الجدلية بين الصهيونية الروحية والصهيونية السياسية / د. أمين محمود
يعزو الكثير من الباحثين اشتداد اود الصهيونية وانتشارها الى الصدمة التي احدثتها الاضطرابات التي شهدتها روسيا القيصرية عام١٨٨١ وما ترتب عليها من اضطهادات ومجازر راح ضحيتها العديد من اليهود الروس بتهمة اشتراكهم في مؤامرة اغتيال القيصر الروسي الإسكندر الثاني. وهكذا فانه ليس من قبيل الصدفة ان يحدث من جراء ذلك ارتداد العديد من اليهود عن الاتجاهات العلمانية ويعتنقون الدعوة الصهيونية. ولذا فلا غرابة ان يلجأ المفكرون اليهود الروس أمثال ليو بنسكر وليلينبلوم وسمولينسكين وبن يهودا الى الدعوة لاعتناق الصهيونية ، في الوقت الذي بدأت فيه الطبقة الوسطى الروسية تظهر وتاخذ مكانها ، وتبدا في اقتلاع اليهود من حرفهم ومهنهم وخاصة في مجال التجارة، مما جعل اليهود مهيأين للهجرة من روسيا والبحث عن أي مكان يستقرون فيه سواء كانت فلسطين او غيرها .
وأخذ العديد من الزعماء اليهود الغربيين يبدون معارضتهم الشديدة لهجرة اليهود صوب أوروبا الغربية وأمريكا بحجة انه من الصعب جدا على مثل هؤلاء المهاجرين الاندماج السريع في المجتمعات الغربية نظرا للحواجز اللغوية والثقافية مما ادى الى خشية هؤلاء الزعماء من انتتولد لدى الشعوب الأوروبية موجة من الكراهية العنصرية ضد اليهود بشكل عام .
وما لبث خلال هذه الفترة ان ظهر الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل الذي أرسى الركائز الأساسية للصهيونية السياسية ودعا الى تنفيذ الهجرات اليهودية ضمن مخطط استيطاني واسع وعلني ،يتم بمساعدة احدى الدول الأوروبية الكبرى ، ويمهد السبيل لإقامة دولة يهودية .
غير ان الفكر الصهيوني الذي تبناه هرتزل أخذ يطرح الحلول السياسية والدبلوماسية للمسألة اليهودية دون ان يتعرض من قريب او بعيد للقضايا الروحية والأخلاقية لهذه المسألة. وقد ادى ذلك الى ظهور دعوة صهيونية جديدة اطلق عليها * الصهيونية الروحية * وضع أسسها المفكر اليهودي اشر غينزبرغ Asher Ginsberg الملقب باسم احد هاعام ( احد العوام ) Ahad Ha-Am .
اتخذ اتباع الصهيونية الروحية منذ البداية موقفا فكريا مخالفا لموقف هرتزل ومن سبقه من مفكري الصهيونية السياسية ، كما أعلنوا رفضهم للغايات التي تطرحها الصهيونية السياسية والأساليب التي تتبعها ، ورأوا انها لا تقدم التشخيص الصحيح لأمراض المسألة اليهودية ،واتهموا هرتزل زعيم الصهيونية السياسية بالسطحية في التفكير والافتقار الى الرصانة واستشهدوا على ذلك من خلال ما أورده هرتزل من معلومات *خاطئة ومضللة * حول إنجازاته السياسية ، اذ ان جميع إشاراته الى ما حققه من إنجازات في الاستانة – على سبيل المثال – كانت كلها عديمة القيمة ، ولم ينجح في الحصول على أية وعود من اصحاب القرار فيها ( David Vital , The Origin of Zionism ,p, 188 ) .
وكان الصهاينة الروحيون يخالفون الرأي القائل ان المسألة اليهودية يكمن حلها ضمن إطار الصهيونية السياسية ، فهي في نظرهم مشكلة حضارية روحية اخلاقية . وقد جاء في خطاب القاه احد هاعام، الزعيم المؤسس للصهيونية الروحية ، في منسك عام ١٩٠٢ قوله : * ثمة صهاينة سياسيون لا يعلقون أية أهمية على الجانب الروحي من الحركة ، بينما يوجد على الطرف الآخر صهاينة روحيون يتبرمون بالعمل السياسي في شكله الحالي . أما والأمر كذلك فانه لا مندوحة لنا عن إقامة منظمة خاصة تشمل جميع اولئك الذين يدركون أهمية الثقافة اليهودية ويرغبون في نموها وتطورها ، وعلى هذه المنظمة ان تركز اهتمامها على مشكلتها الخاصة المحددة ليس الا ، وان لا تكون خاضعة لمنظمة هرتزل السياسية ( Vital , ibid ) . وكان اتباع الصهيونية الروحية يعتقدون بان اليهودية ، وليس اليهود ، هي التي يجب ان يتركزالاهتمام عليها وتكون محور التفكير * القومي * اليهودي لضمان بقاء الروح والثقافة اليهوديتين في العالم الحديث ( Leon Simon , Ahad Ha – Am , A Biography ,pp. 100-101 ) . وقد حذر احد هاعام من مغبة خروج اليهود من عزلتهم واندماجهم في مجتمع الأغيار ، حيث ان في ذلك تهديدا وضياعا للروح اليهودية والتراث الحضاري اليهودي . وكان في موقفه هذا يختلف عن موقف من سبقه من المفكرين الصهاينة ممن وثقوا بعالم الأغيار ودعوا الى تعميق التعاون معه . وقد كان اتباع الصهيونية الروحية بشكل عام ينظرون الى العالم منحولهم على انه عالم ذو قيم مخالفة لقيمهم( Arther Hertzberg The Zionist Idea ,p. 51 ) .
وكان الصهاينة الروحيون بزعامة احد هاعام يرون في مشروع الدولة اليهودية الذي كان يطرحه هرتزل ،ضربا من الجنون . اذ لم يتخيلوا أبدا انه بمقدور ملايين اليهود دخول البلاد واستيطانها بصورة مرضية حتى وان تأسست الدولة وسمح بالدخول اليها . أما الضمانات الدولية السياسية والقانونية فلن تكون لها جدوى . وفي رأي احد هاعام ان دولة كهذه ستكون مفتقرة الى الأساس القوي وستكون دون ثقافة ودون جذور ، وستثبت الأيام لا محالة بانها ليست قابلة للبقاء ، لا سيما وان البنية التحتية الاجتماعية والثقافية شرط ضروري للحياة السياسية . وكان الصهاينة الروحيون من جانبهم ، على قناعة تامة بانه بصرف النظر عما تؤول اليه الأمور ، فان مشكلات اليهود المادية وفقرهم والضغط المشروع وغير المشروع الذي وقعوا تحت وطأته لن يتاثر تأثرًا يذكر حتى بتأسيس دولة . وحتى لو أمكن التخلص من جميع العقبات وقامت الدولة في أفضل الظروف التي يمكن تصورها ، فانها ستكون انجازا هزيلا والعوبة في يد * الداعمين * لها ، وغير قادرة على البقاء او منح اليهود الشعور بالاستقرار والطمأنينة ، كما ان * الثقافة القومية التي نستطيع الوصول الى اهدافنا عن طريقها * – والحديث لاحد هاعام – *لن تنغرس في دولة ولن تكون أساسًا لها ، وهكذا فاننا سنكون عندئذ فعلا – وأكثر بكثير مما نحن عليه الان – أمة صغيرة تافهة مستعبدة * ( As quoted in Vital , p. 27 ) .
وقد افترضت احدى طروحات الصهاينة الروحيين تجاوزا ان الصهيونية السياسية قد بلغت هدفها ، وان دولة يهودية أقيمت في فلسطين ،وان بمقدورها استيعاب موجة اثر أخرى من المهاجرين اليهود ، فالتساؤل هنا فيما إذا كان إنشاء دولة يهودية كهذه يعتبر حلًا حقيقيًا للمشكلة اليهودية بمجملها ؟ وهل يستطيع جميع اليهود في العالم – وكان عددهم آنذاك حوالي عشرة ملايين نسمة – ان يهاجروا فورا الى فلسطين كي يتخلصوا من معاناتهم الاقتصادية والروحية؟
كما اشار الصهاينة الروحيون من ناحية أخرى الى ان إقامة دولة يهودية ، لايعني ان بمقدورها الاستيعاب الفوري والشامل ليهود الشتات ، بل سيعني ان بمقدورها فقط استيعاب شريحة محدودة منهم . وبالتالي فإن مشكلة المعاناة الاقتصادية لن تحل حلًا شاملًا الا لجزء من الناس، وهم الذين سيهاجرون الى الدولة اليهودية . أما اولئك الذين سيبقون في ارض الشتات ، فان مشكلاتهم الاقتصادية لن تحل بمجرد إقامة مثل هذه الدولة ، كما ان مصيرهم الاقتصادي والاجتماعي سيظل مرتبطا بظروف البلاد التي يقيمون فيها. ولذا فالمشكلة الرئيسة الواجب على الصهيونية السياسية مواجهتها لا تقتصر على كيفية إقامة الدولة ، بل حتى لو سلمنا بأن دولة يهودية ستظهر في نهاية الامر ، فانه يبقى محتما على الصهيونية ان تسأل نفسها كيف ستساعد في حل معضلات الكروب الروحية والمشكلات للأكثرية الساحقة من اليهود الذين سيظلون مقيمين طيلة المستقبل المنظور خارج الدولة اليهودية .
وهكذا فان الصهاينة الروحيين عرضوا المشكلة على انها ليست مشكلة اليهود كما صورها الصهاينة السياسيون ولكنها مشكلة اليهودية . فالصهيونية السياسية التي تركز حصرًا على إنشاء دولة لليهود تتجاهل هذا البعد الثقافي الذي هو امر مهم وحيوي بالنسبة للوجود اليهودي المستمر، والدولة اليهودية المجردة من القيم اليهودية ذات الصلة بالحياة اليهودية في الشتات سوف تفقد في النهاية ولاء اليهود الذين يقيمون خارج الدولة . لذلك فان الصهاينة الروحيين ينتقدون بشدة رؤية هرتزل للدولة اليهودية التي يتكلم فيها كل شخص بلغة البلد الأصلي التي وفد منها.
وتناول احد هاعام هذا الموضوع مشيرا الى ان دولة من الألمان والفرنسيين المنتمين الى العرق اليهودي ليست دولة قابلة للحياة ، لان * الهدف السياسي الذي لا يعتمد على ثقافتنا القومية ، يبعدنا بإغراءاته عن انتمائنا لثقافتنا الروحية ويدفعنا الى ان نسعى وراء المجد عن طريق القوة المادية والسلطة السياسية قاطعًا بذلك كل ما يصلنا بالماضي وربطنا باسمنا التاريخية * ( Basic Writings of Ahad Ha-Am, pp. 80-81 ) . وحذر احد هاعام من ان تتحول القوة او السلطة السياسة الى هدف في حد ذاته ، الامر الذي سيقطع الروابط مع اليهود في الخارج . كما رأى أيضا ان القيام الان بتأسيس وطن سياسي على قاعدة مادية دون محتوى روحي سيكون ذلك معاكسا للتطوراليهودي وللتطور التاريخي العام ، لانه وتبعًا لما تقوله المدرسة الهيجيلية ، ليست الدولة غاية في حد ذاتها ، بل انها لا تعدو كونها الأساس الضروري للتعبير الروحي عن الروح القومية ( ibid , p. 91) .
وعلى أية حال فان اليهود – في رأي الصهاينة الروحيين – وبعكس طروحات هرتزل لم يكونوا قد تهيأوا بعد من اجل القيام بالمهمة الاستيطانية التي تنتظرهم . اذ رأوا انه لا بد من السير في * الطريق الطويل الصعب للتطور الطبيعي * ، ولا بد من تحديد الهدف الاستيطاني الأمثل بحيث لا يكون * لمجرد حشد الناس ولكن للتعبئة او الحشد الروحي الذي يقتضي ان يسبق ذلك * . وإذا ما كانت البلاد اصغر وأفقر منتحديد الهدف الأول حشد او تجميع الناس فانها ليست اصغر من تحقيق الهدف الثاني : التعبئة او الحشد الروحي . *فمستوطنة واحدة جيدة التنظيم وقادرة على استثارة حب اليهود للأرض أفضل من عشر مستوطنات مهلهلة متداعية لا يبرر وجودها سوى تملك الأرض فقط *.
وقام الصهاينة الروحيون بتوجيه انتقادات شديدة لجمعيات أحباء صهيون ، وركزوا على ان هذه الجمعيات التي كانت تمول العديد من المستوطنات اليهودية في فلسطين، لم تستوعب كامل ابعاد المهمة الاستيطانية التي أخذت على عاتقها تنفيذها في تلك البلاد . فما تم انجازه من مستوطنات حتى نهاية القرن التاسع عشر تم تنفيذه بأسلوب متخلف افتقر الى الوازع القومي الذي كان سائدا بشكل قوي ولافت للنظر بين الأمم والشعوب الأخرى ، والسبب في ذلك – كما أوضحه احد هاعام – كان يعود الى ان اليهود لا يكونون أمة حقيقية وان كل ما يربطهم هو الدين فقط . كما قال انه لا صحة لما يشاع بان مشروع أحباء صهيون الاستيطاني اخفق بسبب اخطاء البارون روتشيلد وأعوانه من الحاخامات وغيرهم . ان السر في الإخفاق يكمن في ان رواد الحركة الاستيطانية كانوا في عجلة من امرهم ، فتخلوا عن الطريق الطويل للتطور الطبيعي ، وتمكنوا بأساليب مصطنعة من طرح فكرة غضة الإهاب على عالم الواقع قبل ان تنضج وقبل ان يتم نموها بصورة ملائمة . كما ان هذه الحركة ستواجه تعقيدات جمة وعقبات اضخم حجما وأكثر عددًا مما تصوره القائمون عليها والممولون لها .
أما اهم عقبة ستواجه المستوطنين بشكل خاص واتباع الصهيونية السياسية بشكل عام فهي كما حددها احد هاعام : * سكان فلسطين العرب * . فاليهود في خارج فلسطين لم يعيروا اهتماما ذا بال للعرب في داخلها ، وافترضوا انهم ( أي العرب ) غير قادرين على فهم ما يجري حولهم، وطالب الصهاينة الروحيون بموقف واقعي تجاه السكان العرب في البلاد ، وحذروا من ان الموقف الاستعلائي تجاه العرب وثقافتهم سيؤدي الى تفاقم سوء العلاقات بين * الطائفتين * . وكان مما قاله احد هاعام في هذا الصدد : * يميل اليهود من اتباع الصهيونية السياسية في الشتات الى الاعتقاد بان العرب هم من برابرة الصحراء وأنهم جماعة من المغفلين الذين لا يرون او يفهمون ما يدور حولهم … وهذه غلطة كبرى ، فالعرب مثلهم في ذلك مثل جميع الساميين يتمتعون بذكاء كاف ليفهموا كل الفهم ما يريده اتباع هرتزل من المستوطنين وما ينوون ان يفعلوه في البلاد ، ولكنهم يتظاهرون بانهم لم يلاحظوا ذلك لانهم لا يرون أي خطر يهددهم في الوقت الحاضر . ولكن إذا ماجاء وقت يكون فيه المستوطنون قد طوروا استعداداتهم الى الحد الذي يبدأون فيه ازاحة السكان المحليين جانبا ، قليلا او كثيرا ، فانهم سيقاومون ذلك بمنتهى القوة ولن يتخلوا عن مواقعهم بسهولة* ( Vital , p. 195 ) .
وهكذا حذر احد هاعام من بوادر ظهور حركة قومية عربية في فلسطين تهدد وجود المستوطنات اليهودية فيها وقد أبدى حساسية بالغة للأبعاد المأساوية التي ينطوي عليها * صدام محتمل بين الحركتين القوميتين : العربية والصهيونية * على الساحة الفلسطينية ، مؤكدا ان شيئا مهما كان على المستوطنين الصهاينة تعلمه من * تاريخهم الماضي والحاضر * وهو عدم اثارة السكان المحليين ضدهم ، ولكن ما يفعله المستوطنون- على حد تعبير احد هاعام – هو العكس تمامًا . اذ يسلكون تجاه العرب مسلك العداء والقسوة مما سيجعل العربي يختزن غضبه داخل نفسه حتى تجيء الفرصة المواتية فينقض على خصومه من المستوطنين وهو تواق للثأر والانتقام .
يتضح مما تقدم ان الصهيونية الروحية استطاعت ان تحدد بدقة وفي مرحلة مبكرة جدا العديد من المشكلات العملية التي قدر لها تعكير مسار تطور الحركة الصهيونية السياسية . فقد تبنى مؤسسها احد هاعام خطًا فلسفيًا سياسيًا واجه المشكلات العملية ببعد روحي ثقافي ،وهذه الرؤية هي التي جعلت وصف احد هاعام للمشكلات التي واجهت الاستيطان الصهيوني بالأمس وتواجه الاستيطان الاسرائيلي اليوم وصفًا يتسم بالدقة ويحمل في طياته التنبؤ بمستقبل محفوف بالأخطار . لقد اتهم هرتزل احد هاعام بالتنظير الخيالي المجرد من الواقعية وان تبني استراتيجيته سيؤخر قيام الدولة اليهودية مدة تسعمائة عام على الأقل . وكان رد احد هاعام بان إقامة وطن يهودي يتسم بطابع روحي انساني مستقر الجذور بعد تسعمائة عام أفضل من إقامة دولة يهودية بعد خمسين عاما على ارضية من الرمال المتحركة.
التعليقات مغلقة.