجارحة فارهة بجمالها حينا آخر.. كأنها أميرة كنعانية تطلُّ على لازورد البحر غربا وتستندُ على سحر وإشراق سهول الجليل، هذا الشاعر المسكون بتجليات الوجد والحب يجيد قنص لحظته الشعرية بمهارة وخفة “. أما نزار سرطاوي فيكتب قائلًا: ” القصيدة الفرحاتية هي لوحة جرافيتي على جدار قلبه- لوحة طافحة بالوجع، تمتزج مع اللغة فتصبب نبيذًا، لكنها إذ يستفزها الغضب الفلسطيني، تشفى من صنوف التورية وتنطلق كأنها ضربة حرّة مباشرة “.
في حين يشير د. حسين حمزة إلى أن ” القصيدة عند فرحات فرحات، مرهونة بفعل الولادة والحياة فنجدهُ يؤثثُ قصائده بحقلٍ دلالي يحيلُ إلى مفردات الحياة وهي أداةٌ لتغيير الواقع، تسعى لأن تكون المكان/ النص الذي تتجاور وتتحاور فيه الأضداد لتُشكل رؤيا الشاعر في قصيدته التي لا تنحني”.
يبدأ فرحات فرحات مجموعته الشعرية بقصيدة ” عاقر نداك ” ويختتمها بـ ” لا شيء كالمساء”، وعلى امتداد صفحاتها نقرأ قصائد في الحب والوجد والمؤانسة والجمال وسحر الطبيعة والمكان ، وحول الانثى والوطن والوجع الإنساني، ونلمس طغيان الوجدانية والرومانسية والنزعة الإنسانية. فهو يبحر في عالم وجداني بخيال خصيب، وكلمات منسابة وغنائية باذخة، وموسيقى عذبة، ويعبر عن مشاعر جياشة وأحاسيس وجدانية عميقة.
وفي قصائده نسائم فواحة طافحة بالإيحاءات الدلالية والرمز الشفاف، وإيقاع مموسق متناسق وصياغة فنية محكمة الأواصر للسطور والجملة والعبارة الشعرية، ولنسمعه يقول عن المرأة التي خرجت من عباءة قصائده ذات مرة، في قصيدته الرقيقة “صحنٌ طائر”:
المرأةُ التي خرّجتْ من قصائدي
ذاتَ مساءْ،
لمْ تعُد.
عشرون عامًا
مُنذُ أن بَزغتْ كَصنٍ طائرٍ
وأنا أصوغُ قلائِدَ الأشعارِ
مرآة لأعناقِ النساءِ
وسبحةً للعاشقين
عشرونَ عامًا،
كمْ كبُرنا
والقصائدُ لم تزَلْ تحبو
على كحلِ الجفونِ
وعلى سُهادٍ من أثير
ذهبتْ
ولمْ تترك غبارَ الأمسِ
يحملُ قصفةً من أرجوان
وحفنةً من كستناء
وأنا أورفيوسُ،
أنزفُ لهفتي
وأناملي خدَرٌ يداعبُها
فلا تقوى على قيثارتي
ويلفني صمتٌ على وترٍ
وترٌ على صمتٍ ثقيلْ
فرحات فرحات مُفعم بالإحساس والنبض والوجدان والعفوية يعطي للكلمة حقها وللحروف وقعها، يرسم نصوصه بتشكيلات جمالية عميقة المدى، استطاع خلالها ترسيخ ملامح شاعريته ورؤيته الحداثوية المعاصرة للقصيدة، يمتلك لغة شعرية غنائية مميزة، تكتسب ميزتها من غناها بالدلالات والإشارات والإيحاءات والصور الشعرية المخملية والتعابير الأنيقة المكثفة المختصرة، وهو قادر على استنطاق الطبيعة بما فيها من خضرة ونضرة بهمساته بالغة السحر والجمال والطلاوة والقوة، وفي امتداد سطوره بالثراء اللغوي الدلالي للعبارة الرامزة بإيحائية شفافة، وتكمن في بنيتها تجليات لحياة إنسانية خالصة بعيدة عن العنف والقلق والتوتر، يفرغ فيها دفق مشاعره وأحاسيسه المتهيجة وانفعالاته الداخلية وتوتره النفسي العميق.
فرحات فرحات بكل ما يكتبه ذو إحساس متوقد دافئ، يغرق في الطبيعة، يغوص في البحر، يلتقط اللؤلؤ والمرجان، ويحلِّق في الفضاء الشعري، ويتحول لمصور بارع تلتقط كاميرته الالوان والأصباغ والأضواء والظلال وأشعة الشمس الساطعة بكل تفصيلاتها الدقيقة، ويرسمها في لوحة شعرية فنية خلّاقة مترعة بالجمال والروعة والرقة بمختلف الصفات والدرجات والدلالات.
ويبقى القول، فرحات فرحات شاعر حداثي غنائي، يصدح كالهزار فوق الكرمل، تمتاز قصائده بتقنية الغموض الشفاف والسهل الممتنع، توشيها نفحات إنسانية في منتهى الدهشة والجمال، سواء من حيث المضمون والشكل الفني والصور الرامزة، ينتقي ألفاظه ببراعة فائقة وبعناية شديدة، ونصوصه متساوية في درجاتها وديباجتها ومستواها الفني وصياغتها الشعرية. وهو يجيد في بوحه وتعابيره، ويبدع بمخيلته الشاعرية، وفي ثنايا قصائد هذه المجموعة نستشف الخيال الشعري، والكلمة الشفيفة المعبرة، والحس المرهف والنغمة المحببة للمتلقي، والرمزية الموحية والشاعرية المبدعة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.