القوى “الخفية” في الولايات الأميركية المتحدة (1) … من هي؟ / زياد حافظ
زياد حافظ* ( لبنان ) – الأربعاء 2/12/2020 م …
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
الانتخابات الأميركية الأخيرة التي لم ينته مسلسلها ولا تداعياتها عند كتابة هذه السطور كانت وما زالت مفصلية على أكثر من صعيد. فهي تشكّل نقطة تحوّل معلن في مسار الدولة التي تشهد للمرّة الثانية في تاريخها امتحانا حول كيانها وحتّى وجودها. المرّة الأولى كانت الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر واليوم هي على أبواب مرحلة أكثر خطورة من الحرب الأهلية. لسنا في هذه المقاربة معنيين بشكل مباشر في استشراف مستقبل الولايات المتحدة بل في محاولة فهم كيف تجري الأمور على الأقل منذ بداية التسعينات ومن هي القوى التي تسيّر الأمور. ففي هذه المقاربة سنعرض أولا هوية القوى التي تتحكّم بالولايات المتحدة على الصعيد الداخلي والخارجي ثم نعرض ثانيا كيف تعمل وثالثا ماذا فعلت وأخيرا ما هو مستقبلها.
ما يُسمّى بدولة المؤسسات والقانون ليست إلاّ واجهة رسمية لقوى غير رسمية تمتلك القرار والقدرة على توجيه الدولة. البعض يسمّيها الدولة العميقة وآخرون يسمّيها شبكة مصالح اقتصادية ومالية والبعض يعتبر أن أجهزة المخابرات هي التي تتحكّم بالأمور. هذه التسميات في رأينا جزئية وتتكامل مع بعضها البعض وتعمل على إيهام الناخب الأميركي بأنه هو الذي يقرّر. لكن التطوّرات الداخلية والخارجية كشفت الثغرات البنيوية في الكيان الأميركي والتي ظهرت مع سقوط الاتحاد السوفيتي ما أدّى إلى محاولات عديدة من قبل القوى الفاعلة التي تصنع القرار والتوجّهات العامة لمسار الأمور لتوقيف أو أبطاء الانحدار الحتمي الذي ينذر بزوال الكيان وإحلال مكانه كيانات متعدّدة. لسنا متأكدين أنها ستنجح في تصحيح الأمور لأنها قوى منقطعة عن الواقع الشعبي مكتفية بقوّامة مكانتها في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغير مكترثة لما تعتبرهم من المنبوذين (deplorables) على حد وصف هيلاري كلنتون لنصف الشعب الأميركي. لكن للإنصاف نذكّر هنا أن نائب الرئيس الأسبق ديك شيني كان موقفه مشابها عندما عبّر عن عدم اكتراثه بمزاج الشعب الأميركي الذي كان يتظاهر ضد الحرب على العراق. فاحتقار النخب الحاكمة للشعب الأميركي موجود في الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة!
في البداية لا بد من توضيح مهم: هذه القوى ليست “خفية” أي يجهلها العالم وليست تنظيما أو جبهة بالمعنى المألوف أو مترابطة بشكل تنظيمي ما يجعل تحديد هويتها أو شكلها أكثر صعوبة. فهي شبكة من المصالح والعلاقات عبّر عنها في مطلع الستينات من القرن الماضي الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطابه الشهير قبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب جون فيتزجرالد كندي. حذّر الرئيس آنذاك من خطر المجمّع العسكري الصناعي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار لا مصالح الشعب ولا قيم الجمهورية التي قامت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، بل مصالح شركات التصنيع للسلاح بشكل عام واللوبيات التي أنشأتها لتعمل لصالحها في أروقة السلطة في واشنطن فتفسد المؤسسات الدستورية والحياة السياسية.
قائمة هذه القوى طويلة نسبيا ومتحرّكة أي أنها تضمّ قوى نتجت مع وعن التحوّلات التكنولوجية والاقتصادية عبر تاريخ الولايات المتحدة وبالتالي يستحيل اعتبارها ثابتة. كما أن دور مكوّناتها يتغيّر مع التحوّلات الاقتصادية حيث شهدنا شركات عملاقة مختصة بقطاعات معيّنة تدخل إلى قطاعات جديدة أو تندمج مع شركات أخرى. فعلى سبيل المثال، شركة هاليبرتون النفطية أصبحت شركة مقاولة لوزارة الدفاع أي نجد هنا القطاع النفطي يتماهى مع القطاع التصنيعي العسكري أو المرتبط بشؤون الدفاع. كما لا يجب أن يغيب عن البال أن الانترنت ولد من رحم وزارة الدفاع فليس من المستغرب أن تصبح الشركات المعنية بالتواصل والمعلوماتية جزءا من المؤسسات المقاولة في الحروب السيبرية نيابة أو بالتنسيق مع وزارة الدفاع وبالتالي تلعب دورا كبيرا في توجيه (أو إفساد) الرأي العام لصالح وجهة معيّنة أو ضد وجهة أخرى. ونلاحظ أيضا أن شركات تصنيع معدّات حربية دخلت قطاع الإنتاج المعلومات مع تطبيقات عسكرية كشركة رايثيون التي استولت على شركة تكساس انستريمنت التي كانت تصنّع الحاسوب. وحتى شركات التوزيع للمواد الاستهلاكية كشركة امازون دخلت قطاع المعلوماتية الأمنية كما تدلّ العقود الكبيرة بمئات الملايين من الدولارات بينها وبين وكالة الاستخبارات المركزية. من هنا نفهم معاداة صحيفة ألواشنطن بوست التي يملكها جيمس بيزوس المساهم الأكبر والمؤسس لشركة امازون للرئيس الأميركي دونالد ترامب. فالعلاقة المتوترة بين ترامب ووكالة الاستخبارات المركزية تُرجمت بعداء الصحيفة للرئيس وذلك منذ الساعات الأولى لانتخاب ترامب سنة 2016.
لذلك يذهب بعض الكتّاب كتوم انجلهاردت في وصف الولايات المتحدة كدولة أمنية بامتياز مع تكاثر المؤسسات الأمنية والاستخبارية (17 حتى الآن!) التي أصبحت مجتمعا قائما بحدّ ذاته وذلك إضافة إلى الشركات الأمنية التي “تقاول” وزارة الدفاع في مهام لا تستطيع قانونيا الوزارة لقيام بها. فمجمع الوكالات الاستخبارية في الولايات المتحدة لعب دورا بارزا لأسقاط ترامب منذ البداية أو عرقلة اجندته السياسية في العلاقات مع كل من روسيا والصين وكوريا الشمالية. والعلاقة بين المؤسسات الأمنية والاعلام الشركاتي المهيمن أصبحت علاقة عضوية في تبادل المنافع. فمن جهة توفر المؤسسات الأمنية لمعلومات التي تريد ترويجها بينما بالمقابل يقوم الاعلام المهيمن بحماية وتثبيت أي سردية تريدها المؤسسات الأمنية. كذلك الأمر أصبحت العلاقة بين شركات التواصل الاجتماعي كفيس بوك وغوغل ويويتيوب وتويتر والمؤسسات الأمنية توجّه سياسات تلك الشركات في ممارسة الرقابة على مستخدمي خدماتها.
اما القطاع السنيمائي الأميركي فمنذ الحرب العالمية الثانية كان البوق الإعلامي لإنجازات القوّات المسلّحة وما زال حتى الساعة. فالبطولات العسكرية الأميركية هي على الشاشات الفضيّة وليست في الميدان حيث سجل القوّات المسلحة سلبي منذ الحرب الكورية إلى حرب فيتنام إلى احتلال فاشل في كل من أفغانستان والعراق إلى فشل في الصومال ولبنان، باستثناء احتلال جزيرة غرانادا في البحر الكاريبي.
ما أشار إليه الرئيس أيزنهاور آنذاك هو لمجموعة من الشركات التي تصنّع الأسلحة وتبيعها لوزارة الدفاع كشركة جنرال دايناميكس ولوكهيد مارتن وبوينع ونورثروب على سبيل المثال وليس الحصر. وهذه الشركات وزّعت مصانعها في عدّة ولايات حيث أأصبح نفوذها السياسي كبيرا جدّا سواء على صعيد التوظيف أو على الصعيد الاقتصادي والمالي لاقتصادات الولايات التي تعمل فيها وبالتالي أصبح السياسيون المنتخبون في تلك الولايات من المدافعين عن تلك الشركات ويناضلون للحصول على المزيد من العقود مع وزارة الدفاع لتأمين نمو وأرباح الشركات وبالتالي لاستمرارها في الولاية المعنية. وفي مطلع التسعينات أصبحت تلك الشركات أكبر شبكة توظيف عمّالي كما أصبحت المحرّك الأساسي للعجلة الصناعية في الولايات المتحدة. فشركات الدفاع هي أيضا التي تموّل الأبحاث العلمية والتكنولوجية التي تقوم بها الجامعات والمختبرات لأغراض عسكرية أولا وثم لأغراض تجارية. فالصناعات العسكرية هي الدافع الأهم للتفوّق التكنولوجي للولايات المتحدة على عدّة عقود من الزمن إلى أن صعدت كل من روسيا والصين.
شركات المجمع العسكري الصناعي هي التي تتعامل مع وزارة الدفاع وتبيع المعدّات العسكرية. ففي السنة المالية 2018/2019 كانت شركة لوكهيد مارتن أول المقاولين بنسبة 12،5 بالمائة من مجمل المقاولات بما يوازي 48 مليار دولار تليها شركة بوينغ بنسبة 6،9 بالمائة أو ما يوازي 26،3 مليار دولار ثم جنرال دايناميكس بنسبة 4،31 بالمائة أو 16،5 مليار. ثم هناك قائمة تضم كل من ريثيون ونورثروب غرونمن ويونايتد تكنولوجيه بنسبة 10 بالمائة أو ما يوازي 40 مليار تقريبا. الجدير بالذكر أن شركة التأمين الصحّي هومانا كانت بالمرتبة السابعة بنسبة 1،76 بالمائة ما يوازي 6،7 مليار دولار. وبما أن وزارة الدفاع تحظى بأكبر ميزانية في الدولة والتي وصلت إلى أكثر من 700 مليار سنويا (وهي أقرب للترليون دولار إذا ما أضفنا ميزانية وزارات أخرى مرتبطة بالدفاع كوزات النقل ووزارة الأمن القومي) نرى أن تلك الشركات تأخذ حصّة كبيرة من الموازنة العامة للولايات المتحدة. فهناك علاقة عضوية بين الدولة وشركات التصنيع العسكري حيث الأخيرة هي التي تشغّل بالمرتبة الأولى العجلة الصناعية وهي التي تؤمّن التوظيف لشرائح واسعة من العاملين والمتواجدة في ولايات عديدة وبالتالي يصبح “رأيها” حاسما في دوائر القرار السياسي. ولا يجب أن نستغرب ذلك فالولايات المتحدة قامت على الحرب وإبادة الشعوب واستعباد الإفريقيين لتشغيل مزارع القطن واستغلال الصينيين لبناء شبكات سكة الحديدة كما قامت على التوسّع الدائم والحروب. فبنية الاقتصاد هي للحروب الدائمة وامتدت من الحلقة الضيّقة للتصنيع العسكري لتشمل مجمل القطاعات الاقتصادية والمالية.
فلقائمة لتلك شبكة المصالح المرتبطة بعضها ببعض عضويا لا تشمل فقط الشركات والقطاعات الصناعية بل دخلت فيها المؤسسات المالية وتوسّعت لضم الجامعات (نعم الجامعات) ومراكز الأبحاث واللوبيات إضافة إلى الاعلام الشركاتي التي أصبحت ملكيته بنسبة 90 بالمائة لست شركات فقط. فالرأي العام أصبح صنيعة ست شركات التي تفرض الرأي الواحد بالتراضي ودون منافس له. هذا هو ربما الفرق بين الأنظمة الشمولية الدكتاتورية والنظام القائم في الولايات المتحدة. فالشمولية واحدة في كلا الحالتين ولكن الأولى تٌفرض قسرا بالقوّة الأمنية والترهيب بينما الثانية استطاعت فرض الرأي الواحد بالتراضي. هذه هي قوّة النظام الرأس المالي الذي يسعى إلى السيطرة عبر اقناع الجمهور الواسع بأن الخضوع له هو لمصلحة ذلك الجمهور. هذه هي فلسفة الدعاية التي تُقنع المستهلك لشراء ما ليس له حاجة فيه! الدعاية تُستخدم لحاجات تجارية ولحاجات سياسية في آن واحد والولايات المتحدة أبدعت في فن التسويق والترويج عبر صناعة الأفلام والمشاهد الاستعراضية التي تحاكي غرائز الفرد وتحاول إشباعها.
أما على صعيد المؤسسات المالية يكفي أن نشير إلى أن حوالي 75 بالمائة من الأصول المالية تملكها أو تسيطر عليها خمس مؤسسات مالية وأن ملكية تلك المؤسسات هي بيد أربع شركات فقط، أي هذه الشركات هي التي تتحكّم بالقرار المالي. لذلك نرى أن معظم المسؤولين في وزارة الخزينة الأميركية في إدارة كلنتون وبوش الابن واوباما وترامب “خرّيجو” تلك المؤسسات وبالتالي لا يجب أن نستغرب التشريعات التي تصبّ دائما في مصلحة تلك المؤسسات المالية.
القوى الخفّية في الولايات المتحدة (2)
كيف تعمل؟
هذه الشبكة من المصالح المختلفة أصبحت متداخلة بعضها ببعض. فهي تنتج من ناحية النخب التي تساهم في صنع القرار وتّروّج له كما أنها تتداول المهام في القطاع العام والقطاع الخاص بشكل مستديم ومنتظم. فكثيرون من المسؤولين السياسيين عملوا في القطاع الخاص وفي مراكز الأبحاث والجامعات كما أن كثيرا من العاملين في القطاع الخاص في المراكز القيادية عملوا في القطاع العام ومراكز الأبحاث. وعندما ينتهي مسؤول من عمله في القطاع العام يعود إلى القطاع الخاص سواء في الشركات الكبيرة أو في اللوبيات أو “الشركات الاستشارية” أو في مراكز الأبحاث أو في الجامعات ثم تدور الكرّة مرّة أخرى. خير دليل على ذلك مراكز الأبحاث التي يشكّل أعضاءها قائمة من السياسيين المرموقين والجامعيين البارزين والإعلاميين أصحاب الانتشار والاقتصاديين والماليين الذي يساهمون في تمويل تلك المراكز أو يقدّمون “وجهات نظر” للتوجهات المطلوبة.
لتوضيح ما نعرضه نشير مثلا إلى مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية الذي أُسّس سنة 1962 في رحاب جامعة جورج تاون (الجامعة المرموقة كانت الحاضنة لما أصبح أهم مركز أبحاث في السياسات الدولية). ومن أبرز قيادتها كان المستشار الأمن القومي السابق زبغنيو برجنسكي خرّيج جامعة هارفارد. هنا نرى التداخل بين الجامعة ومراكز الأبحاث والدولة ومؤسساتها. من جهة أخرى إن قائمة مموّلين ذلك المركز تضم الشركات الكبرى كبنك او اميركا وشركة شيفرون النفطية وشركة نورثتروب غرونمن التي تصنّع الطائرات الحربية، وشركة بوينغ للطيران وشركة جنرال ايرونوتيكال سيستمز وشركة لوكهيد التي تصنع أيضا المعدّات الحربية وشركة بختل المقاولة وجنرال دايناميكس وشركة مكافي المختصة في المعلوماتية وريثيون التي تصنّع صواريخ الباتريوت. هذا بعض من القائمة الطويلة التي تموّل هذا المركز بنسبة 30 بالمائة. ويجب الإضافة إلى تلك القائمة المصغّرة النموذجية للشركات قائمة تضم المؤسسات الخيرية أو غير الخيرية (foundations) كمؤسسة بيل غيتس ومؤسسة كارنجي على سبيل المثال التي تموّل حوالي 29 بالمائة من مالية المركز. كما أن المركز أصبح يستقبل مساهمات دول أجنبية كدول الخليج على سبيل المثال حيث دولة الإمارات العربية المتحدة تُعتبر من كبار المساهمين للمركز. ومساهمة الدول الأجنبية توازي 14 بالمائة من مالية المركز. ومركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (سي أس أي إس) لا يختلف عن العديد من المراكز المشابهة كالمجلس الأطلسي صاحب النفوذ الكبير في صنع القرارات الاستراتيجية في السياسات الخارجية لمختلف الإدارات. ضيق المساحة لا تسمح لنا بالتفصيل عن آلية عمل تلك المؤسسات وكيف تساهم في صنع القرار ومن خلال صنع القرار يتم “اختيار” الواجهة لكل ذلك أي الرئيس. نكتفي بالإشارة إلى أن معظم قرارات الإدارات المتتالية منذ عقود تٌبنى على “دراسات” و”تقديرات موقف” تعدّها تلك المراكز.
تتفّق معظم هذه المراكز ومعها الشركات التي تموّلها على تمكين سياسية الهيمنة المستديمة للولايات المتحدة على دول العالم. فطبيعة النظام الأميركي كانت مبنية على التوسّع في القارة الأميركية وعندما انتهت من السيطرة على المساحة الجغرافية التي أصبحت الولايات المتحدة اتجهت جنوبا نحو أميركا اللاتينية فكانت نظرية جيمس منورو في الربع الثاني من القرن التاسع عشر الذي حذّر الدول الأوروبية من التدخّل في شؤون القارة جنوبا. كما توجّهت غربا فاحتّلت جزر الهاواي وفي نهاية القرن التاسع عشر احتلّت الفيليبين في عهد الرئيس ماكنلي. الحرب هي سمة النظام الذي صرف أكثر من 215 سنة من عمره الذي لا يتجاوز 250 سنة في الحروب. حاليا الولايات المتحدة منخرطة في سبع حروب أو نزاعات بشكل مباشر أو غير مباشر وبالتالي “المصلحة” الوطنية هي الحروب ومن هنا نفهم دور المجمع العسكري الصناعي والمالي. فالطبقة المالية تستفيد من الحروب حيث تكون المساهم الأكبر في تمويل مشاريع إعادة البناء لذلك تدفع الجهات المعنية إلى تدمير الدول لإعادة بناءها. هذا هو فحوى نظرية رأس مالية الصدمة (shock capitalism) التي عبّرت عنها الكاتبة الكندية نعومي كلاين. هذه هي طبيعة النظام الرأس المالي الأميركي المتوحّش الذي يكافئ رأس المال على حساب العامل وبالتالي على حساب المواطن الأميركي.
أما السيطرة على المشهد المالي فحصل منذ مطلع السبعينات مع قطع علاقة الدولار بالذهب وبالتالي طباعة الدولار بدون مقابل. كما أن رفع أسعار برميل النفط تمّ بالتوافق بين الدول المنتجة والشركات النفطية التي جنّدت اٌلإدارة الأميركية لتسعير النفط بالدولار. لذلك أصبح الطلب على الدولار شبه مطلق وبالتالي مكّن مختلف الإدارات الأميركية من السيطرة على شرايين المال العالمية بسبب مركزية الدولار في منظومة المدفوعات الدولية. لذلك نجد معظم المسؤولين عن وزارة الخزينة الأميركية من كبار العاملين في المؤسسات المالية ما يؤكّد مساهمة القطاع المالي في شبكة المصالح التي ترسم وتوجّه السياسات المالية وبالتالي السياسات عامة.
الفريق المرتقب لإدارة بايدن/هاريس يمثّل ما عرضناه أعلاه. فوزير الخارجية المسمّى طوني بلينكن جمع بين العمل في إدارة أوباما ومراكز الأبحاث. كذلك الأمر بالنسبة لمستشار الأمن القومي جاك سوليفان المستشار السابق لهيلاري كلنتون لسنوات عديدة. وما يُشاع عن تسمية ميشال فلورنوا لوزارة الدفاع يؤكّد العلاقة بين مراكز الأبحاث والشركات الكبرى للتصنيع العسكري واللوبيات والشركات “الاستشارية” والعمل في الإدارة عندما كانت وكيلة وزارة الدفاع (undersecretary). فمنذ خروجها من الإدارة في أواخر 2011أسست لمركز لشركة استشارية “وست أكزك” في الشؤون الأمنية والحكومية. وقبل دخولها في حكومة اوباما كانت قد أسست سنة 2007 مركزا للأبحاث تحت اسم المركز للأمن الأميركي الجديد بالشراكة مع جمهوريين من المحافظين الجدد كروبرت كاغان. ونشير أيضا أن زوجها سكوت غولد كان قائدا في البحرية الأميركية قبل أن يتولّى منصبا في وزارة المحاربين القدامى وقبل أن يصبح مسؤولا في شركة أي بي أم ما يؤكّد ما عرضناه أعلاه عن العلاقة بين مؤسسات المجمع العسكري الصناعي المعلوماتي الأمني والمالي.
كذلك الأمر لعدد من مستشاري الرئيس ونائب الرئيس منهم من أتى من شركة رايثيون التي تصنّع صواريخ الباتريوت. وسنرى المزيد من العاملين في شركات المجمع العسكري الصناعي والمالي والمعلوماتي يملئون المراكز الشاغرة في الإدارة الجديدة في الوزارات المتعلّقة بالسياسة الخارجية والدفاع والأمن. وهذا الأمر ليس محصورا بالإدارة الجديدة بل في كل الإدارات. لا ننسى أن وزير الدفاع ومستشاري الأمن القومي في بداية ولاية ترامب أتوا من القوّات المسلّحة كما أن وزير خارجيته أتى من القطاع النفطي ووزير خارجيته الحالي أتى من رحم الاستخبارات المركزية وهو خرّيج جامعة وست بوينت العسكرية.
أما على صعيد الملفّات الداخلية فهناك شبه إجماع عند جميع هذه القوى السياسية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية االهوى على عدم التكّلم في الاعلام الشركاتي ووسائل التواصل الاجتماعي عن “الطبقة” بل عن ملفّات تتعلّق بالهويات والعرقيات. حتى الجامعات نزعت البعد السياسي عن العلوم الاجتماعية. فالاقتصاد السياسي تحوّل إلى “اقتصاد” فقط (economics) والعلوم الاجتماعية إلى “علم الاجتماع” (sociology) بعيدا عن أي بعد سياسي واي حديث عن الطبقات الاجتماعية والفجوات الاقتصادية. والاحتجاجات الأخيرة ضد العنصرية كانت مموّلة من الشركات الكبرى طالما الاحتجاجات اقتصرت على التنديد بالعنصرية بعيدا عن أي مضاعفات طبقية. لذلك حظيت تلك الاحتجاجات بالتغطية المفرطة لها مع الإضاءة على “وحشية” قوى الشرطة والتغاضي عن التخريب في الأملاك الخاصة والعامة من قبل المحتجّين. وبما أن الرأي العام ممسوك من قبل ست شركات تملك بدورها ما يوازي 90 بالمائة من الاعلام نجد أن صناعة الرأي الواحد في الجامعة وفي الحياة اليومية صناعة ناجحة حتى الآن. لكن تغيّر كل شيء مع تنامي الاحتجاج الشعبي ضد النخب وهذا ما يمكن مقاربته في فقرة لاحقة.
هذه الشبكة من المصالح الممسكة للراي العام استطاعت أن تؤّثر في مسار كافة المؤسسات الدستورية. فالمؤسسة التشريعية أصبحت أداة تنفيذية لهذه المصالح حيث التشريعات تصدر في معظم الأحيان من رحم اللوبيات والشركات “الاستشارية” التي تصوغ تشريعات لصالح الشركات والقطاعات التي تموّلها. قال لنا أحد عمداء كلّيات الحقوق في الولايات المتحدة أن مفهوم القانون في الولايات المتحدة يختلف عن المفهوم في أوروبا وسائر أنحاء العالم. فالقانون في الولايات المتحدة هو ليحافظ على حقوق المصالح وليس على حقوق المواطن. نرى ذلك في التشريعات التي تتعلّق بالقيود الناظمة التي تمّ تجويفها أو الغائها في كثير من الأحيان كالقيود الضابطة لأعمال المصارف التي أصبحت خارج القيد المنظّم. فكانت أزمة الرهونات العقارية التي كادت تطيح بالأسواق المالية الأميركية. كما أن مؤسسات الرقابة المالية تمّ تخفيض ميزانياتها وعدد العاملين فيها بحجة أن الرقابة قد تعيق الأعمال والمبادرات. التحوّلات التي حصلت في البنية الراس المالية أدّت إلى إلغاء القيود الناظمة وخاصة للعالم المالي الافتراضي.
القوى الخفّية في الولايات المتحدة (3):
ماذا فعلت؟
هذه القوى هي التي “تصنع” الواجهات السياسية من خلال رؤساء تختارهم عبر تداولات غير رسمية. فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي كان لا بد من تغيير واجهة الولايات المتحدة وإبراز شخصيات غير تلك التي قادت الحرب الباردة. لذلك لم يُكتب لجورج بوش الأب إلاّ ولاية واحدة بعد أن أشرف على نهاية الاتحاد السوفيتي وسقوط حائط برلين ورغم نجاحه في حرب الخليج الأولى على العراق. فاتت هذه القوى بشخصية مغمورة ولكن لها كل مواصفات الجاذبية التي تستهوي الجمهور الأميركي وفيه من الفساد ما يجعله طيّعا في يد تلك القوى. من هنا نفهم وصول بيل كلنتون، حاكم مغمور لولاية جنوبية صغيرة من بين رهط من الشخصيات الديمقراطية الثانوية. نذكر آنذاك تلقيب المرشحين الديمقراطيين ب “الأقزام السبعة” كما في القصة الخرافية التي يقرأها الأطفال. استمر بيل كلنتون في ولايتين صاحبتها الفضائح الجنسية والفضائح المالية وصلت إلى محاولة أقالته. لكن ولايتيه كانتا انطلاقا لتمكين المؤسسات المالية وتخفيض القيود الناظمة على نشاطات المؤسسات بحجة ضرورة زيادة التنافسية ولانطلاق العولمة بشكل واسع ولتكريس لقطبية واحدة لصالح الولايات المتحدة عبر السيطرة على شرايين المال بعد رفع القيود الناظمة عليها.
لكن هذه العولمة واجهتها معارضة من قبل دول لم تكن في الحسبان كسورية والعراق والجمهورية الإسلامية في أيران وحزب الله في لبنان خاصة بعد التحرير عام 2000 على سبيل المثال. فكان لا بد من إدارة تفرض السيطرة بالقوّة ومنع صعود دول تنافس الولايات المتحدة كما حددّتها وثيقة استراتيجية الدفاع والأمن القومي التي صدرت في أيلول/سبتمبر 2002. لذلك كان لا بد من تغيير الطاقم فجيء ببوش الابن وبظروف انتخابية ملتبسة والمحاط من صقور (أي المحافظين الجدد) كانت وظيفتهم دفع الولايات المتحدة إلى فرض الهيمنة بالقوة في العديد من البقع الجغرافية. لم يستطع بيل كلنتون بالقيام بتلك المهام بل اكتفى بالحرب على يوغسلافيا والاشراف على نهب روسيا من قبل الاوليغارشية اليهودية فلذلك تمّ غض النظر عن ولاية لنائبه آل غور. بالمناسبة كان انطوني بلينكن من مستشارين كلينتون آنذاك واُعتُبر من مهندسي تفكيك يوغسلافيا واليوم يعود إلى الواجهة كوزير خارجية!
لكن أخفاقات بوش الابن في عدم حسم المعركة السياسية وتفاقم المقاومة ضد الاحتلال في كل من افغانستان والعراق وبعد فشل عدوان تموز على لبنان التي شوّهت صدقية وصورة الولايات المتحدة دفعت القوى الخفية الصانعة للقرار والتوجّه السياسي للتدخل عبر لجنة باكر هاملتون لتصحيح صورة الولايات المتحدة عبر إطلاق مبادرات الحوار مع الخصوم والمتنافسين بدلا من التصادم المباشر. أما على الصعيد الداخلي فأزمة الرهونات العقارية الناتجة عن طبيعة نظام اقتصادي نيوليبرالي ومتوحّش كادت تطيح بالأسواق المالية وسيطرة الولايات المتحدة على المال عبر تلك الشرايين الحيوية. فكان لا بد أيضا من الاتيان بشخص مغمور نسبيا ومن أصول إفريقية ومسلمة لتلميع صورة المؤسسة الحاكمة الأميركية وكـأنها تجاوزت العنصرية البنيوية فيها. من هنا نفهم أهمية لجنة باكر هاملتون التي ضمّت ليس فقط رموزا من الحزبين الحاكمين بل أيضا شخصيات تنتمي إلى شبكة المصالح التي ذكرنا بعض رموزها. فجميع أعضاء اللجنة التي تكوّنت لمعالجة تداعيات الفشل في العراق ضمّت بالتوازي شخصيات جمهورية وديمقراطية شغرت مناصب رفيعة جدّا في الإدارات السابقة إضافة إلى شخصية بارزة من المحكمة الدستورية ما يدّل على أن الموضوع كان أبعد من سياسة معيّنة تجاه العراق بل تجاه العالم وطريقة التعامل.
لجنة باكر هاملتون كانت ربما الوجه الأكثر ظهورا لشبكة المصالح التي تشكّل مجمع القوى الخفية في الولايات المتحدة. فتمكين انتصار الشيخ الشاب والمغمور نسبيا حصل عبر إفشال المنافسة الأولى له أي هيلاري كلينتون التي تحمل رواسب فساد بيل كلنتون وعبر فرض مرشح للحزب الجمهوري لا يمكن أن يستهوي القاعدة الشعبية التي كانت تريد التغيير. فالشيخ العجوز جون ماكين مقابل الشيخ الشاب من أصول إفريقية ومسلمة كانت الطريقة الوحيدة لتلميع صورة الولايات المتحدة وهكذا كان. فاوباما ورث حروب بوش والازمة المالية التي ختمت الولاية الثانية لجورج بوش الابن فكان لا بد من “منقّذ” يمكن تسويقه إعلاميا.
اتبعت إدارة أوباما استراتيجية مختلفة عن الاستراتيجيات السابقة حيث كان التدخّل العسكري المباشر والكبير ركنا من تلك الاستراتيجية. استبدل أوباما القوّة الناعمة بالحرب المفتوحة. والحرب الناعمة كانت تحريك المجتمعات المستهدفة للتقاتل بعضها ببعض فكان الربيع العربي كارثة على المجتمعات العربية. لكن هذا لم يمنع من تدخّل ولو محدود في ضرب كل من ليبيا واليمن والتحريض على تدمير سورية. المهم هنا أن بصمات لجنة باكر هاملتون في منع الحروب المفتوحة كانت واضحة. في عهد أوباما كانت أيضا محاولات احتواء روسيا عبر دعم الانقلاب في أوكرانيا على الرئيس المنتخب. هذه القوّة الناعمة (لا ندري أين النعومة فيها؟!) استمرّت في ولاية ترامب الذي امتنع عن شن أي حرب جديدة ولكن استمر بمحاولة قلب الحكومات كما حاول في روسيا البيضاء أو بلاروسيا أو كما حاول في لبنان عبر انتفاضة شعبية مخترقة من منظمات غير حكومية مموّلة من الخارج أو عبر ممارسة الضغوط القصوى على كل من سورية والجمهورية الإسلامية في إيران ولبنان.
خلال العهود السابقة، من كلينتون إلى بوش الأبن إلى أوباما، شهدت الولايات المتحدة صعود التيار العولمي داخل المؤسسة الحاكمة والتي أدّت إلى المزيد من التدخل العسكري في العالم. فعهد أوباما شهد ثلاث حروب جديدة في المنطقة، في ليبيا وسورية واليمن، أضافة إلى الحروب السابقة في كل من أفغانستان والعراق حيث تعثّر المشروع الأميركي والعولمي. ما حصل داخل دوائر النخب الحاكمة هو صراع بين التيّار المعولم والمهيمن وبين التيّار الوطني الداخلي إذا جاز الكلام الذي كان يريد المزيد من الاهتمام بالوضع الداخلي. تجلّى ذلك الصراع بين مرشحة العولمة بشخص هيلاري كلنتون وتيّار الشعبوية المتمثل في بشخص دونالد ترامب. انتخابات 2016 كانت ردّة فعل على مجمل النخب الحاكمة فأتت بشخص من خارج الدائرة المعهودة من المرشّحين. الملفت للنظر هو أن ترامب استطاع أن يهزم النخب الجمهورية قبل أن يهزم مرشّحة النخب الديمقراطية. انتخابات 2020 هي استكمال لانتخابات 2016 التي لم تقبل بنتائجها النخب المعولمة. فكانت الحرب السياسية طيلة ولاية ترامب انتهت بفوز مرشّح الدولة العميقة التي يسيطر عليها التيّار المعولم وإن كان ذلك الانتصار مكلفا للغاية على صعيد التماسك الداخلي والذي قد ينذر بتلاشي مكوّنات الولايات المتحدة بشكل عام والدولة العميقة بشكل خاص التي شكّلها مجمل المؤسسات الأمنية والاعلام المهيمن والشركات التكنولوجية.
أما على الصعيد الداخلي استطاعت تلك الشبكة في سن التشريعات التي أدّت إلى تكريس هيمنة المؤسسات المالية والأسواق ومختلف شرايين المال عبر تخفيض حتى الإلغاء للقيود الناظمة للمؤسسات بشكل عام والمالية بشكل خاص. ادّى ذلك إلى تفاقم ثقافة الدين العام والخاص من جهة والاستدانة المفرطة في العقارات ما أدّى إلى ازمة الرهونات العقارية التي أصبحت أكبر أزمة مالية في تاريخ البلاد وحتى العالم كادت تطيح بكل المنظومة. حصل ذلك في نهاية ولاية بوش الابن ما جعل من الضروري التغيير للواجهة والتي جاءت بباراك أوباما. وكما ذكرنا سابقا فإن المؤسسات المالية شهدت تمركزا في عددها حيث خمس مؤسسات تملك 75 بالمائة من الأصول المالية بينما ملكية تلك المؤسسات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. هذا التمركز أعطى نفوذا كبيرا داخل شبكة المصالح التي تصنع القرار وتدفع بالواجهات التي تنفّذ توجيهاتها. كذلك الأمر حصل بالنسبة لشركات الضمان الصحي وشركات التأمين المرتبطة عضويا بالمؤسسات المالية حيث التمركز جعل لتلك المؤسسات نفوذا غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى شهدت تلك الشبكة المزيد من التمركز حيث عدد الشركات التابعة للمجمع العسكري الصناعي تقلّص عبر العمليات الاندماجية التي تنذر بتراجع في الابداع والكفاءة. فالجنوح إلى الاحتكار والممارسات الاحتكارية تقوّض الابداع بسبب تراجع التنافس. لذلك وجدنا أن المنتوج الحربي كالطائرات المقاتلة أكثر كلفة وأقل فعّالية من نظيراتها الروسية. نخصّ على سبيل المثال كلفة درّة السلاح الجوّي الأميركي أف 35 الذي ما زالت تشكو من عيوب رغم الكلفة الباهظة التي وصلت إلى أكثر من 70 مليون دولار للطائرة بينما نظيرتها الروسية سوخوي 57 كلفتها المتوسطة بحدود 40 مليون دولار. والآراء متباينة في موضوع كفاءة الطائرتين لكن لا تنافس بين كلفة الطائرة الروسية والطائرة الأميركية. ارتفاع الكلفة للطائرة الأميركية ناتج عن رغبة الشركة في تحقيق الأرباح طيلة فترة الإنتاج وإن كان في كثير من الأحيان على حساب سلامة المنتوج. لن نسترسل في هذا السجال فما يهمّنا هو التركيز على مسار شركات التصنيع الأميركية التي أصبحت عملاقة لا تستطيع الترشيق عبر الابداع والكفاءة.
انتخابات 2020 شكّلت تحوّلا مفصليا في المشهد السياسي الأميركي حيث شبكة المصالح التي عرضناها سابقا تعرّضت لتصدّعات بسبب انقطاعها عن نبض الجمهور الأميركي. التيّار المعولم الذي دعمته شبكة المصالح أصبح على نقيض المزاج الأميركي. فحتى داخل الحزب الديمقراطي هناك وجهات نظر وتباينات حول دور مكوّنات شبكات المصالح كالنظرة السلبية تجاه شركات النفط والمصارف الكبرى وشركات التواصل الاجتماعي التي تمارس رقابة على كل ما يخالف مصالح الشبكة. صحيح أن تلك الشركات دعمت المرشح الديمقراطي ضد الرئيس الأميركي ولكن هذا لا يعني أنها ستقف على الحياد في الصراع بين القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي وقيادتها العجوز (بايدن 78 سنة، بيلوزي 80 سنة، شومر 70 سنة). فما هو مستقبل تلك الشبكة هذا ما سنحاول مقاربته في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة.
القوى الخفية في الولايات المتحدة (4):
ما هو المستقبل؟
شبكة المصالح استطاعت حتى الآن إيصال “مرشحّها” إلى سدّة الرئاسة متخفّية وراء ستار “المؤسسات” و”القانون”. هزيمة ترامب الافتراضية كانت نتيجة تحالف الاعلام الشركاتي المهيمن ووسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الأمنية التي وجدت في الرئيس الأميركي خطرا على وجودها وعملها. لكن كلفة هذا النجاح قد تكون أكثر من قيمة الفوز في الانتخابات. فالأميركيون منقسمون بشكل عامودي وأفقي في آن واحد وليس بمقدور الرئيس المنتخب وفريقه ردم الهوّة بين مكوّنات الشعب الأميركي. فهو لا يحظى بتأييد كبير حتى داخل الحزب الديمقراطي ما يجعل برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي برنامجا توفيقيا بين متناقضات في أحسن الأحول ولن يعالج القضايا المزمنة التي أدّت على الانقسام.
في الماضي كانت تلك الشبكة تقرأ بشكل جيّد موازين القوّة الداخلية لكن هذه القدرة بدأت تتلاشى خلال السنوات الماضية. فالانتخابات الأخيرة كرّست حدّة الانقسام الداخلي الذي لا تستطيع هذه النخب مقاربته وبالتالي معالجته ومن هنا الخلل في القراءة. الخلل في قراءة موازين القوّة الداخلية بدأ يظهر في الحملة الانتخابية سنة 2016 حيث أوحت ودعمت الشبكة تسمية هيلاري كلنتون في سرقتها للتسمية من منافسها برني سندرز. والفضائح التي ملئت الحملة من تسريبات من داخل الحزب الديمقراطي لويكي ليكس تشير إلى عملية ذلك السطو. فالمسؤولون عن الحزب الديمقراطي، ومن ورائهم “الشبكة”، خافوا من وصول برني سندرز الذي يحمل مشروعا اصلاحيا تقدّميا بالمفهوم الأميركي والذي يهدّد العلاقة بين القيادة الديمقراطية وشبكة المموّلين الكبار من شركات أو أفراد. كما أن قناعة تلك القيادة آنذاك كانت أن الشعب الأميركي غير مستعدّ لتقبّل المشروع الإصلاحي الذي يعرضه برني سندرز. هذا يستدعي التوقف عنده غير أن حالة الانقسام الموجود بين مكوّنات الشعب تجعل طروحات برني سندرز وفريقه أكثر جدوى من الاستمرار في الوضع الحالي الذي لا يرضي أحد. لكن بعض طروحات سندرز قد تكون غير مقبولة ربما بسبب صوغها الذي يتنافى مع الموروث الثقافي الأميركي الذي لا يحبّذ تدخل الدولة في شؤون الأفراد وإن كانت هناك فوائد عديدة لذلك. لا نريد الاسترسال حول هذه النقطة لضيق المساحة المتاحة لكن أشرنا إليها لأنها من العوامل التي ساهمت في إجراء الخلل في قراءة موازين القوّة وخاصة المزاج العام للشعب الأميركي. بالمقابل عملت قيادة الحزب الديمقراطي والإعلام الشركاتي الليبرالي على دعم ترشيح دونالد ترامب اعتقادا أن الشعب الأميركي لن يصوّت لمن تعتبره بهلوان ومهرّج.
في كلا الحالتين قرأت تلك القيادة بشكل خاطئ مزاج الشعب الأميركي الذي كان يريد التغيير. فإقصاء سندرز جعل القاعدة الشابة للحزب الديمقراطي تتحفّظ على ترشيح هيلاري كلنتون كما أن القاعدة الجمهورية سئمت من قيادات تقليدية عاجزة عن التجاوب مع مصالحها. ترامب استطاع أن يقبض على نبض الشعب الأميركي أو على الأقل على نبض شرائح واسعة منه. ففاز بالتسمية كما فاز بالانتخابات الرئاسية ذلك الفوز كان تعبيرا عن نقمة ضد النخب الحاكمة. وهذا ما لم تقبله قيادة الحزب الديمقراطي وإلى حدّ ما قيادة الحزب الجمهوري التي تماهت في آخر المطاف مرغمة مع دونالد ترامب. صرفت قيادة الحزب الديمقراطي ومعها الاعلام الشركاتي الليبرالي المعولم كل ولاية ترامب على شيطنة الرئيس الأميركي ومحاصرته سياسيا واعلاميا ناهيك عن محاولات العزل.
القراءة الخاطئة لموازين القوّة الداخلية من قبل شبكة المصالح تعود بالدرجة الأولى إلى التغيرات في بنية كل مكوّن لتلك الشبكة. ذكرنا أعلاه التمركز الذي حصل في كل من الاعلام والمؤسسات المالية وشركات التصنيع المعدّات الحربية. وإذا أضفنا إلى تلك القائمة مجموعة شركات التواصل الاجتماعي التي أيضا منذ بدايتها كانت في موقع الاحتكار الفعلي في قطاعها نرى أن أوليغارشية جديدة تكوّنت. وحتى المؤسسات (foundations) كمؤسسة بيل ومليندا غيتس وجورج سوروس ومؤسسة كلنتون على سبيل المثال وليس الحصر أصبحت تلعب دورا غير مسبوقا في العديد من القطاعات. نذكر هنا دور مؤسسة بيل ومليندا غيتس تلعب دورا أساسيا في مقاربة جائحة الكورونا التي تكون أبعادها أوسع من القارة الأميركية لتشمل العالم أجمع. فهنا نرى مظاهر العولمة المفرطة عبر الترويج للتلقيح الاجباري في ظروف أقلّ ما يمكن القول عنها أنها ملتبسة.
سياسة مكوّنات الشبكة كانت المضي في مشروع العولمة الذي أثّر بشكل مباشر على مصالح الشعب الأميركي. ففقدان الوظائف التقليدية في القطاعات الإنتاجية ادّت إلى إفقار الطبقة الوسطى وخاصة بين المواطنين البيض. هذه الشريحة كانت لقمة سائغة لأي خطاب شعبوي يحاكي الغرائز التي فجرّها الضيق الاقتصادي والمالي. من هنا ظهر الخطاب القومي الأميركي في مواجهة العولمة كما ظهرت مجدّدا العنصرية التي استغلّها على حد سواه كل من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري وإن بطرق عكسية. عامل العنصرية سهّل تجاهل البعد الاجتماعي الناتج عن الفجوات الاقتصادية بين قلّة لا يتجاوز حجمها الواحد بالمائة تملك أكثر من سبعين بالمائة من الثروة في الولايات المتحدة. استغلال العنصرية كان مفيدا للشبكة لتجنّب مقاربة الفجوات الاقتصادية. والاعلام الشركاتي لعب دورا مفصليا في ذلك وكيف لا؟ فلا يمكن لمؤسسات تملكها شركات عملاقة أن تروّج لسردية ناقدة للنظام القائم التي تمثّله تلك الشركات وسلوكها فلا تنقل هواجس الشعب ولا المشاكل التي يعانيها. هذا أدّى إلى المزيد في فقدان مصداقية التي كانت معطوبة بالأساس في عدد كبير من الملفّات التي تهم المواطن الأميركي. ففقدان المصداقية للإعلام الشركاتي المهيمن ساهم في تكريس سوء تقدير موازين القوّة كما ساهم في حدّة الانقسام.
هذا يعني أن الدعاية حلّت مكان الخطاب السياسي الهادف وأن خطابا واحدا فقط هو المقبول وهو خطاب النخب الحاكمة. وبما أن الإعلام الشركاتي يمثّل حوالي 90 بالمائة من الاعلام المرئي والمكتوب والصوتي فتصبح الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي استكمالا للتحكّم بالرأي العام وفرض السردية التي تناسب النخب الحاكمة. وقيادات بارزة في تلك الشبكة تدعو بصراحة إلى مراجعة التعديل الأول في الدستور الأميركي الذي يصون حرّية التعبير والتعديل الثاني الذي يصون حق المواطن الأميركي في حمل السلاح. فمن جهة يتم تكميم الأفواه ومن جهة أخرى يتم نزع السلاح من المواطن الذي يمكن أن يلجأ إلى المقاومة المسلحّة ضد تسلّط النخب الحاكمة. هذا نموذج الفاشية الليبرالية التي تجمع تناقض الانفتاح الليبرالي مع القمع الفكري للفكر المضاد لها. ويصبح السؤال عندئذ هل ستنجح القوى الخفّية في تحقيق أهدافها بتكميم الأفواه ونزع السلاح ليستقر الوضع الإعلامي والسياسي لها؟
الانتخابات النصفية التي حصلت في 2018 كرّست الانقسام الداخلي العامودي والأفقي كما أكدّته انتخابات 2020. من نتائج تلك الانتخابات هي أن القوى الخفية خسرت قدرتها على اقناع الأميركيين بخياراتها وبالتالي ستضطر إلى “اقناع” الجمهور الأميركي بالقوة. ما كان يمّيز النموذج الأميركي عن النموذج الشمولي هو قدرة النموذج الأميركي في اقناع المواطن الأميركي بالتخلّي عن حرّياته طوعا كما حصل في قانون باتريوت الذي أقرّ في تشرين الأولى 2001 بعد أحداث أيلول في نفس السنة. اليوم هناك أصوات تدعو بصراحة إلى تقييد حرّية التعبير. فمن ضمن سلّة التعيينات للرئيس المنتخب يبرز اسم ريتشارد ستنجل كمسؤول عن الاعلام والدبلوماسية العامة. وريتشارد ستنجل كان في الماضي مدير التحرير لمجلّة “تايم مغازين” المعروفة. يدعو ستنجل إلى فرض القيود على كل خطاب يدعو إلى الكراهية والتمييز أو إلى المعلومات الخاطئة دون تحديد المعايير التي يمكن تطبيقها. وفي هذه الناحية يؤكّد ما تقوم به شركات التواصل الاجتماعي التي تحذف أو تعلّق حسابات وفقا لمزاجها تحت ذريعة منع خطاب الكراهية أو المعلومات الخاطئة (fake news) دون تحديد كيف وما يشكّل وجود تلك المعلومات خطأ يجب تصحيحه. كما يدعو أيضا إلى مراجعة الدستور في حق تملّك السلاح وهذه المسألة لن تمرّ بسهولة. فحمل السلاح هو في الحامض النووي للمواطن الأميركي وكل ثقافته وموروثه الثقاف تعطي مكانا خاصا لحمل السلاح. دعوة ستنجل قد لا تنجح ولكنّها تأتي في صميم خطاب العولمة الذي يريد تحويل المواطنين إلى مستهلكين فقط دون أي هوية وطينة وثقافية. ونزع السلاح هو تمهيد لتمرير بالقوّة لسياسات متناقضة مع الموروث الثقافي للأميركيين. لا نعتقد أن هذه المحاولات ستنجح ولكن وجود تلك المحاولات تدل على أن شبكة المصالح أصبحت تدرك على أنها على وشك خسارة السيطرة على الجمهور الواسع كما انها لا تمتلك حلولا ترضي الجمهور الأميركي.
حالة الانقسام الداخلي دليل واضح على عدم قدرة تلك القوى على استيعاب ما حصل من تحوّلات في المجتمع الأميركي التي ادّت إلى ذلك الانقسام الحاد. بل ربما يمكننا أن نقول أكثر من ذلك فهي مسؤولة مباشرة عن ذلك الانقسام وشجّعته لأنه كان يخدم مصالحها الضيّقة وفقدت البوصلة الأساسية أي الاستقرار الداخلي. فعلى سبيل المثال فإن الانقسام الناتج عن شعور شرائح واسعة بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي ناتج عن سياسات اقتصادية متعمّدة أدّت إلى تحويل الاقتصاد الأميركي من اقتصاد منتج بيني إلى اقتصاد رقمي افتراضي وذلك عبر توطين القاعدة الإنتاجية الصناعية إلى دول الجنوب في العالم. هذا أدى إلى فقدان وظائف عديدة كانت ركيزة الطبقة الوسطى. وتلك السياسات التي خدمت مصالح الشركات ومساهميها فقط أدّت الى تفاقم الفجوة الاقتصادية. ورافق تلك السياسات بل نتج عنها بشكل مباشر تمركز مراكز القرار الاقتصادي والمالي والإعلامي. اعتقدت تلك النخب وتلك القوى انها بمنأى عن أي مسائلة ومحاسبة واستمرّت في المزيد من تهميش الطبقة الوسطى. وبما أن معظم الطبقة الوسطى من البيض فنما شعور البيض بالتهميش وبالتالي ردّة فعل معاكسة استطاع استغلالها دونالد ترامب. فالعنصرية الجديدة التي تشمل جميع مكوّنات المجتمع الأميركي (أي ثقافة مواجهة الآخر) هي متلازمة مع تفاقم الفجوات الاقتصادية. من جهة أخرى تحصد هذه القوى نتائج سياسة فتح باب الهجرة للضغط على سوق العمل بشل جعل كلفة يد العاملة رخيصة بسبب قبول المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين برواتب وأجور منخفضة. هذا أدّى إلى المزيد من نقمة البيض من الطبقات الوسطى والفقيرة والتعبير عن عنصرية ناتجة عن الضيق الاقتصادي والمالي.
استطاع دونالد ترامب أن يلعب على هذه الوتيرة وساعدته في ذلك عن قصد أو غير قصد تلك القوى التي تتحمّل نتائج خيارات وسياسات داخلية وخارجية امتدت على أكثر من أربعة عقود. فلا عجب ان تصل الأمور إلى ذلك الحال من الانقسام الحاد. وما يزيد الطين بلّة هو حالة الانكار التي تعمّ تلك القوى التي لا تستطيع أو لا تريد الاعتراف بخطأ خياراتها وسياساتها فتستمر في سياسة الهروب إلى الأمام معتقدة أنها مسيطرة على المؤسسات الدستورية وخاصة التشريعية. فأعضاء الأخيرة لا تعارض خيارات الشبكة لأنها مدينة بوجودها لقوى تلك الشبكة من المصالح. لذلك يصعب التصوّر أن هذه الشبكة التي كانت ممسكة بمعظم خيوط الحياة السياسية تستطيع أن تسيطر على المشهد مجدّدا لأنها فقدت القدرة على التأثير على الشعب. فالإعلام المهيمن الشركاتي ووسائل التواصل الاجتماع تشكّل أدوات التحكّم بالرأي العام. لكن انحدار مستوى نقل المعلومات والتحريف للحقيقة والرقابة المفروضة على كل من يعارضها أفقدها كل مصداقية. هذه من نتائج الانتخابات التي روجت وسائل الاعلام ان مرشح النخب سيكتسح المعركة وأن حزبه سيتمكن من السيطرة الكاملة على مؤسسات التشريع. لم تجر الرياح كما اشتهت سفن شبكة المصالح وبالتالي لا بد من مراجعة جذرية لأدائها وحتى لخياراتها وسياساتها. ليس هناك من دليل على رغبة ولا على قدرة على ذلك فالمصالح متجذّرة ولن تسمح بالتغيير إلاّ بالقوّة. ربما هو المسار المرتقب للولايات المتحدة أي التغيير خارج الإطار المؤسساتي وبالشارع وبالعنف.
في الخلاصة يمكن القول إن شبكة المصالح التي قادت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصلت إلى طريق مسدود. فمن جهة لا تستطيع أن تقدّم أي شيء للجمهور الأميركي غير المزيد من السياسات التي تزيد في الفجوة الاقتصادية والاجتماعية كما أنها متمسّكة بسياسة الهيمنة في العالم وإن أدّت تلك السياسة إلى موجهات مع الدول. فالشعب الأميركي لا يريد ذلك وهناك تكمن المشكلة. فاعتقاد الشبكة أن السيطرة على المال والاعلام ووسائل التواصل كافي لتحقيق مصالحها بينما واقع الحال يدّل بوضوح أن الأمور تغيّرت. ليس في الأفق من يستطيع أن يقول كيف ستتصرّف تلك الشبكة. هل ستقدّم بعض التنازلات للحفاظ على ما تعتقد هو الأهم؟ السنوات القادمة قد تأتي بالإجابة ولكن في مطلق الأحوال دخلت الولايات المتحدة مرحلة لا توازن داخلي لا يستطيع أحد التنبؤ بالنتيجة. فالمؤسسات الدستورية أظهرت عجزها وخاصة المؤسسات القضائية والإعلامية التي كانت رمزا لاحترام القانون. فكل شيء أصبح عرضة للطعن كما برهنت الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
التعليقات مغلقة.