فلسطين: مُعضلات الداخل ومهمّات الخارج … لماذا تواجه الجهود التحرّرية في فلسطين طرقا مسدودة؟

 

هشام البستاني ( الأردن ) الإثنين 23/11/2015 م …

في تناقض ذي شأن، يبدو الوضع السياسيّ للقضية الفلسطينية بائساً، رغم هبّة السكاكين، والتضحيات الكبيرة التي يقدّمها جيل جديد تقع عليه الأعباء الثقيلة للهزائم والتراجعات السابقة. لعينٍ مدقّقة، لا يثير هذا البؤس كثير استغراب، لعدّة عوامل تشكّلت تاريخياً تجعل أي جهد تحرّري فلسطيني داخليّ (ضمن حدود المعطيات القائمة حالياً) يواجه طريقاً مسدوداً، تنغلق نهايته بالمآلات التي أُوصلت إليها القضية الفلسطينية عبر عقود من العمل الدؤوب لإلحاق المجتمع الفلسطيني في الداخل بِبُنية الاستعمار الاستيطاني، وفكّها عن امتدادها الطبيعيّ كقضية تحرريّة عضوية لشعوب المنطقة العربية، وكقضية عدالة أساسية تهمُّ العالم بأسره وتضعه على المحكّ الأخلاقي.

معضلات الداخل: المجتمع الزبائنيّ

نجحت منظمة التحرير الفلسطينية ومن بعدها ما يسمى بـ”السلطة الفلسطينية” بتحويل الثورة إلى بيروقراط وظيفي ينغله الفساد والمحسوبيّات، ومن ثم بتحويل المجتمع الفلسطيني (في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد أوسلو) إلى مجتمع زبائني/رعائي، بينما نشأت السلطة نفسها في سياق علاقة “زبائنية” ترتبط أولاً بـ”إسرائيل” لجهة السياسة (شرعيتها مُستمدة من الاتفاق المعقود مع الصهاينة) والاقتصاد (يتحكم الصهاينة بكل المعابر باستثناء رفح الذي يحاصره النظام المصري، وبأموال الضرائب الفلسطينية، والاستيراد والتصدير، والطاقة، ومنافذ الانترنت)؛ وترتبط ثانياً بـ”المانحين”، وهم عموماً حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المنحازة لمصالح “إسرائيل”. يُصدّر المانحون والسلطة الفلسطينية هذه العلاقة الزبائنية إلى الأسفل بشكل مباشر، حيث أغلب فرص العمل مُتاحة إما في مؤسسات “السلطة” الحكومية والأمنيّة، أو في المؤسسات غير الحكومية المموَّلة أجنبياً (NGOs) التي تجتذب المتعلّمين والمثقفين بشكل أكبر، وبذلك يضمن هؤلاء تبعيّة مباشرة لأغلب الموظفين وعائلاتهم، وهؤلاء يشكلون غالبية المجتمع.

ولا ننسى هنا الزبائنية الفصائلية، حيث يرتبط كثير من أعضاء هذه الفصائل بفصائلهم (ومن ثم بمنظمة التحرير/السلطة الفلسطينية مصدر جزء كبير من التمويل الفصائلي) سواء مباشرة (رواتب، تقاعد، منح، مساعدات…) أو بشكل غير مباشر عبر مجموعة من الامتيازات والمصالح والمنافع. كما لا ننسى دور “القطاع الخاص”، وهو في مجمله رأس مال غير مُنتج يشتغل (من خلال مُوظَّفيه) كوسيط بين الشركات الدولية الكبرى والمستهلك المحلي، ولهذا ترتبط مصالحه بالأولى لا الثاني.

هكذا تشكّل عبر العقود، هرم من التبعية، يقع في رأسه “إسرائيل” والمانحون (الولايات المتحدة وأوروبا)، ثمّ، وبوساطة من السلطة الفلسطينية والـNGOs والفصائل، تتسرّب هذه التبعية إلى البنى الاجتماعية الأساسية، وتتشكّل شبكة من المصالح الماديّة التي يصير من الصعب الفكاك منها دون تبعات هائلة تطال مجموع الناس واحتياجاتهم الأساسية والرفاهيات المحدودة المتاحة لهم.

وربما تستدعي ملاحظة أن أغلب المُنتفضين في الهبّة الأخيرة هم من الأعمار الصغيرة (أغلب شهداء انتفاضة السكاكين هم من الفئة العمرية 16-22) التوقف والتأمل، فهذه الفئة العمرية هي تلك التي ما زالت (بوجودها على مقاعد الدراسة) خارج العلاقة الزبائنية المتعددة الأبعاد التي وضّحتُها، مما أعطاها مرونة أكبر في التمرّد والحركة، في حين عجزت الفئات العمرية الأخرى.

معضلات الداخل: السلطة الفلسطينية كاحتلال بالوكالة

هدف كل مقاومة هو رفع خسائر الاستعمار الاقتصادية والبشرية إلى الحد الذي تصبح فيه كلفة الاستعمار غير مُجدية فينكفئ ويضمحل وينتهي. أما أن تنشأ (بموجب معاهدة) إدارة وسيطة بين الاستعمار والمُستعمَرين، تنوب عنه في إدارة مجتمعهم، وتنسّق معه أمنياً بما يضمن ضبطهم وإحكام السيطرة عليهم وعلى تحرّكاتهم، وتسهّل له إلحاقهم الإقتصادي، فهنا يتحوّل الاستعمار إلى مشروع رابح: على المستوى العسكري خسائر أقل في جنوده وتقليل لمصاريف الجيش؛ على المستوى السياسي ثمة كيان ما للمستعمَرين هم “أحرار” فيه ظاهرياً وينوب عن “دولتهم” و”هويّتهم” ويمكن الاحتجاج به في المحافل الدولية؛ على المستوى الصراعي يتم تمييع مستوى المواجهة وحدّتها وتصدير نواتج الصراع وتبعاته من مساحة المستعمِر الجغرافية إلى مساحة المستعمَر؛ على المستوى الاقتصادي يربح الاستعمار من خلال إبقاء تحكمه بمجمل النشاطات الاقتصادية للمستعمَرين (الموانئ، المعابر الحدودية، المطارات، الطرق، الضرائب، الطاقة، الاستيراد والتصدير) وهي نشاطات مُربحة.

بهذا المعنى صارت السلطة الفلسطينية لا حاجزاً ماصّاً فقط بين الاستعمار والمستعمَرين، بل شريكاً للأول في سياق تخفيض كلفه المالية والبشرية، بل وزيادة أرباحه الاقتصادية والسياسية.

معضلات الداخل: الانقسام كرافعة للاستعمار

لا أتحدث هنا عن النتائج المباشرة للانقسام التي يعرفها الجميع ويلخّصها البيت الشعري: “…وإذا افترقن تكسّرت آحادا”، بل عن الانقسام في تحوّلاته البنيوية، حين يصير إضعاف أحد الخصمين قوّة للخصم الآخر فيشارك في عملية الإضعاف أو يسكت عنها في أقل الأحوال. في فلسطين لا يمكن “إعادة اللُّحمة” بشكل موضوعيّ، فالتقاسم الوظيفيّ السابق (حماس تقاوم ولا تشارك في “السلطة”، و”السلطة” تفاوض/تتنازل لوحدها ولا تقاوم) انتهى. الآن حماس تريد حصة في سلطة هي ليست سلطة في الواقع بل وسيط بين المستعمِر والمستعمَر، والمقاومة من أجل “التحرير” انتهت لصالح مقاومة من أجل المكاسب، ومكاسب كل طرف (متنازعٍ على “السلطة”) متعارضة، في حين يستفيد المستعمِر صاحب اليد العليا من كل ما ينتج عن هذا التعارض، وكل ما يغذيه، وكل ما يعزّزه، بل وكلّ ما يفيد أحد الخصمين دون الآخر لأنه يعزز الخصومة. هكذا يصير الانقسام شريكاً داخلياً ثالثاً من شركاء الاستعمار.

معضلات أخرى، وانسداد الأفق

هذه المعضلات الأساسية الثلاثة، تجعل من أي جهد فلسطيني داخلي من أجل التحرر محكوماً بأفق مسدود إن لم يأخذها بعين الاعتبار، ويلتفت إلى خطورتها، ويجعل مواجهتها جزءاً من مشروعه، يضاف إليها معضلات أخرى تتعلّق بميزان القوى العالمي الذي يجعل من تصور الولايات المتحدة وأوروبا شركاء من أجل “السلام” تصوّراً ساذجاً؛ إضافة إلى تبعية ووظيفيّة وفساد “الدول” العربية وأنظمتها، وإجهاض التحرّكات الشعبية العربية التي كانت تهدف إلى إسقاط هذه البنى المُعيقة واستبدالها، وهو الأمر الذي إن تحقّق، فسيساهم في دعم القضية الفلسطينية وينهي شريكاً أساسياً في محاصرتها.

ما العمل؟ مهمات للداخل وأخرى للخارج

لا حلّ في المدى المنظور بوجود هذه المعضلات الداخليّة، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية غير المهتمة بالتغيير. ولا وجود لحامل موضوعيّ داخلي قادر على التصدّي لبنى الهيمنة الزبائنية الوسيطة (السلطة، منظمة التحرير، الفصائلية) ومن ثم لِبُنى الهيمنة الأساسية (الاستعمار الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة وأوروبا). المهمة الأساسية بنظري هي إبقاء القضية حيّة وحاضرة إلى حين تغيّر الظرف التاريخي، وإخراجها من دائرة “الفلسطنة” إلى الدائرة الكونيّة، وهذا متاح بالأدوات التالية:

داخل فلسطين: تكبيد الاستعمار أكبر قدر من الخسائر الاقتصادية والبشرية؛ والانتباه إلى دور “السلطة” كحاجز لامتصاص هذا الأثر والعمل على إنهاء دور الحاجز وتفكيكه للعودة إلى صيغة الاستعمار المباشر؛ واستغلال التناقضات الهائلة داخل مجتمع المستعمِرين.

خارج فلسطين: العمل المستمر على تأكيد لا شرعية “إسرائيل” بصفتها مشروعاً استعمارياً استيطانياً لا يجوز أخلاقياً القبول به في عالمنا المعاصر، وبصفتها مشروع ظلم تاريخي لا ينتهي إلا برفع الظلم: إنهاء الاستعمار الاستيطاني؛ ومقاومة التطبيع عربياً بشكل شمولي يتضمن رفض المعاهدات الموقعة مع الكيان وكل نتائجها، والعمل على إسقاطها؛ ودعم جهود المقاطعة دولياً على أن ترتبط ببرنامج مناهض للاستعمار الاستيطاني؛ واستمرار العمل على استكمال لاحق للانتفاضات العربية تكون أكثر وعياً وتنظيماً وجهوزيّة لإسقاط الأنظمة الوظيفية التي هي جزء عضوي من وظيفية “إسرائيل” ومشروعها.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.