د. أمين محمود يكتب: المؤسس الحقيقي للصهيونية السياسية
ان اول دراسة حقيقية للصهيونية السياسية يكتبها مفكر يهودي، ظهرت في الكراس الذي وضعه ليو بنسكر (١٨٢١-١٨٩١) عام ١٨٨٢ بعنوان التحرر الذاتي “Auto Emancipation” ، وقد كتب الكراس باللغة الألمانية، اذ ان غالبية اليهود الروس كانوا يستعملون لغة اليديش Yedish القريبة من الألمانية (85% من مفرداتها ألمانية).
وكان الكراس يحمل عنوانا تكميليا : “نداء من يهودي روسي الى بني قومه والعمل من اجل تحقيق * الاستقلال القومي والوعي الوطني” ، وآثار الكراس ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض.
كان بنسكر ينتمي الى الشريحة البورجوازية من يهود روسيا. وحظي في مطلع حياته بثقافة روسية علمانية بالإضافة الى ثقافة الهسكلاة ( كلمة عبرية تعني حركة الاستنارة او التنوير اليهودية). وقد ظهرت هذه الحركة في منتصف القرن الثامن عشر واستمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر. وكانت تدعو اليهود الى الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها والتمسك باليهودية كدين فقط. وقد ازدهرت حركة الهسكلاة في ألمانيا وامتدت بعد ذلك الى دول أوروبا الأخرى.
بقي بنسكر طيلة الفترة ما بين عامي ١٨٦١-١٨٨١ متمسكًا بدعوته لاندماج اليهود الروس في مجتمعهم الروسي .وظل يدعو اليهود الى ضرورة الأخذ باللغة الروسية والثقافة الروسي وكافة أوجه الحضارة الروسية. وكان تبرير بنسكر لالتزامه بهذه الدعوة طيلة تلك الفترة اعتقاده بان نظام الحكم الروسي لا بد ان يتطور لكي يصبح ملكيا دستوريا على النسق البريطاني، تعيش في ظلاله جميع الشعوب بمساواة تامة.
وكان بنسكر قد احس انه مع بداية انهيار النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في روسيا، سيصبح المجال مهيأ لاتباع خطى الدول الأوروبية الغربية وتبنيها الخط الليبرالي، لا سيما بعد ظهور الطبقة الوسطى على انقاض النظام القديم وسعيها للحصول على مزيد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي المكاسب السياسية. ولكن هذا الحماس الشديد الذي ابداه بنسكر لعملية اندماج اليهود في المجتمع الروسي وتخليهم عن عزلتهم التقليدية آثار تساؤلات هامة حول مغزى وجدية هذا الحماس! غير ان هذه الدعوة الاندماجية لم تكن مقتصرة على بنسكر وحده، فقد كان هناك عدد آخر من المفكرين اليهود أمثال سمولينسكين وليلينيوم وبن يهودا ممن ارتفعت اصواتهم بنفس الحماس لهذه الدعوة. والغريب ان تأتي هذه الدعوة في أعقاب تحرير الأقنان الروس Serfs عام ١٨٦١، وحدوث هزات اجتماعية واقتصادية كبيرة في روسيا لدرجة انه بات بالإمكان تفسيرها كمحاولة لتجنيب اليهود مغبة الوقوع هدفًا لانتقام الأقنان في أعقاب تحريرهم. بسبب المواقف اليهودية الرافضة للاندماج وسلوكهم الاستغلالي في المجتمع الروسي. وهكذا فإن الدعوة الاندماجية يمكن اعتبارها محاولة للخروج الموقت من الأزمة التي تصور اصحاب هذه الدعوة ان اليهود سيواجهونها لا محالة.
ويفسر غالبية الكتاب تحول بنسكر الى صهيوني بانه جاء نتيجة مباشرة للاضطهادات التي تعرض لها اليهود في روسيا عام ١٨٨١ نتيجة تورط عناصر يهودية في مؤامرة اغتيال قيصر روسيا الإسكندر الثاني. وبعبارة أخرى فان حلول وآراء بنسكر الصهيونية جاءت كرد فعل للمعاناة اليهودية . والغريب ان هذا المنطق الصهيوني التقليدي في تفسير المبادرات الصهيونية باستمرار على انها مجرد ردود فعل الهدف منها حماية الكيان اليهودي من خطر خارجي يتربص بأفراده ليدفع بهم صوب مزيد من الشقاء والمعاناة . فهل كانت حلول واراء بنسكر الصهيونية حقيقة مجرد رد فعل للمعاناة اليهودية ؟
لعله ليس من قبيل الصدفة ان يأتي ظهور كراس بنسكر فور عودته من جولة قادته الى بريطانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى. لقد أمضى فترة في لندن اجتمع خلالها بعدد من زعماء الجالية اليهودية وبعض الساسة البريطانيين. وكانت الشكوى لدى غالبية الزعماء اليهود الغربيين، وتركزت حول الهجرات اليهودية المتزايدة الى أوروبا الغربية وضرورة الحد منها عن طريق إقناع اليهود الروس وإغرائهم بالتوجه الى منطقة بديلة أخرى يلجأون اليها ويتخذونها وطنا لهم. وقد جاءت اقتراحات بنسكر ملبية لرغبات البرجوازية اليهودية الغربية حين اختار مناطق خارج القارة الأوروبية لتوطين اليهود في أي واحدة منها.
لقد بات واضحا ان مصالح البرجوازية اليهودية الغربية كانت تكمن وراء العمل على وقف السيول المتدفقة من هجرات اليهود الروس صوب أوروبا الغربية وإيجاد البقعة البديلة ليتخذ منها هؤلاء المهاجرون وطنا لهم. وجاشت آراء وحلول بنسكر التي طرحها في كرااسه معبرة تماما عن مصالح البرجوازية اليهودية الغربية وتقدم الخدمات والحلول لمشاكلها . ففي الوقت الذي كان فيه يدعو بنسكر الى هجرات يهودية واسعة لبعث “الوطن القومي” اليهودي نراه يبدي حرصه الشديد على مصالح ومكانة البرجوازية اليهودية، فيدعو في كراسه الى احترام رغبتها في البقاء في أماكنها واستثناء أفرادها من الانضمام للمهاجرين والبقاء حيث هم حتى في البلاد التي لا تسامح فيها مثل روسيا وباقي دول أوروبا الشرقية ( Arthur Hertzberg , The Zionist Idea , 187 ) . والغريب في هذا الصدد ان بنسكر حينما تناول مصير عدة ملايين نسمة من اليهود الروس نجده يشير اليهم على انهم مجرد “فائض وفضلة”، يجب العثور على وطن لهم يلجأون اليه. وبالرغم من ان هذا العدد كان يشكل الغالبية في ذلك الوقت، الا انه يبدو ان بنسكر لم تكن تهمه الغالبية بقدر ما كانت تهمه تلك الشريحة القليلة من المتنفذين اليهود التي حققت لنفسها شانا عاليا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية . فحل مشكلة “الشعب اليهودي” كما طرحها بنسكر كانت تكمن في المقام الأول في تحرير البرجوازية اليهودية من الأعباء المترتبة عليها نتيجة هجرات فقراء اليهود الروس الى أوروبا الغربية، أي بعبارة أخرى حل مشكلة الفئة المتنفذة من خلال اقتلاع وتهجير الأغلبية الساحقة من الجماهير اليهودية. ويتضح منظور بنسكر الطبقي حين يتحدث عن تركيب الهيئة الإدارية والشركة اليهودية التابعة لها والمختصة بالإشراف على بتهجير اليهود خارج القارة الأوروبية، فنجد ان العناصر المندرجة فيها عناصر بارزة وثرية تمثل الشريحة البرجوازية التي كان ينتمي اليها بنسكر وهي التي أشار اليها دوما بـ “نحن” ، في حين انه كان يشير الى الأغلبية اليهودية التي يعمل على تهجيرها بـ “هم” … فتحرير “نحن” من “هم” هو المعنى الكامن فيما بين سطور كراس “التحرير الذاتي”.
يستهل بنسكر كراسه بالإشارة الى الصعوبات التي كان يواجهها المهاجرون اليهود الى أوروبا الغربية وعدم مقدرتهم على “الذوبان في كيان أممها “، وهذا في نظره يعود الى كون اليهود “عنصرًا متميزًا عن باقي الشعوب”، وحل المشكلة لا يتم الا عندما “تصبح المساواة بين اليهود وباقي الشعوب أمرًا واقعًا” . وعدم التوصل الى هذه المساواة – في رأيه – يكمن في عدم وجود * وطن أبوي * Vaterland * للشعب اليهودي * رغم كثرة * أوطانه الأم * Materlander . فهو لا يتمتع بمحور مركزي او مركز ثقل ، وليست لديه * حكومته الخاصة او من يمثله ، وأنه حاضر في كل مكان وليس له بيت في أي مكان ( Hertzburg , p. 189 ) .
وانطلق بنسكر في حديثه عن عدم وجود * دولة * لليهود او * حكومة * او وكالة * خاصة بهم الى القول بان هذا الوضع قد ادى الى عدم بلورة شخصية قومية * للشعب اليهودي * تتعامل معها الشعوب الأخرى بشكل طبيعي بالرغم من ان * الأمة اليهودية * – في رأيه – بقيت قاىمة داىما كأمة روحية . وهنا تحل العوامل الميثولوجية لدى بنسكر محل العوامل والمنهجية العلمية . بإصراره على ان * الأمة اليهودية * موجودة بسبب * وحدة التكوين الروحي * لليهود و * ماضيهم التاريخي الواحد * وأنها * أمة ثابتة عبر التاريخ * ، يمثل ادعاء لا يقره أي مفهوم للامة باي شكل من الأشكال ، فالأمم ليست أزلية ، بمعنى انها تتشكل في مكان وزمان معينين ، ثم تخلد عبر العصور والأزمنة ، غير متاثرة بتبدل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الكون ( انظر : لطف الله حيدر ، الجذور الطبقية للحركة الصهيونية ، شؤون فلسطينية ، عدد ٣٦ ، ص ١٠٢ ) .
ان المتأمل في مقولة * الأمة اليهودية * التي تدعي انها ظلت تنتظر وترنو ببصرها الى * صهيون * طيلة ألفي عام * للعودة * اليه وبناء * دولتها * ، يظهر لنا ان هذه المقولة لا يمكن ادراجها الا ضمن تلك التزييفات الفاضحة التي وجدت بشكل او باخر مسارب لها في سجل تاريخ البشرية . فإذا القينا نظرة سريعة على طبيعة الحياة التي كان يعيشها قدماءاليهود ، تبين ان مجمل ما حصل في تلك الفترة لا يعدو ان يكون قيام كيان يماثل في معالمه الأساسية تلك الدويلات التي كانت تقوم وتنشا في عهد العبودية . فقد كان ذلك العهد عهد الحروب القبلية المتواصلة التي * تنشب من اجل السلب والنهب والاستيلاء على افصل الأراضي ، وكانت أشكال الدولة تتعاقب والأقوام والفباىل تتخالط فيما بينها ، وتنتقل للعيش في البلدان المحاورة (ماهر الشريف ، أسس الايدولوجية الصهيونية ، شؤون فلسطينية ، عدد ٤٧ ، ص ١١٦ .
وفي محاولة لاثارة حماس الجماهير اليهودية لدعوته ، أخذ بنسكر يركز أفكاره على وجوب إسقاط الرغبة لدى هذه الجماهير في السعي نحو * الوجود القومي المستقل * . لقد اعترف بنسكر بعدم استجابة غالبية الجماهير للهجرة حتى ولو كانت هجرة منظمة .وطبقا لرأي بنسكر فان غياب الرغبة في * الاستقلال القومي * لدى عامة اليهود ادى بهم الى ان يظلوا * تاىهين في الدنيا شعب اشباح يتجول عبر القرون التاريخية روحًا بدون جسد * . وقد مضى بنسكر في تحليله هذا الى القول بان العالم على مر السنين انتابه شعور الخوف من هذا * الشعب * الذي اصبح يمثل * شبح الموت المخيف الذي يجول وسط الأحياء * . وبما ان الإنسانية * تكره الأشباح * ، فانه لا عجب إذا أخذت شعوب العالم تنزل باليهود * الاضطهاد والتعذيب * . ومن هنا انطلق بنسكر ليطرح قضية * اللاسامية * او حركة معاداة السامية . والغريب في هذا الصدد ان بنسكر لم يحاول في كراسه العمل على مقاومة هذه الحركة واستئصال مسبباتها ، وإنما وجد فيها مادة حيوية لاستغلالها كقوة دافعة للجماهير اليهودية في تغيير مسار هجراتها بعيدا عن أوروبا الغربية وتحويلها صوب فلسطين او أي منطقة أخرى خارج القارة الأوروبية . لقد اعتبر بنسكر اللاسامية نوعًا من أنواع الأمراض مستعصية الحل : * الهلع المرضي من اليهود Judeophobia وهو شذوذ سيكولوجي ، ومرض موروث انتقلت عدواه الى الأجيال المتلاحقة عبر آلاف السنين وهو مرض غير قابل للشفاء ( Hertzburg , p. 185 ) .
ويستخلص بنسكر من هذا التشخيص استنتاجًا مؤداه ان لا جدوى من أي عمل لمقاومة الحركة اللاسامية ، وقد عبر عن ذلك بقوله انه بعد الانتهاء من تحليل ظاهرة الهلع المرضي تبين انه نوع من الديمونوباثيا Demonopathi وهو الخوف المرضي من الجن او الشياطين الموروث والذي يختص به الجنس البشري . وبعد تصوير معاداة السامية على انها ظاهرة تستند الى شذوذ موروث للعقل البشري ، لا بد لنا ان نستخلص انه لا يمكن للصراع ضد هذه الظاهرة من الكراهية الا ان يكون عديم الجدوى مثله في ذلك مثل أي صراع ضد الميول الموروثة . وهكذا يتضح ان المنطق الذي استخدمه بنسكر في تحليله هو نفس المنطق العنصري الذي كان يشكو منه . فهو يعتبر ان اللاسامية موجودة طالما كان الإنسان موجودًا ، وهي – على حد تعبيره – من خصائص الطبيعة البشرية غير اليهودية ، والتي لا تتغير بتغير الزمان او المكان طالما ان هناك يهودًا في المجتمعات البشرية .
وقد تاثر هرتزل بآراء بنسكر ، فانطلق بفكره السياسي من المنطق العنصري المتضمن ان الحركة المعادية للسامية موجودة مع الإنسان باستمرار ، ويترتب على ذلك نتيجتان أشار إليهما هرتزل وبعض المفكرين الصهاينة الآخرين وهما :
ا- طالما ان العداء للسامية متأصل بالشعوب بشكل داىم فان هذا يدل على ان * الأمة اليهودية * موجودة وجودًا * أزليًا * ومستمرًا أيضا .
ب- وطالما ان العداء للسامية يكمن في الطبيعة البشرية بشكل مستمر ، فان البحث عن وطن يهودي في فلسطين او غيرها هو الحل الوحيد لهذه المشكلة .
.ومما يميز بنسكر عن غيره من المفكرين اليهود أمثال القلعي وكاليشر وحتى هس ، انه دعا الى تكوين قوة يهودية مادية فاعلة تبدو وكأنها تعمل معتمدة على نفسها في سبيل * بعث الوطن القومي اليهودي * ، وتتظاهر باكتفاىها بمجرد تنسيق الجهود مع القوى الأوروبية الكبرى وخاصة بريطانيا ، وبتعبير اخر طرح بنسكر ضرورة التصرف بشكل يوحي بان المبادرة كأنها صادرة من اليهود أنفسهم ، في حين ان المفكرين الآخرين كانوا حريصين على ان تصدر المبادرة من الدول الأوروبية الكبرى لاستغلالها في محاولة إقناع الجماهير اليهودية بالهجرة الى * الوطن * المقترح .
ولتحقيق هذه الغاية ، دعا بنسكر الى إقامة الأدوات التنفيذية المباشرة ، تنظيميًا وإداريًا وسياسيًا وماليًا، من اجل البدء فورا في العمل على بناء * الوطن القومي * لليهود . لقد وجد بنسكر في الجمعيات اليهودية المنتشرة في روسيا النواة المطلوبة لبناء الهيكل التنظيمي الأولي لاستيعاب التحرك القومي اليهودي . ودعا الجمعيات الى صهر أنفسها في * مجلس قومي * لتنبثق عنه هيئة ادارية يهودية تقرر أولًا اختيار المنطقة المناسبة لتوطين بضعة ملايين من اليهود ، وتعمل من اجل توفير الدعم الكافي من اكبر عدد ممكن من الدول الأوروبية لتنظيم الهجرة اليهودية الواسعة من خلال شركة مساهمة تقام لهذا الغرض . ورغم التحرر الذاتي الذي يدعيه الكراس بعنوانه ، فان بنسكر لم يقترح نزوحه هو وأفراد طبقته ، وإنما اقترح فقط طبقة فقراء اليهود ، اذ قال : * … يجب ان يكون الهدف الرىيسي للهيىة الإدارية هو ايجاد وطن امن يعيش فيه بطمأنينة الفائض من أولئك اليهود الذين يعيشون * كبروليتاريين * في مختلف البلاد الأوروبية ويشكلون عبئا على المواطنين الأصليين …لذلك يجب التأكد من ابعاد ألفاىض من هؤلاء اليهود غير القادرين على الذوبان وتوفير المقام لهم في مكان اخر ( Hertzburg , p. 105 ) .
ويلاحظ ان الاقتراح الذي طرحه بنسكر حول إنشاء شركة مساهمة يهودية للإشراف على عملية تهجير اليهود وخاصة من روسيا قد تكرر في كتابات تيودور هرتزل . وإذا ثبت صدق ادعاء هرتزل بانه لم يسبق له ان اطلع على كتابات بنسكر فان هذا يقودنا الى واحد من احتمالين : إما ان يكون هذا التكرار مجرد توارد خواطر وإما – وهذا هو الأرجح – ان يكون للاتصالات الوثيقة بين كل من بنسكر وهرتزل مع الأوساط البرجوازية اليهودية بشكل خاص والرأسمالية الغربية بشكل عام اثر واضح في تشابه الحلول التي طرحها هذان المفكران ، أي بعبارة أخرى كانت هذه النوعية من المفكرين الصهاينة تعكس الى حد كبير مصالح الأوساط السالفة الذكر .
وإذا ما عدنا الى الشركة المساهمة التي اقترحها كل من بنسكر وهرتزل ، فانها كانت تمثل فيما تمثله طموحات راس المال اليهودي في تكوين شركة استعمارية ناجحة وكبيرة يجني من ورائها الفواىد تكان ي اكثر وضوحا من بنسكر في هذا الصدد ، حيث أشار الى إمكانية استغلال الاحتياطي الكبير من اليد العاملة الرخيصة المتوفرة لدى يهود أوروبا الشرقية ، شريطة ان تكون الكلمة العليا في هذه الشركة للشخصيات اليهودية* المرموقة * من رجال المال والأعمال . ويلاحظ ان بنسكر كان داىم الحرص في كتاباته على إبراز الصلة الوثيقة بين أية مبادرة صهيونية وبين الإمبريالية العالم التي بقيت بريطانيا تقودها حتى الحرب العالمية الثانية . ولقاء الدعم السياسي والعسكري الذي كان من المفروض ان يتلقاه المستوطنون اليهود من الدول الغربية ، فان هؤلاء المستوطنين كانوا على أتم استعداد للقيام بدور العمالة السياسية والاقتصادية للمستعمرين الغربيين في المناطق المحيطة بمركز استيطانهم .
وتفسر غالبية الدراسات الصهيونية احجام بنسكر في الإصدار الأول لكراسه عن الإصرار على فلسطين كمركز للتجمع الاستيطاني اليهودي بانه ناتج عن عدم تشربه الثقافة الجيتوية ، حيث كانت نشاته نشاة
علمانية . والغريب ان بنسكر بعد عامين فقط على كتابة كراسه ، ينتخب رئيسا لجمعيات أحباء صهيون ويصبح من اشد المتحمسين للاستيطان اليهودي في فلسطين . ولعل التفسير الوحيد لهذا التغير في موقف بنسكر يعود الى انه اصبح يعي ابعاد السياسة الغربية والبريطانية منها بالذات . فقد اطلع على محاولات بريطانيا المتكررة منذ أواسط القرن التاسع عشر لإنشاء كيان يهودي * عميل * في منطقة الشرق الغربي يعمل على تثبيت دعائم نفوذها الاستعماري حتى تحين الفرصة المناسبة لتمزيق جسم الدولة العثمانية . ولكن رد الفعل اليهودي بقي ساكنًا تجاه هذه المحاولات نظرا لعدم وجود قوة عسكرية توفر لهم الحماية في حال توجههم نحو فلسطين للاستيطان فيها . غير ان الأمور على ما يبدو تغيرت في أعقاب احتلال بريطانيا قبرص عام ١٨٧٨ ثم مصر عام ١٨٨٢ . وهكذا أصبحت الحاجة ملحة لبريطانيا في ايجاد كيان سياسي موال لها في فلسطين . ولعل هذه الظروف الجديدة لعبت دورا حاسما في تحريك سكون الموقف اليهودي تجاه قضية الهجرة والاستيطان في فلسطين ، بحيث أصبحت الهجرات اليهودية تتزايد اليها مع تزايد النفوذ الاستعماري البريطاني في منطقة الشرق العربي . وهذا بالطبع يفسر الى حد كبير تحول موقف بنسكر واصراره المفاجىء عام ١٨٨٤ على فلسطين * وطنا قوميا * لليهود بعد ان كان مترددًا تجاه هذا الموضوع قبل ذلك بعامين فقط !
وباختصار فان بنسكر سار في آرائه. التي طرحها على منوال سابقيه من المفكرين الصهاينة ، حيث كانت تهدف الى تحرير البرجوازية اليهودية الغربية من عبء هجرات يهود أوروبا الشرقية الى دول أوروبا الغربية والحيلولة دون استقطاب الحركات الثورية لهم وذلك عن طريق ايجاد * وطن * لهم يلجأون اليه خارج القارة الأوروبية . وفضلا عما يتيحه مثل هذا * الوطن * من إغراءات اقتصادية للبرجوازية اليهودية في توسيع نطاق استثماراتها ، فانه كان في الوقت نفسه يحقق هدفا استراتيجيا للدول الغربية ولا سيما بريطانيا التي كانت تسعى لخلق كيانات سياسية موالية لنفوذها ومصالحها الاستعمارية . وما ان تمكنت بريطانيا من تثبيت وجودها العسكري في المشرق العربي حتى أصبحت فلسطين مطلبا يتسابق بنسكر وامثاله من المفكرين الصهاينة في الدعوة لاتخاذها* وطنا قوميا * لليهود .
التعليقات مغلقة.