الأمن الثقافي / د. عدنان عويّد

 د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 17/12/2020 م …




     الأمن في سياقه العام هو اتخاذ الحيطة والحذر بمصالح الفرد أو المجتمع أو الدولة, أو بمجموع هذه المكونات, من أي خطر داخلي أو خارجي يمكن أن يعبث بها أو ينال منها.

     وعلى هذا الأساس, يأتي الأمن القومي, والأمن الوطني, والأمن العسكري, والأمن الغذائي, والأمن المائي والجوي والبحري والأمن الثقافي .. وغير ذلك من أشكال الأمن الأخرى التي تهم حياة المكونات التي أشرنا إليها أعلاه, أي الفرد والمجتمع والدولة.

     وإذا كانت كل أشكال الأمن التي جئنا عليها, عدا الأمن الثقافي تشتغل على الجانب المادي لحياة الإنسان, فإن الأمن الثقافي هو الأمن الذي يشتغل على الجانب الروحي.. أي المعنوي. أي الجانب العقلي, أو الوعي, وما يترتب على هذا الجانب من معطيات نفسية وأخلاقية وحتى السلوكية, على اعتبار السلوك في المحصلة, هو تعبير عن حالة وعي الإنسان بمحيطه ومصالحه.

     إذن, في الأمن الثقافي, يهتم القيمون على مسألة الأمن الثقافي في كيفية الحفاظ على وعي الناس من الضياع في عوالم اللامعقول, والعبث, والوهم, والانغماس في المجتمع الاستهلاكي القائم على الشكل وإشباع الغرائز على حساب قيم الروح النبيلة التي تعبر عن جوهر الإنسان وقضاياه المصيرية, ممثلة هذه القضايا بحريته وعدالته ومساواته وتحكمه بمصيره الإنساني, والوقوف بوجه قوى الجهل والاستبداد وكل قوى التجهيل والمصالح الأنانية الضيقة من رجال سياسة ودين ومال, وما يستخدمونه من وسائل فائقة القدرة على توجيه عقول الناس ونمذجتها بعيدا عن مصالحهم الحقيقة.

     نعم…إن أعداء الشعوب والإنسانية يعرفون تماماً ما يلعبه العامل الروحي/ الثقافي في تجذير استراتيجية ضياع الشعوب. فسلاح الكلمة والصورة والأيديولوجيا المغلقة, يظل أعظم فتكاً وتدميراً لجوهر الإنسان.. أي روحه, حيث تقوم الكلمة وبقية الوسائل الأخرى باغتصاب الروح من الداخل ببطء لتضمن اغتصابها باستمرار, وتحقيق حالة استلابها وخيانتها لتاريخها بالذات.

     لقد أثبتت التجارب التاريخية, إن الذي يضمن السيطرة على الشعوب هو التخريب الروحي والقيمي لهذه الشعوب, أو ما يسمى حرب المعنويات في شقيها الثقافي والاجتماعي, كحرب اللغة, والتعليم, والفن, والأدب, والذوق, والعادات والتقاليد, والأزياء, والطقوس, ومكانة المرأة, والوعي العقلاني النقدي… الخ.

الدور التخريبي للقوى الحاكمة المستبدة وقوى الاستعمار:

     إن القوى الحاكمة المستبدة والاستعمار كلاهما يشكلان الخطر الأكبر من داخل وخارج الشعوب, فكلاهما يعملان بقصد على تخريب ذاكرة الفرد والمجتمع, وحتى حياته اليومية المباشرة. فالقوى الحاكمة المستبدة تهدف من وراء هذا التخريب تجهيل الناس وضياعهم في مشاكل جزئية تبعدهم فيها عن فساد الطبقة الحاكمة, ورغبتها المحمومة في استمرار سلطتها وتحكمها بحياة الشعوب. و كذلك القوى الاستعمارية, تقوم هي أيضا باستخدام هذا التجهيل والتخريب الروحي حتى تظل قادرة على نهب ثروات الشعوب واستعمارها.

     إن ما قامت به وتقوم القوى الحاكمة المستبدة  من تجهيل لشعوبها وتخريب لذاكرتها الوطنية والإنسانية عموماً, رحنا نلمسه في ثورات الربيع العربي, فالشعوب التي تحمل السلاح ضد مكوناتها, وتعمل على تدمير مكونات الدولة والمجتمع, وتمارس سرقة أموال الناس بكل أشكالها, وقتل المختلف على الهوية, واللجوء إلى الخارج للاستقواء به ضد إخوة الداخل. مع غياب كامل لمفهوم الوطن والمواطنة باسم الحرية, هو دليل عملي لا يشوبه الشك, على  سياسات التجهيل التي مورست ضد الشعب من قبل هذه الحكومات, إن كان عن طريق استخدام ورقة الدين ممثلاً هنا بخطابه السلفي التكفيري الوثوقي الاستسلامي بكل مدارسه المحابية للسلطان من أشاعرة ومتصوفه, ورجال دين الذين ملأ الزيغ قلوبهم. أو عبر وسائل الإعلام والثقافة السطحية الاستهلاكية البعيدة عن تشغيل العقل والقيم الإنسانية النبيلة.

     أما القوى الاستعمارية, فمن يتابع حالة تطور المشروع الاستعماري الامبريالي, يجد كيف عملت هذه القوى الاستعمارية ليس على إخضاع هذه الشعوب تحت سيطرتها المادية ونهب ثرواتها فحسب, بل العمل على إعادة نمذجة عقول أبناء هذه الشعوب ثقافيا, من خلال تسويق النموذج الغربي الاستعماري داخل دول ومجتمعات الشعوب المستعمرة, لقد حاربت اللغة القومية لهذه الشعوب وفرضت لغتها في التعليم, وعبر اللغة عملت على تغيير ذاكرة أبناء المجتمع وربطها بتاريخ القوى المستعمرة وقيمها وعاداتها وتقاليدها وأبطالها. وإذا كانت قد ساهمت هنا وهناك في نشر بعض قيم الدولة المدنية, كالديمقراطية, والبرلمانية وغيرهما, إلا أنها وظفت هذه القيم لمصلحتها وليس لمصلحة الشعوب المستعمرة. فباسم الديمقراطية مثلاً فتت المكونات الاجتماعية وأدخلتها في حالات صراع على الهوية الطبقية أو العرقية أو الدينية.

     نعم.. لقد عملت القوى الاستعمارية ولم تزل تعمل على خلق عولمة ثقافة الاستهلاك والسلعة, بشقيها المادي والروحي, إن كان سابقاً عبر الاستعمار المباشر وحملات التبشير ورسالته الملغومة بمصالح المستعمر, أم عبر وسائل الثورة المعلوماتية الهائلة التي اخترقت اليوم كل مسامات حياة الفرد والمجتمع في هذه الكرة الأرضية. فعبرها راحت تسيطر على عقل وغريزة الإنسان معاً. فسيطرتها على عقله من خلال بث مئات النظريات الفكرية المتعلقة بسياساته أو إبداعاته الفنية والأدبية, هي تعمل على ربط كل شيء في حياته بدوافع نفسية أو غريزية أو لا شعورية أو حدسية, أو مواقف إرادوية فردانيه أو دينية, فكانت مدارس الفرويدية والنيوفرويدية والعبثية والدارونية الاجتماعية والبنيوية والوضعية وغيرها, مبعدة المواقف أو العوامل الحقيقة لسيرورة وصيرورة الإنسان القائمة على المصالح بشقيها المادي والروحي, وعلى البعد الطبقي المتجسد فيها بهذا الشكل أو ذاك.

     حقيقة إن ثقافة الاستهلاك في النظام العالمي الجديد, هي ثقافة الموت بكل أشكاله وصوره, ثقافة نمذجة الإنسان وتذريره أو تحويله إلى ذرة ليس له لون أو راحة أو طعم, إلا لون ورائحة وطعم ما تريده القوى المسيطرة على العالم اليوم, عبر جامعاتها وإعلامها وفنونها الأدبية والتشكلية, ويأتي في المقدمة دائما ثقافة الصورة والتلفاز والسينما والصحافة وأشكال الدعايات الإعلانية التي تشتغل خارج العقل والمنطق.

كاتب وباحث من سورية

[email protected]

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.