صراع في غرفة التحقيق ( قصة قصيرة واقعية ) / أسعد العزوني

أسعد العزوني ( الأردن ) – السبت 7/11/2020 م …




أفسد المختار علينا فرحتنا بعودتي من الجامعة صيف العام 1974،عندما أبلغنا بضرورة ذهابي في اليوم التالي برفقته إلى مخفر طولكرم ،بناء على تبليغ من جهاز الموساد الإسرائيلي ،وأن عليّ إنتظاره تمام الساعة السابعة صباحا.

إنقلبت الفرحة إلى غم ،وساد الحزن كافة أفراد العائلة ،ولكنني حاولت التخفيف من الأمر ،بأنه عادي يتعرض له كل الشباب وأنا لست إستثناء،ولكن أمي الحنونة لم تسيطر على دموعها وكذلك أخواتي.

كان ذلك اليوم طويلا ،ولكن الليل كان أطول منه وأكثر معاناة بسبب إنعدام الحركة وحلول الظلام والسكون ،وشعرت أن صخرة من صخور وادي قانا  التي تحد عزون من الشرق ،وتعد منظرا سياحيا خلّابا ،إضافة إلى مكانتها الإستراتيجية ،حيث أشجار البلوط التي تخفي الشجرة الواحدة تحت أغصانها  دون أن تتمكن الأقمار الصناعية التجسيية من إكتشافها، تجثم على صدري في الليل البهيم الذي خلته دهرا.

لم أكن بمفردي من يعاني في تلك الليلة ،بل كان كافة أفراد الأسرة قد جافاهم النوم ،وغشيتهم المعاناة ،ولم لا وأنا أخوهم المطلوب للتحقيق في مكتب الموساد في طولكرم،ولا يعلم إلا الله وحده ما الذي ستسفر عنه تلك التحقيقات ،وهل سأعود إلى البيت أم لا،وهل سأتمكن من السفر إلى الجامعة لمتابعة دراستي الجامعية .

كانت هذه الأسئلة تدور في أذهان الجميع وتطحنهم ،ومن ضمنهم أنا بطبيعة الحال ،مع أنني كنت قد سلمت أمري إلى الله ،فأنا قدري بطبعي وأؤمن ان العباد مسيرون وليسوا مخيرين،ولذلك كنت دائما أقول يا رب.

في تمام الساعة السابعة  كان المختار بإنتظاري وكنت جاهزا،وركبنا في سيارة الأجرة التي تعمل على الخط ،وبدأت المعاناة ،وأول أوجهها لزوم الصرف على المختار الذي كان يطلب تناول وجبة الإفطار وكوب من الشاي في المطعم ،ودفع الأجرة عنه ،وشراء علبة سجاير له.

كنا نصل إلى المخفر في الساعة الثامنة ،ونقوم بالتبليغ عن حضورنا بطبيعة الحال ،ويطلبون منا الجلوس ريثما يطلبونني للتحقيق ،ولكننا كنا نجلس حتى الثالثة ،ويأتي من يبلغنا بضرورة المغادرة والحضور غدا في الثامنة صباحا.

تكرر هذا الأمر أسبوعين ،وكانت المعاناة كبيرة إذ أن مرافقة المختار لي كانت مكلفة ،كما أن الجلوس يوميا من الثامنة وحتى الثالثة كان أمرا متعبا  ومنهكا أيضا،ومع ذلك أصر المختار على الإلتزام رغم تذمري،ورغبتي الملحة في عدم الإلتزام بالحضور ،لكن المخاتير كانوا هكذا ،وكانوا هم بطبيعة الحال صلة الوصل بيننا وبين المحتلين.

ما جعل الأمور تخرج  عن سياقها عندي بالدرجة الأولى  هو معاناة الأهل ،وقلقهم عليّ وخوفهم من إيداعي السجن وعدم السماح لي بالعودة إلى الجامعة ،خاصة وأنني كنت الوحيد الذي يتسنى له ذلك .

آخر ما دفعني للتمرد على إصرار المختار بالحضور اليومي إلى المخفر دون طلبي للتحقيق،هو أن أمي وأخواتي  قد أصابهن الإعياء ،حتى أن أمي رحمها الله لم تعد تطبخ طعام الغداء وعلى غير عادتها  حزنا وكمدا .

كنت أرى أن طول الساعات السبع التي أقضيها على أمل التحقيق معي دهرا بكامله ،إذ لا أحد أتحدث معه لأن الحديث ممنوع ،ولا مجال للضحك لأن الغم والهم هما سيدا الموقف،وكنت أعلم أن هناك كاميرا خفية تقوم بتصويرنا ونحن جالسون ،ونخضع لمراقبة داخلية لقياس درجة التوتر والإنفعال التي نصل إليها،وهذا بطبيعة الحال سلاح الموساد وغيره من أجهزة المخابرات في العالم.

عندما كنت أركب في السيارة صباحا ،كنت أترك العنان لمخيلتي كي تسرح وتمرح في الجهات الأربع ،من خلال إستعراض الإحتمالات التي سأواجهها في التحقيق إذا ما طلبوني ،وكنت أضع الأجوبة المفترضة على الأسئلة المفترضة التي سأتعرض لها ،علما أنه لم يكن لدي تجربة مع الموساد قبل ذلك.

كما أنني كنت أمعن النظر في المناظر الطبيعية الخلابة على جانبي الطريق ،الذي لم اكن أسلكه كثيرا بحكم ان طولكرم كانت مرجعيتنا الإدراية لفترة وجيزة ،وأذكر أننا ذهبنا في رحلة مدرسية إلى طولكرم وقمنا بزيارة مدرسة خضوري الزراعية فيها،ولم أنس بطبيعة الحال أنني قدمت مجبرا طلبا للدراسة فيها بعد حصولي على الثانوية العامة قبل ثلاث سنوات ،وعند المقابلة وضعت لجنة الفحص في حيص بيص ،لأنني كنت أجيب على أسئلتهم بطريقة مريبة ،لا تدل على أنني حصلت على معدل 89%.

أذكر ان رئيس اللجنة قد إرتاب لأجوبتي وتحدث معي بصراحة وقال ان الأجوبة التي تصدر عني لا تدل على مستواي العلمي ،ووعدني ان يحل المشكلة إن كانت هناك مشكلة  أصلا،فقلت له أنني جئت إلى خضوري مكرها من قبل  والدي، وإنني أرغب بالدراسة في الخارج لأسبابي الخاصة .

تعاطف معي رئيس اللجنة وأخبرني أنني مقبول في الكلية ،وإنه يتعهد بالحفاظ على مقعدي لمدة عام كامل، وفي حال عدم دراستي في الخارج ، فإنه سيوافق على دراستي في خضوري ،فشكرته وقلت له أنني لن أعود إلى خضوري.

بعيدا عن الهموم والمعاناة التي كانت تعتريني وأنا متوجه مع المختار إلى طولكرم ،فقد كانت المناظر الخلابة التي نمر عليها مفرحة، خاصة وانني غبت سنة كامل عن الوطن ،وكانت أول قرية نمر عليها هي الجارة جيّوس التي تبعد عن عزون بضعة كيلومترات ،ومن بعدها قرية فلامية المشهورة بما تبقى لأهلها من بيارت، كونها قرية حدودية صادر الإحتلال معظم سهولها،وهناك قرية كفر جمال وكفر صور وعنبتا وعتيل .

كانت أشجار الزيتون تبشر بموسم خير ذلك العام ،وكانت حبات الزيتون تلمع مبشرة بكمية الزيت التي سينتجها المزارعون في ذلك العام ،وكانت حواكير القرى التي كنا نمر عليها تزدان بأشجار التين والصبار والرمان والمشمش والدراق  ،وتعطي مشهدا مفرحا للرائي ،حيث حبات الرمان والصبار الناضج المائل إلى الحمرة ،وكذلك حبات التين الناضجة على وقع حبات الندى المتساقطة عليها ليلا بعد نهار قائظ.

وصلت الأمور حدها عندي في اليوم الرابع عشر من المشاوير الفارغة ، التي أصبح لزاما عليّ فيها الجلوس على مقعد خشبي تطحنني الأفكار لسبع ساعات متواصلة ،وكان ما يزيد الطين بلة أنني كنت أجد التبليغ ذاته قد سبقني إلى البيت بضرورة حضوري في اليوم التالي ،وهذا ما كان يرهق العائلة أكثر.

في ذلك اليوم قررت قلب قواعد اللعبة ،وأبلغت المختار بأنني سوف لن أذهب إلى طولكرم في اليوم التالي،وقد حاول جاهدا أن يثنيني عن ذلك لخطورة الأمر ،وإن ذلك سينعكس عليه سلبا عندهم ،لكنني قلت له أن ذلك كان قراري النهائي وأكدت له إنني سوف لن أذهب،ولا أنكر أنني بيتّ أمرا وهو أنني سأذهب لوحدي وسأواجههم بالأمر ،وأبلغهم أنني أرفض هذا الأسلوب معي .

ركبت السيارة في اليوم التالي ،ووصلت إلى المدينة وتوجهت إلى أقرب مطعم وتناولت وجبة الحمص والفلافل ،ومن ثم قمت بالتجوال في شوارع المدينة وتناولت الكنافة ، وعند الساعة الثانية عشرة ظهرا ،حملتني قدماي إلى المخفر.

دخلت المخفر بلا مبالة ظاهرة وبنبرة تحد لا تخفى على أحد ،وبينما كنت أصعد الدرجات المؤدية إلى المكاتب سمعت صراخا عاليا ،ودار بخلدي أنني أنا السبب في ذلك الصراخ.

قرعت باب المكتب الذي يصدر عنه الصراخ ودخلت ،وإذا بي أمام مارد يزيد طوله عن المترين ،وبادرني بالسؤال النزق:أنت أسعد خسين؟فأجبته نعم ،وبخفة يد اللص الماهر ،مد يده إلى جيبي وإلتقط هويتي وناولها إلى سكرتيره ،وطلب منه الإحتفاظ بها ،لأنه سيغادر إلى “أورشاليم”القدس،كما طلب منه عدم السماح لي بالمغادرة ريثما يعود.

أدركت أنني وقعت في الفخ ،ومع ذلك قررت المواجهة بطريقتي التي تخلو من حسابات الربح والخسارة ،وبعد ساعة شعرت بالملل وبالرغبة في المواجهة،وأخذت بمناكفة سكرتير ضابط المخابرات الطويل الذي غادر إلى القدس وتركني رهينة بعد حجز هويتي.

طلب مني السكرتير الإنتظار ريثما يعود ذلك الضابط ،وعند الثالثة أبلغني بضرورة العودة في اليوم التالي ،وعندها إنفجر برميل الغضب الذي كان بداخلي وبدأت بالصراخ عليه ،وشتمهم وقلت له انني سوف لن أعود وإن عليهم التصرف حيالي كما يشاؤون.

أدرك السكرتير أنني جاد فيما أقول ،وقال بتودد انه عبارة عن موظف صغير وانه ليس صانع قرار،ولا حول له ولا قوة ،ولكنه سيساعدني في إيجاد حل لمشكلتي كون الضابط تأخر عن العودة من القدس.

طلب مني عرض الأمر على إحدى السكرتيرات التنفيذيات ،بعد ان تحدث معها بالهاتف وأبلغها بالمشكلة،ومن فوري توجهت إلى مكتبها وقرعت الباب ووجدتها بإنتظاري.

كانت جميلة جدا ،ولكن جمالها لم يحرك فيّ ساكن بسبب المعاناة التي مررت بها لأسبوعين ،ولذلك ورغم ميلها للتهدئة عند الحديث معي ،كنت أتحدث معها بصوت عال ،ولا تخلو نبرة صوتي من التهديد.

إستمر النقاش المتفجر بيننا لنحو ساعة،وكنا نخلط الإنجليزية بالعريبة بالعبرية ،وقلت لها أن أبي ليس صاحب بنك ليصرف عليّ من أجل مشاوير فارغة خاصة وأن المجيء إلى طولكرم مكلف،وان أبي أيضا لا يمتلك كراج سيارات تقلني يوميا إلى طولكرم،وأكدت لها إنني سأغادر بدون عودة ،وإن عليهم في حال رغبتهم بالتحقيق معي ،أن يحضروا بمجنزراتهم ودباباتهم وطائراتهم لإعتقالي عند منتصف الليل ووضعي في السجن والتحقيق معي.

أدركت تلك السكرتيرة أنني شاب أعني ما أقول ،ولذلك طلبت مني التريث ريثما تتصل بالضابط الطويل وتخبره بالأمر، لم يجب في المحاولات الأولى لكنه رد عليها لاحقا،وروت له ما جرى بيني وبينها ،وإنني مصر على المغادرة وعدم العودة في اليوم التالي،وبحكم إلمامي باللغة العبرية فقد فهمت فحوى المكالمة.

طلب منها الضابط أن تسألني  عن أقرب مخفر لقريتي ،فقلت لها مباشرة أن قلقيلية هي الأقرب إلينا وتبعد عنا تسع كيلومترات فقط ،وعندما أبلغته بذلك ،طلب منها إبلاغي بأن عليّ الذهاب إلى مخفر قلقيلية في اليوم التالي تمام الساعة الرابعة عصرا.

غادرت المخفر محملا ببعض الأمل وبكثير من الألم النفسي،لأننا لو لم نكن مهزومين لما تغولوا علينا بمثل هذه الصورة ،ومع ذلك قلت كعادي عند الأزمات يا رب ،ما إلي غيرك ،وركبت في سيارة الأجرة إلى عزون ووصلت متأخرا،وكالعادة وجدت العائلة تغرق في مناحة لتأخري .

ما إن ظهرت أمامهم حتى هبوا جميعا فرحين بي كوني عدت لهم  ولم يتم وضعي في السجن ،ورويت لهم ما حدث وإن عليّ زيارة مخفر قلقيلية عصر اليوم التالي ،فعاد الغم والهم ليخيم من جديد فوق رؤوس الجميع.

بعد تناولي طعام الغداء المتأخر ذهبت إلى المختار وطلبت منه مرافقتي إلى مخفر قلقيلية عصر اليوم التالي ،وأبدى إستعداده لذلك ،فكيف يرفض وهذه إحدى المهام الموكلة إليه ،كما أنه لن يخسر من جيبه قرشا واحدا،بل سيكسب مشوارا وعلبة سجائر وزيارة للمخفر.

ركبنا في سيارة الأجرة التي يقودها خليل الخرسا ووصلنا قبل الموعد بقليل،ووجدت ضابط الإستخبارات المكلف بالتحقيق معي بإنتظاري،وطلب مني دخول المكتب وحدي،بينما أمر المختار بأن يجلس في غرفة الإستقبال.

كانت غرفة الضابط واسعة ما يعطي بعض الهيبة  للضابط ،ومع ذلك شعرت ان الخوف قد مات بداخلي ،خاصة وأن الضابط ظهر لي بداية وكأنه حمل وديع ،ولا أنكر أن الحيلة قد إنطلت عليّ بداية.

قبل الجلوس على الكرسي قبالته بادرني بالمصافحة الدافئة ،وطلب مني الجلوس ،وكان يتحدث معي بلغة عربية فصيحة وسليمة جدا،فبادرت انا بتوجيه الأسئلة إليه حول إتقانه للغة العربية  وأين تعلمها،فأجابني انه تعلمها في القاهرة كونه من يهود مصر.

كان هادئا وودودا معي ،وعرض عليّ إختيار الضيافة التي أريد ،لكنني قلت له إنني لا أريد منهم شيئا ،ومع ذلك بقي على درجة هدوئه وقال :     لا تخف لن أضع لك شيئا في الشاي أو القهوة ،ومع ذلك صممت على رفضي تناول أي شيء يقدمونه لي.

أظهر لي عتبه الشديد عليّ لأنني لم أزره  عند عودتي من العراق ،وكنت حاسما وحازما في الإجابة ،وقلت له :نحن العرب نزور أقاربنا وأصدقاءنا  وأنسباءنا،وأنت بالنسبة لي لست أخا أو قريبا أو نسيبا  ولا حتى صديقا ولا اعرفك أصلا ،فكيف سأزوك بالله عليك،ثم هل نسيت أنك محتل ولست صديق؟

بهت الذي كفر كما يقول المثل ،وكأنه لم يتوقع مني مثل هذا الرد الصاعق، فحاول تغيير مسار الحديث بأن عرض علي إصطحابي معه إلى شواطيء تل أبيب، للتمتع بجمال البنات اليهوديات الذين وصفهن لي بأنهن “على كيف كيفك”!فإعتذرت له من فوري وقلت له إنني لا أتعامل مع النساء ولا أقربهن ،كما أنني أصلي الصلوات الخمس في المسجد.

لم يرق له جوابي الجاف الذي قطع عليه الطريق كي يخترقني عن طريق هذه الإغراءات التي يسيل لها لعاب أي كان،وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث بما لا ينفع ،رنّ جرس الهاتف ،فإلتقط السماعة  ودار حديث بينه وبين الطرف الآخر تمكنت من إلتقاط بعضه ،وختم المكالمة بقوله للطرف الآخر :إنني موجود وسيعرف كيف يتعامل معي،وأدركت تماما ان المتحدث الآخر كان ضبط مخابرات مخفر طولكرم الطويل.

ما إن وضع سماعة الهاتف حتى خاطبني بالقول مزمجرا كالأسد :هلأ بدنا نبلش نشتغل! فضحكت وسألته :وماذا كنا نعمل سابقا؟فرد عليّ بتهكم واضح :كنا نمزح ! وبالفعل ترجم كلماته التهكمية إلى لؤم ،عندما قال لي:إسمع هذا الملف الذي تراه أمامي يعود لك ،وفيه معلومات عنك منذ أن ولدتك أمك ،وآخر معلومة وصلتني عنك كانت قبل نصف ساعة من مجيئك إليّ!

لا أخفي أنني شعرت بخوف شديد أربكني بعض الشيء ،فالملف الذي أمامه كبير،وأنا صاحب حركة لا أكل ولا أمل،لكنني وكعادتي عند الملمات قلت في نفسي:يا ألله إنني معك فكن معي،ومع ذلك قلت له بتحد واضح:تستطيع فعل ما تشاء بي ،فأنا أسيرك الآن ،وانتم تمتلكون السلاح النووي والصواريخ والطائرات والدبابات ،بينما أنا شاب ضعيف البنية ولا أمتلك شيئا مما تمتلكونه!

لم أتصور ان كلماتي تلك ستعطيه الفرصة للتمثيل عليّ،إذ تظاهر بالغضب ليس لأنني وصفتهم بقوة إحتلال ،بل لأنني قلت له انني أسير عنده ،إذ قال لي بحزم :أرجو أن لا تقول أنك أسير عندي ،بل أنت ضيف،فضحكت ولم أعلق.

يبدو أن الله إستجاب لي في الحال ،وأن سقف المكتب بين الدعوة وبين الله  لم يقف عائقا بين الله وبين دعوتي،إذ أنه وبدون سابق إنذار نهض من على مكتبه وتوجه إلى الخزانة الموجودة في ركن المكتب وبدأ يبحث عن شيء ما ،فإستغللت الفرصة وألقيت نظرة على الإسم المكتوب على الملف ،كوني أتقن كتابة إسمي الرباعي باللغة العبرية.

تنفست الصعداء وقلت الحمد لله لأن الإسم المكتوب على الملف ليس إسمي وإنما يعود لإبن عم لي،وقلت في نفسي:والله لأجعلنك تصاب بالجنون هذا اليوم،وردت إليّ روحي وذهب الخوف مني ،وعدلت من جلستي عندما عاد وجلس على مكتبه.

بدأ يسألني عن الأوضاع في العراق ،وكانت إجاباتي أنني لا أخرج من غرفتي ،ولا أتجول في شوارع بغداد ،كما انه ليس لي أصدقاء عراقيون !لكنه أصر على إعطائه أسماء لعراقيين يدرسون معي ،فأعطيته أسماء وهمية أرمنية وكردية.

كان ماهرا  في إخفاء ما بداخله من شعور تجاهي كضابط مخابرات يبحث عن فريسة لتجنيدها للعمل معه ،وربما كان واثقا من نجاحه معي ،وانه سينال الجائزة الكبرى من جهازه في حال تمكن من تجنيدي لأكون جاسوسا لهم في العراق،وهذا ما جعله يتصرف بهدوء ،ليوحي لي أنه لطيف.

فتح أول درج في مكتبه وبدأ بإخراج أوراق العملات الإسرائيلية والأردنية والدولار،وكان يرتبها على شكل أعمدة ،وكان يتصرف بهدوء منقطع النظير،وكنت أرقب حركاته وأتابعه ،دون أن ينظر إليّ أو يرمقني حتى بنظرة واحدة ،وربما إكتفى بمراقبتي الدقيقة له.

سألته :ماذا تفعل يا رجل؟ولمن هذه النقود؟فأجابني على الفور :هذه لك هدية من دولة إسرائيل !وأدركت أن اللعبة بدأت بيننا وإن عليّ أن ألعب معه بنفس طريقته،وقلت في نفسي :الهدوء الهدوء.

بعد أن أنهى ترتيب الليرات والدولارات والدنانيرعلى شكل أعمدة ، رفع رأسه وقال بكل هدوء وثقة بالنفس :إسمع إن دولة إسرائيل تتعهد بتدريسك حتى نيل شهادة الدكتوراة ،فقلت له على الفور:ما هذا الكرم الحاتمي يا رجل ؟فرد عليّ:إسمع بدلا من أن يحمّلك أبوك جميلة بتدريسك والصرف عليك،فإن دولة إسرائيل ستتكفل بذلك !

كان يتحدث معي وهو يتصنع الإبتسامات الكاذبة ، لكنني صدمته بالقول أننا كفلاحين فلسطينيين حسمنا ذلك الأمر منذ زمن ،وإن من يعجز أبوه عن تدريسه لسبب أو لآخر،فإن الأخ الأكبر في العائلة هو الذي يحل محله،ثم سألته :بالله عليك ما سبب هذا الكرم الحاتمي من قبل “دولة”إسرائيل تجاهي؟

تلقف هذا السؤال وكأنه كان يتوقعه على أحر من الجمر،وقال بتودد :إسمع وافق أن تعمل معنا ،وعند ذلك تغادر إلى بغداد وتستأجر أفضل شقة في أفضل منطقة ،وفي حال تزويدنا بالعنوان ،سنرسل لك أفضل الأثاث مع سيارة مرسيدس موديل سنتها من ألمانيا!وسنجعلك تعيش في بغداد كما عاش هارون الرشيد،تنعم بالمال وتحيط بك النساء!

لا أخفي أن هذه الكلمات صعقتني ،ليس لشيء إنما لأنه لا يعرف موقفي من العراق ومن التعامل معهم بشكل عام ،ومع ذلك أخفيت دهشتي من جرأته ،وقلت له بهدوء مشوب بالتحدي : لن أوافق على هذا الطلب ،وإن أردتم إعدامي  فإعدموني.

قال بتودد منقطع النظير :إسمع ،لا نريد منك شيئا سوى تقريرا أسبوعيا عن أي تحرك عسكري في بغداد ،وأن المطلوب مني رصد أي تحرك وإرسال رسالة إلى عنوان في أوروبا سيزودونني به ،وسيقومون هم بالواجب تجاهي ،لكنني صددته ،وطلبت منه عدم التحدث معي حول هذا الموضوع.

تمعنت في وجهه لقراءة تقاطيعه ،فوجدت إنفجارا داخليا قد أطاح بكل تقاطيعه ،كما أنه كان يتلون كألوان قوس قزح أو هكذا خيل إليّ،ولم يطل صمته المشوب بالتوتر حتى أعاد العملات الورقية إلى الدرج ،وبدأ بإخراج أسواط كرابيج حلب  باحجامها المختلفة،وترتيبها الأصغر والطويل فالأطول ،وكان يقوم بذلك بأريحية وإستمتاع ،وربما كان يظن أنه بذلك سيدخل الرعب في قلبي ،دون علم منه أنني إستبدلت قلبي الضعيف أصلا بقلب الأسد .

سألته  مجددا:ما ذا تفعل يا رجل؟فأجاب أن الليرات والدولارات والدناير لم تعمل معي شيئا ،وربما تفعل كرابيج حلب فعلها عندي ، وتجبرني على الموافقة على التجسس على العراق لصالح الموساد،وقلت له بتهكم واضح  :تستطيع أن تفعل بي ما تشاء،فأنا أعزل!

همهم بكلمات لم أفهمها،وقلت في نفسي :من يضحك أخيرا!وكنت أختلس النظرات إلى تقاطيع وجهه ،ولم ألمس أي إستقرار في وجهه ،دليلا على الإضطراب الحاصل بداخله ،ولذلك كانت قراءتي له مشوشة بعض الشيء ،لأنه يتمتع بجسم كبير وبقوة كبيرة ،بينما أنا العبد الفقير إلى رحمة الله أعاني من الضعف حد الهزال وكان لي من العمر 22 عاما،لكنني كنت أشعر بنفسي أنني أسد ،أمام أرنب رغم مظهره المرعب.

سألني إن كنت على إستعداد للتعاون مع الموساد وتزويده بتقارير عن العراق ،فأكدت له رفضي التام لذلك ،وإستغرابي منه كيف يطلب مني مثل هذا الطلب ،خاصة وانه كما يقول يعرف عني كل شيء منذ لحظة ولادتي !

عند ذلك لمست فيه تحولا وحشيا وهيء لي أنني أجلس مع وحش لا مع بشر ،وقال بلؤم شديد:في حال إستمرارك برفض التعامل معنا ،فإنني سأحضر لك عبدين أسودين قضيب الواحد منهما طوله ذراع ،وأشار إلى ذراعه !فسألته بخبث واضح :ولماذا ستحضرهما ؟فأجاب بلؤم :حتى يغتصبونك!

بدون تفكير أو كلام تصنعت الإنفعال ووضعت يدي على إستي وقلت له برجاء شديد:أرجوك أسرع بهما!فبهت وقال والحيرة تخيم عليه :لماذا ؟فاجبته أن إستي تنمنمني!وركزت عيناي على وجه لرصد ردة فعله!

كأنه أصابه المس ،إذ خرج عن طوره وبصق في وجهي ،فتمالكت نفسي ومسحت بصاقه عن جبهتي ،وقلت :لا حول ولا قوة إلا بالله !وبعد ذلك شعرت أن هدوئي فعل به ما فعلته القنبلة النووية في هيروشيما وناغازاكي إبان الحرب العالمية الثانية والهجوم على اليابان  عام 1945،ببدأ يشتم الذات الإلهية ،فقلت له إن الله الذي خلقني هو ذاته الذي خلقك وهو الذي سيحاسبك! فقال مضطربا وقد أظهر وجهه الحقيقي :”…..”أمكّ فقلت له :إسمع ما عند أمي هو عند أمك!

كانت إجاباتي بمثابة فتيل التفجير الذي يفجر القنبلة  اليدوية عند سحبه منها ،وقال دون وعي :إسمع وله أنت لست عربيا ! فضحكت وسألته لماذا؟فأجاب أن العربي يغضب عند شتم أمه أو شتم الذات الإلهية،فضحكت بإستخفاف منه وأكدت له إنني عربي وفلاح وتيس في نفس الوقت.

لم أكن أعلم أن هدوئي المرسوم وإجاباتي الساخرة والمستفزة ،ستنسف هدوءه المصطنع ،وستخرج الذئب المفترس الذي يقبع بداخله ،وقد ظهر ذلك جليا عليه أخيرا عندما نهض من على مكتبه شاهرا قبضته وإقترب مني ليلكمني على وجهي .

وبحركة أسرع مما توقع نهضت بعد أن قلت مرة اخرى :يا الله كنت معك فكن معي!وإنتصبت أمامه كالمارد ،دون أن أعلم حتى اللحظة  كيف ان الله منحني تلك القوة الخارقة، التي مكنتني من الإمساك بيده ذات القبضة الحيدية التي كانت ستهوي على وجهي ، فتمكنت منه  وتسمرنا واقفين بدون كلام ،وبقينا على هذا الحال لخمس دقائق ،قال بعدها منكسرا :أترك يدي! فتماديت بإهانته ،وقلت له :بشرط! فسألني بإذلال :ما هو ؟فقلت له :أن تعود إلى مكتبك!

كأنني شيطان تلبسته ،وقد بدا ضعيفا لا حول له ولا قوة مع فارق السن والقوة  بيننا ،إذ كنت أنا ضعيفا توقعني نسمة قوية في حال هبّت عليّ،بينما هو كان جهما كالثور ،ولكن الله يضع قوته في أضعف خلقه.

جلس على مكتبه ذليلا مهانا لا يقوى على فعل شيء معي ،مع انه كان بإمكانه تكسير أضلاعي واحدا بعد الآخر،وكنت أرقب حركاته حركة حركة ،حتى إنني كنت أسمع دقات قلبه المتسارعة ،بعد أن وضع كلتا يديه فوق رأسه ،بإتجاه سطح المكتب.

يبدو أن المختار أحس بما يجري في المكتب ،فدخل علينا بدون إستئذان وقال :يا خواجا ألم أقل لك أنه أهبل وما عنده شيء؟عندها قفز الضابط من على مكتبه كالأسد الهصور وأخذ يزمجر ومسك برقبة المختار ،وقال له :يا مختار إنك أنت  الأهبل ،وليس هو ! أخرجا من مكتبي فورا ولا أريد رؤيتكما.

وجدتها فرصة للمغادرة ،وكنت منتشيا بالنصر الذي حققته على ضابط المخابرات ،كما كنت متشفيا بالمختار الذي أهانه الضابط وشتمه ومد يده عليه،رغم خدماته الجليلة لهم شأنه شأن المخاتير في ظل الإحتلال،وتركت الضابط يعنف المختار.

قبل أن أصل إلى البوابة الخارجية للمخفر ناداني الضابط عدة مرات ،لكنني لم أرد عليه أو ألتفت إليه ،فما كان منه إلا ان قال”شو أطرش ما بتسمع ؟عندها حز في نفسي سمع ذلك ،فتوقفت وإستدرت إلى الخلف وقلت له :والله إن أسمعك جيدا ولكنني لا أريد أن أرد عليك.

يبدو ان هذا الجواب قد فجر ما تبقى لديه من أشلاء كرامة،فقال بحنق:ورب إسرائيل أن ستأتيني يوما وتقبل حذائي وتقول إنك تعرف كل شيء!فضحكت منه ساخرا وتابعت سيري بإتجاه البوابة ،وبعد ذلك لحق بي المختار ،ووقفنا بإنتظار سيارة الأجرة كي تعيدنا إلى عزون.

وصلت البيت متأخرا ووجدت العائلة وكأنها في مأتم لغيابي،لكنهم وما إن أحسوا بي حتى إنتفضوا واقفين،وإنهالوا عليّ بالأسئلة عن جلسة اليوم ،فأخبرتهم بما جرى ،فما كان من أخي الأكبر رحمه ،إلا وأن قرر أن أسافر فجر اليوم التالي حتى لا يطلبونني مرة أخرى ويودعونني في السجن فتضيع عليّ دراستي في الجامعة…وما أزال حتى يومنا ممنوعا من العودة،وآخر محاولة قامت بها العائلة لعودتي بعد توقيع إتفاقيات اوسلو سيئة السمعة والصيط ،وجاء الرد الأخير مختوما من قبل الشاباك وهو جهاز المخابرات الداخلي:ممنوع من الدخول بأمر من الشاباك.

وذات مرة حاول أعضاء من العرب الفلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي إدخالي ،وطلبوا صورة جواز السفر مع إنني نصحتهم بعدم المحاولة لأن سلطات الإحتلال لن تستجيب لطلبهم ،فقالوا إنهم أعضاء في الكنيست ولن يرد طلبهم.

عند عودتهم إلى عمان بعد نحو الشهر سألتهم عن نتائج محاولاتهم فقالوا أنه تبين لهم أن بإمكانهم إعادة جورج حبش ،أما أنا فلم يتمكنوا بسبب رفض سلطات الإحتلال القاطع للموافقة على السماح لي بالعودة.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.