بيريتس سمولينسكين والحل القومي للمسالة اليهودية / د. أمين محمود




د. امين محمود ( الأردن ) – الجمعة 11/12/2020 م …

بدأ سمولينسكين حياته مسكيلا (المسكيل مفرد مسكليم وهي كلمة عبرية تشير إلى دعاة حركة التنوير بين اليهود وكان من روادها موسى مندلسون)، على غرار من سبقه من المفكرين اليهود الروس في أواسط القرن التاسع عشر ، وبالرغم من الثقافة التلمودية التقليدية التي تلقاها في صغره في أكاديمية التلمود التي كان يطلق عليها اليشيفا ، الا انه أبدى اهتماما متزايدا بالاتجاهات العلمانية وبأفكار عصر التنوير التي كانت سائدة في أوروبا الغربية .

وقد ادى به هذا الاهتمام الى الانتقال عام ١٨٦٨ الى فينا حيث اصدر مجلة شهرية اطلق عليها اسم هاشاحار Ha-Shahar ( الفجر ) ، وكانت تعتبر اهم مجلة تصدر باللغة العبرية آنذاك ، وقد اتخذت نهجًا يعبر عن افكار حركة التنوير التي كان سمولينسكين من اشد دعاتها في مطلع حياته، حيث داب في مقالاته ورواياته على انتقاد أسلوب العيش اليهودي ذي الطراز التقليدي المتدين و “الشخصية اليهودية المتخلفة” الخاضعة للتقاليد المتزمتة ، ومن جانب اخر طرحت هذه المقالات والروايات حملة حلول لمعالجة اوضاع اليهود ومشاكلهم كان ابرزها “الحل القومي”، مما ادى بسمولينسكين الى ان يطلق عليه لقب “أبو القومية اليهودية” .

وفي صدد معالجته لاوضاع اليهود الداخلية ، اكد سمولينسكين على ان العديد من المشاكل التي كان اليهود يواجهونها في روسيا ناجمة عن انتشار الجهل بينهم .

وبالرغم من انه وجه انتقادات شديدة لليهود لانهم لم يستجيبوا لمحاولات الحكومة الروسية الإصلاحية ، الا انه وجه انتقادات اشد لهذه الحكومة بدعوى إساءتها لليهود واعتبارهم مواطنين من * حيث الواجبات فقط لا الحقوق * مبررة ذلك ان سلوكهم الاقتصادي كان يتناقض مع مصلحة الدولة الروسية ..

وعزا سمولينسكين أساس المسالة اليهودية الى وجود اتجاهين متصارعين بين اليهود : اتجاه المتدينين المتزمتين ، واتجاه العلمانيين المنصهرين ، واعتبر هذين الاتجاهين مسؤولين مسؤولية مباشرة عن حالة الضعف والانحلال التي كان يعيشها اليهود آنذاك .

وجاءت دعوة سمولينسكين الى تبني الحل القومي محاولة منه لإنقاذ اليهود من محنتهم عن طريق احياء “الروح اليهودية المتميزة” وبعث ما كان يحلو لمثل هؤلاء المفكرين اليهود ترداده : “الرسالة الخاصة” لليهود تجاه الإنسانية والتي تهدف – على حد تعبيرهم – الى “نشر السلام في ربوع العالم”، وهي الرسالة التي كانت تحمل مضامين تدعو إلى تبوء اليهود مكانة خاصة بين شعوب الأرض ، اذ ان تحقيق هذه الرسالة – على حد قولهم – لا يتم الا بقيادة يهودية محضة ( Arthur Hertzberg ,The Jewish Idias , p. 145 ) .

وقد أبدى سمولينسكين استياءه من حالة الضعف التي كان يعيشها اليهود حيث عبر عنها بقوله : “… ان الشعب اليهودي أحجية عمرها أربعة آلاف عام ، تسير بين باقي الشعوب التي تنظر اليها…نظرتها الى حيوان كبير مخيف”، وهكذا فان كل الشعوب – على حد تعبيره – تبغض الشعب اليهودي “بكل جوارحها” . وقد أشار سمولينسكين الى قناعاته بان كراهية اليهود او ما اطلق عليها فيما بعد “اللاسامية” هي نزعة مغروسة في قلوب جميع الشعوب ضد اليهود في سبيل التخلص منهم، وقد عزا كل تلك الكراهية الى أسباب دينية واقتصادية وعنصرية ( صبري جريس ، تاريخ الصهيونية ، ج١ ، ص ٨٦) .

وفي معرض تحديده لمغزى الوجود اليهودي كأمة منتشرة في شتى ارجاء العالم ، ركز سمولينسكين على ان مقتضيات استمرار هذا الوجود يرتكز . على مدى عمق احساس اليهود بقيمة وجدوى “الذات” ومدى اعتزازهم بتراثهم الثقافي لدرجة انه اطلق عليه أيضا لقب “رائد قومية الشتات” وكان اليهود يشكلون – في نظره – “شخصية قومية متميزة”، بالرغم من انهم بقوا أقلية منتشرة في كل مكان بدون “وطن” خاص بهم…” كانوا أمة روحية Am Harauch والتوراة كانت أساس دولتهم” .

وقد طرح سمولينسكين في مقالته “حان وقت الزرع” تصوره للقومية اليهودية الروحية التي لا ترتبط بالأرض وإنما ترتبط بالتوراة . وانطلاقًا من هذا التصور -كما ذكر المسيري – كان بإمكان اليهود ان يصبحوا مواطنين مخلصين لاوطانهم محتفظين بتضامنهم فيما بينهم ، اذ ان تضامنهم تضامن روحي وليس تضامنا ماديا ( عبد الوهاب المسيري ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ص ٢٧٠ ) .

يتضح مما سبق ان سمولينسكين نادى ببعث القومية اليهودية الروحية في ارض الشتات وذلك عن طريق توسيع الثقافة اليهودية وإقامة منظمة يهودية عالمية والإبقاء على أمل الخلاص حيًا لدى اليهود . وهنا يبدو تأثره واضحًا بالحركات التحررية الاستقلالية التي عمت مختلف ارجاء أوروبا ، وكان يامل في ان يتمكن اليهود من ان يتبعوا خطاها . غير ان طروحات سمولينسكين بدأت تتعرض في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر للهجوم على صفحات جريدته من جانب مفكر صهيوني اخر هواليعازر بن يهودا .

فقد انتقد بن يهودا القومية الروحية لسموليسكين كشيء غير مادي وغير عملي ، ولا يستطيع التجاوب بفعالية من خلالها مع المعاناة المادية لليهود ، ويحافظ بالتالي على كسب ولاء الجيل الصاعد . وما لبث سمولينسكين في أعقاب احداث ١٨٨١-١٨٨٢ ان اعترف بصحة هذه التهم ، وانتابه اليأس من مستقبل اليهودية في المنفى ، وتنكر لموقف المسكليم واتجاهاتهم العلمانية . وأخذ يشن حملات انتقاد عنيفة ضد المسكليم الداعمين للانصهار ، واعتبر سمولينسكين عملية الانصهار عملية لا كرامة فيها ولا تتصف بالنزاهة الفكرية ، وذهب الى ابعد من ذلك ، فقد اتهم المنصهرين بالتنكر لتراثهم وابناء جلدتهم ، ودعا اليهود الى التمسك بماضيهم والاهتمام بحاضرهم ومستقبلهم وخاصة بالنسبة ليهود أوروبا الشرقية ( David Vital , The Origins of Zionism , p. 47 ) .

كما أخذ سمولينسكين يهاجم حركة الهسكلاة ( كلمة عبرية وتعني الاستنارة )، موجها نقدًا حادا لها وللمنضوين تحت لوائها من اليهود الألمان ، وأخذ يبحث عن تعريف جديد للشخصية اليهودية. وفي سلسلة من المقالات التي هاجم فيها هسكلاة برلين تعرض لمندلسون بالنقد الشديد ، واتهم دعوته للاستنارة بانها كانت أيضا دعوة للاندماج والانصهار واعتبرها انحرافًا وخيانة “للتراث اليهودي” .

كما وصف مندلسون بانه مثال للجبن اليهودي ونكران الذات القومية . وقد اتهم سمولينسكين الدعوة المندلسونية بانها تقليد ذليل للمسيحية ، حيث ادخلت الفرقة والطائفية في الديانة اليهودية ، وأعاقت التقدم اليهودي عن طريق جعل التقليديين يهابون أي تغيير مهما كان نوعه . وأعاد سمولينسكين – من وجهة نظره – الجذور الأساسية للانحلال والتفكك اليهودي الى مندلسون الذي بشر بان اليهودية مجرد دين فقط يقتصر على مجرد الخضوع لتعاليم التوراة المتوارثة دون التعمق فيها او العمل على تطويرها .

ومن ناحية أخرى ، اكد سمولينسكين انه لو تحقق لهسكلاة مندلسون والحركة الإصلاحية اليهودية النجاح لتتمخض عن ذلك زوال اليهودية والقضاء عليها ، لان هاتين النزعتين – على حد رأيه – قد تخلتا عن ركيزتين أساسيتين لوحدة * الشعب اليهودي * وهما : اللغة العبرية والأمل بخلاص جماعي “للشعب اليهودي”.

وبالرغم من انه اعترف بانه لا ضير على اليهود من استعمال لغة البلد الذي عاشوا فيه خلال حياتهم اليومية ، الا انه اصر على انه “بدون العبرية لا وجود لتوراة وبدون توراة لاوجود للشعب اليهودي”. وبالرغم من دعوة سمولينسكين لإحياء اللغة العبرية الا انه اشترط ان “لا يحل حب اللغة مكان حب الوطن”، فدور اللغة هو غرس “حب الوطن في قلب الإنسان”. ولهذا دعا الى تشكيل جمعيات تستطيع الأخذ على عاتقها دراسة وتدريس اللغة العبرية وتقديم العون لكل من يريد دراسة هذه اللغة . كما دعا الى تاسيس مدارس لتدريب المعلمين والحاخامات وحثهم على ادخال مفاهيم حياتية جديدة لدى الأجيال النامية عن طريق تعليمهم العبرية وتنمية “شعورهم القومي” وتعميق ارتباطهم بتراثهم وتقاليدهم .

وفي معرض هجومه على المصلحين اليهود الألمان تناول مشكلة القلق النفسي التي تعتري اليهود فعزاها الى حالة التشتت التي كانوا يعيشونها في مختلف بلدان العالم . وقد أشار في تحليله لسر الكراهية التي كان يتعرض لها اليهود فأوضح ان مرد ذلك لا يعود للعامل الديني فحسب ، وإنما يعود الى حالة التشرذم والتفتت والنقص التي كان اليهود يعيشونها كمجموع .

ويلاحظ في هذا الصدد ان ،سمولينسكين حشر في كتاباته الكثير من صور البؤس والمتاعب والآلام وأسهب في الحديث عن حالة التشرد والاضطهاد والتشرد كما اختارها لحياته الخاصة ، وحاول إلصاقها بجيله ومعاصريه بشكل خاص والأجيال اليهودية بشكل عام . ودعا الى التغلب على هذه الحالة المزرية عن طريق * بعث قومي * يهدف الى تجميع اليهود في مكان معين .

ومن اللافت للنظر انه اتجه بادىء الامر الى دعوته الجماهير اليهودية للتجمع في مكان يختارونه اما في شمال امريكا او جنوبها . وبقيت فلسطين حتى عام ١٨٨٢ غير مطروحة لدى سمولينسكين كمكان لاستيطان اليهود . غير انه ما لبث خلال هذه الفترة وبعد تصاعد حدة الاضطهادات Pogroms ضد يهود روسيا ، ان تعمقت روية سمولينسكين وتحولت صوب الصهيونية كملاذ اخير وحل وحيد للمسالة اليهودية . فاتصل بالدبلوماسي البريطاني لورانس أوليفانت والذي كان من غلاة الصهاينة الأغيار طالبا منه العون والمشورة للبدء في نشاط استيطاني يهودي في *الارض الموعودة * التي حصرها أوليفانت بفلسطين والأردن كما وردت في كتابه ارض جلعاد The Land of Gilead . ويلاحظ ان سمولينسكين في معرض تبريره لاختيار هذه البقعة * وطنا قوميا * لليهود قد استند على نتائج الدراسات التي وضعها أوليفانت وأقرانه البريطانيين من باحثي صندوق استكشاف فلسطين حول * الارض الموعودة * وإمكانية استيعابها ما لا يقل عن أربعة عشر مليون مستوطن ( Hertzberg p. 50 ) . ومعنى ذلك انه كان بمقدور. جميع اليهود الراغبين بالهجرة آنذاك – وفق طرح الباحثين البريطانيين – ان يهاجروا الى فلسطين وما جاورها بسهولة متناهية لان بامكانها ان تستوعبهم جميعا خاصة بعد التخلص من سكانها العرب وترحيلهم – كما اقترح الصهيوني البريطاني أوليفانت – الى * الواحات الصحراوية * .

ولكن سمولينسكين دعا الى قصر الهجرات اليهودية على الفقراء والمعوزين من اليهود ، وكان يكفي – في رأيه – ان يهاجر مليون مستوطن بادىء الامر كي تتسنى لهم حياة عمل منتجة تكون خير دعاية لجلب المزيد من المهاجرين . وقد أشار سمولينسكين الى ان قيام مثل هذه الهجرات يؤدي الى نتيجة مزدوجة : الأولى تحسين احوال المهاجرين والآخر تخفيف الضغط عن *الباقين *من اليهود في * ارض الشتات * الذين سيستمرون في اماكنهم لتمويل عملية الاستيطان اليهودي وتصعيدها . وهذا منطق واضح يبرر سمولينسكين فيه كسابقيه ضرورة ابقاء الراسماليين والأغنياء اليهود في بلدانهم المختلفة وخاصة بلدان غرب أوروبا . ولذا لم يكن غريبا عندما اشتدت موجة الهجرات اليهودية من روسيا صوب العالم الغربي ان يتخذ سمولينسكين موقفا معارضًا لهذا الاتجاه بحجة انه * لا يخدم مصلحة اليهود * حيث لا ضمان بالا تتغير الأوضاع في الدول الغربية مما يودي الى تعرض اليهود الى مصاعب واضطهادات متزايدة يضطرون عندها الى البحث عن ملجا جديد يتجهون اليه .

وقد دعا سمولينسكين الى عقد مؤتمر يضم عددا من * حكماء اليهود * وكتابهم بغية اضفاء الشرعية الروحية على العملية الاستيطانية اليهودية ، وحث المستوطنين على العمل في الزراعة لانها – في رايه – خير ما يودي الى تفاعل المستوطن مع الارض وتزيد بالتالي تعلقه بها واستقراره عليها ، مما يودي الى تعميق ارتباطه الازلي * بالارض المقدسة * ، اضافة الى ان هذه الارض تتمتع بموقع جغرافي هام يؤهلها الى ان تتحول الى نقطة ارتكاز استراتيجية اقتصاديا وعسكريا تربط اوروبا باسيا وافريقيا كما كانت سابقا وتنتقل استراتيجيتها الصهيونية في نهاية المطاف من اعتمادها – كما كان يدعو سمولينسكين- على* توجهات احباء صهيون التسللية * في تلقيها الدعم من اثرياء الغرب فقط ، الى دولة وظيفية تقوم بخدمة مصالح القوى الاستعمارية الغربية وتعتمد على دعمها في تحقيق مشاريعها الاستيطانية التوسعية .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.