الجزائر … ذكرى مظاهرات 1960 (من 09 إلى 16 كانون الأول/ديسمبر 1960) / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 15/12/2020 م …  

عندما يقول بعض العرب المُشائمين، أو المُتخاذلين، أو المُسْتسْلِمِين، أن فلسطين انتهت، وأن الكيان الصّهيوني رسّخ قَدَمَيْهِ في فلسطين للأبد، تعود إلى ذاكرتي نضالات الشعب الجزائري، الذي قاوم الإستعمار، لفترة امتدّت من 1830 إلى 1962، ومن بين محطات هذا النضال، نستذكر هَبَّة يوم الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر 1960، أي بعد 130 سنة من الإستعمار، ليرفُضَ هذا الشّعْبُ اعتبار الجزائر أرضًا فرنسية، وليُطالب بإلغاء كافة القوانين التي شَرْعَنَت الإستعمار الإستيطاني، والتي أنْكَرت تاريخ وهوية شعب الجزائر…




لما انطلقت الثورة المُسلحة (وهي ليست الأولى في تاريخ الجزائر المُسْتَعْمَرَة) في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، كانت قِلّة قليلة من الجزائريين تؤمن بإمكانية الإنتصار على فرنسا الإستعمارية، قبل أن تتمكن جبهة التحرير الوطني من ترسيخ أقدامها، خاصة في المناطق الرّيفية، وإطلاق إضرابات، بحلول الربع الثالث من سنة 1956، وعند ذلك التحقت شرائح عديدة بصفوف الثورة، أما في الصّف المقابل، فقد انتظم العديد من المُستعمِرِين الأوروبيين في مليشيات إرهابية بالمُدُن، وأصبح الجيش المُسْتعمِر يمارس عمليات الخَطف والإغتيال والتّعذيب الوحشي بشكل مُستمر ومنهجي…

تَجَنَّدَ المُستعمِرُون المُستوطنون الأوروبيون للدفاع عن مُكتسباتهم التي حصلوا عليها بفعل القوة الإستعمارية التي سَلَبَتْ حُقُوق وممتلكات وأراضي الشعب الجزائري، ومنحتها لهم، وخرجوا في مظاهرات تُطالب الجنرال “شارل ديغول”، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة ( دستور سنة 1958 ) بمواصلة استخدام القوة العسكرية وحدها، بدل التخطيط (الديغولي) للقضاء على الثورة المُسلّحة، التي انطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 1954 (سنة الهزيمة الفرنسية في “ديان بيان فو”، بفيتنام)، من خلال منح استقلال شكلي للجزائر، تحت عنوان “تقرير المصير”، مثلما حصل في مجمل المُستعمرات الفرنسية بإفريقيا، وذلك بعدما استنتج اليمين الذي يمثله “ديغول” فشل تنفيذ مخطط “الحرب المُضادّة للثورة”، وفَشَلَ مخططات عَزْل المقاومة المُسلّحة عن الحاضنة الشعبية، رغم المجازر التي نفذها الجيش الفرنسي، وعمليات التّرهيب وتهجير السّكّان وحشرهم في مُعتقلات ضخمة مُحاطة بالأسلاك الشّائكة، وقطع المياه، واستخدام سلاح الطّيران الحربي، والأسلحة الفتّاكة، مثل القنابل الحارقة (نابالم) لحرق المحاصيل الزراعية والغابات والأحراج وأكواخ القش، بمن يسكنها…

رفضت جبهة التحرير الوطني “سلام الشُّجْعان” الذي اقترحه الجنرال “شارل ديغول”، ممثل الإستعمار الفرنسي، ويتلخص في إطلاق مشروع دولة “الجزائر التي يحكمها جزائريون” (بدل الفرنسيين) لكن مصيرها مرتبط بفرنسا (أو ما يُسمّى “الإستعمار الجديد”)، فيما شكّلت انتفاضة الشعب في المُدُن الجزائرية، في التاسع (وحتى السادس عشر ) من شهر كانون الأول/ديسمبر 1960، حلقة جديدة من حلقات النضال ضد الإستعمار، وردًّا على غلاة المُستوطنين، ثم أدّت صلابة وإصرار وعزيمة الشعب الجزائري إلى خلق ميزان قوى جديد، مَكّنَ من إحباط مُخطّطات الدّولة الإستعمارية الفرنسية، وعَزْلِها لدرجة فقدان تأييد أصدقائها وحُلفائها في الأمم المتحدة، وبذلك تتالت خسائر فرنسا للمعارك السياسية، الواحدة تلو الأخرى، رغم القُوّة العسكرية الهائلة، كما أحبطت مظاهرات كانون الأول/ديسمبر 1960 مُخططات الإستعمار الفرنسي لإبقاء الجزائر تحت سيطرته، ولتقسيم البلاد، وفَصْل الصحراء ومنطقة النّفط والواحات عن الوطن، ولإنشاء منظمات عميلة، تنافس جبهة التحرير الوطني، والحكومة الثورية المؤقتة، المتواجدة بتونس، والتي تشكلت في أيلول/سبتمبر 1958…

أعلن الجزائريون يوم الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر 1960، يوم إضراب شامل، ورفَعَ المواطنون العلم الجزائري في الشوارع وفوق سطوح المنازل، خاصة في الأحياء الشعبية بالمدن الكبرى، كما نَظّم المواطنون نوبات حراسة، تحسُّبًا لهجمات مليشيات المُستعمِرِين، ولتنظيم عمليات الدّفاع عن الأحياء، وعن المُضربين والمتظاهرين…     

أسْفَرَتْ مظاهرات التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1960 عن اشتباكات بين المليشيات المُسَلّحة للمُسْتعمِرِين الأوروبيين والمواطنين الجزائريين، وأظهرت وثائق الأرشيف وقوع المتظاهرين الجزائريين بين فَكَّيْ كماشة (الجيش من جهة ومليشيات المُستعمرين، من جهة أخرى) ما أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 120 ضحية، بين 11 و 13 كانون الأول/ديسمبر 1960، في مناطق الجزائر العاصمة ووهران، ومئات المُصابين بجروح، كما أسفرت المُظاهرات عن انتصار سياسي لجبهة التحرير الوطني، وفرضت على الأحزاب والنقابات الفرنسية، فكرة القبول بفشل الحل العسكري، وضُرُورة البحث عن حل سياسي بالجزائر، عبر التفاوض مع جبهة التحرير الوطني (والحكومة الثورية المؤقتة الموجودة بتونس)، بهدف الحفاظ على مصالح فرنسا، بدل تكثيف القمع والإغتيال وعمليات الإختطاف، منها اختطاف الطائرات، مثل حادثة اختطاف وتفتيش طائرة كان يُفترَضُ أن يكون بداخلها قادة جبهة التحرير الوطني، في رحلة من المغرب إلى تونس، يوم 22 تشرين الأول/اكتوبر 1956، وأثبتَتْ مُظاهرات كانون الأول/ديسمبر 1960 شعبية جبهة التحرير الوطني داخل الجزائر، وتزايد الدعم الخارجي من مجموعة عدم الإنحياز والدول الإشتراكية والبلدان العربية، ليصبح ميزان القوى يميل نحو استقلال الجزائر، خاصة بعد التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على لائحة تدعم حق استقلال الشعب الجزائري، وصوت خمسة أعضاء بحلف شمال الأطلسي لفائدة اللائحة التي حازت 63 صوتًا، ومعارضة ثمانية دول، وامتناع 25 دولة عن التصويت، وأدّت الأحداث (الإضرابات والمظاهرات والدّعم الخارجي لاستقلال الجزائر) إلى تَكَيُّف الحكومة والأحزاب الفرنسية مع الواقع الجديد، والبحث عن سُبُل الخروج من ورطة الجزائر، بأقل التّكاليف، وبأقل قدرٍ من الخسائر السياسية والإقتصادية، وضمان أقصى حدّ ممكن من المصالح الفرنسية بالجزائر، فتغيّر شكل الخطاب الفرنسي، مع المحافظة على جوهره، وأصبح يتضمّن عبارات كانت تُعتَبَرُ من المُحَرّمات، مثل “حق الشعب الجزائري في الإستقلال”، بشرط ضمان الدولة المُستقلة مصالح فرنسا، وهو المحور الرئيسي الذي دافعت عنه الحكومة الفرنسية، خلال مُفاوضات وقف إطلاق النار، و”اتفاق إيفيان”، كمقدّمة للإستقلال الذي حصل رسميًّا في الخامس من تموز/يوليو 1962…

ورثت الأجيال التي وُلدت وعاشت زمن الإستقلال، التّمَسُّكَ باستقلالية القرار، وبرفض التّدخّلات الأجنبية في شؤون البلاد، كما في شؤون المحيط المغاربي والإفريقي، وبالخصوص في المنطقة المُحيطة بالصحراء الكُبرى، لكن الإقتصاد بقي ريعيًّا، يعتمد على صادرات المحروقات، وعلى استيراد معظم حاجيات البلاد، خاصة من الغذاء والأدوية، واللوازم الضرورية، ولم يُطور النظام الجزائري اقتصادًا يعتمد على القطاعات المنتجة، فتأثرت البلاد بانخفاض أسعار النفط والغاز، ما أدّى إلى هَزّات اجتماعية، أهمها تظاهرات تشرين الأول/اكتوبر 1988، التي أفْضت إلى حرب داخلية، دَمَّرت البلاد، وكذلك مظاهرات 2019 و 2020 التي أدّت إلى تغيير في أعلى هرم الدّولة، دون تغيير التّوجّهات…   

تُعتبر اللغة الفرنسية (بعد مَنْع الإستعمار تعليم اللغة العربية) من أهم المكاسب التي حصلت عليها الإمبريالية الفرنسية، وجعلت أقدامها راسخة في الجزائر، حيث لا تزال لغة المُستعمِر رائجة في أوساط السّلطات السياسية والإدارية والإقتصادية والمالية والمَصْرِفِيّة، وفي منظومة التعليم، ومؤسسات الدّولة، والخدمات، وغيرها من المجالات (وهي مسؤولية الدّولة، وليست مسؤولية الشعب ومنظماته)، ما يُعيق العلاقات وتبادل الأخبار والصّحف والكُتب والمطبوعات، وتبادل الخبرات النقابية والسياسية مع بقية الشعوب العربية، سواء مع الجيران (المغرب وتونس) أو مع شعوب المَشْرق العربي، بالإضافة إلى احتمال حصول الإنفصام بين القوى التقدمية (المُفَرْنَسَة) والفئات الشعبية ذات المُستويات التعليمية الضّعيفة، وتمكنت الوكالة الفرنسية للتعاون الدولي (بفضل طُغيان اللغة الفرنسية في الأوساط المُتعلّمة والمُثَقّفة) من دفع بعض الكّتاب والفنانين الجزائريين نحو التطبيع، عبر دعم مطبوعاتهم أو إنتاجهم، بنسبة ضئيلة أحيانا، لا تتجاوز 15% من تكاليف الإنتاج، بشرط المشاركة في مهرجانات يقيمها الكيان الصهيوني (مثل مهرجان “حيفا” للسينما)، أو يُشارك بها العدو الصهيوني، مثل معرض باريس للكتاب، حيث كان الكيان الصهيوني ضيف الشرف للمعرض…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.