ستيلّا / أسعد العزّوني

أسعد العزّوني ( الأردن ) – السبت 19/12/2020 م …

لا أتحدث هنا عن ملكة سابقة ، ولاعن  ممثلة إغراء مثيرة ، أو مطربة ترقص على مخارج أحرف كلماتها  “شوارب ”  أعتى الرجال ، ويستنفرون كل جيناتهم الذكورية  على  وقع حركات  جسدها الغض ،  ولا حتى عن قديسة ، بل أتحدث عن كلبة سلوقية مؤصلة ، ماهرة سريعة مخلصة لصاحبها  ، وهي بالمعنى المتعارف عليه سياسيا هذه الأيام”مستشارة” ، وكما هو معروف فإن المستشار مؤتمن ، وهذا سر النجاح والحكم الرشيد ، الذي بات العالم يتحدث عنه كثيرا هذه الأيام ، علما أنه مفقود عندنا في العالم العربي ، ولو كان موجودا وعملنا به ، لما أذهبنا ريحنا بأيديا ، وأعدنا أنفسنا إلى حكم ملوك الطوائف ومصيرهم المحتوم.




كان أبي رحمه الله  صيادا ماهرا ، ويقولون عنه أنه كان  يصطاد الطائر وهو يرفرف عاليا في السماء بمهارة عالية ، فتكون إصابته بدقة متناهية ، وكأن بندقيته  أوتوماتيكية تعمل إليكترونيا ، كما هو سائد في أسلحة هذه الأيام الحديثة ، التي تعفي حاملها من التركيز على الهدف والتدقيق فيه لتقدير المسافة  ، وضمان الإصابة.

ذات يوم قرر أبي يرحمه الله شراء كلبة سلوقية لزوم الكشخة ، فهو كما أسلفت من أمهر صيادي منطقة جبل النار “نابلس” ، التي كانت تشتهر  بكثرة وجود الطيور فيها  وخاصة “طائر الشنّار”  النادر صعب المنال ، وكنت أسمع  الصيادين  وهم  في ضيافته ليلا ، يتحدثون  بلهفة عن  جبل ما يتواجد فيه طير الشنار ، ويتفقون على الذهاب إليه  لإصطياد هذا الطائر ، ذو اللحم الشهي .

كنت  صغيرا آنذاك ولم أتجاوز السبع سنوات  من عمري ، لكنني كنت ألحظ علاقة ليست خفية بين والدي وبين “ستيلّا” ، كان يقدم عليها  باش الوجه ، وبخطوات  راقصة ، ثم يجلس بجانبها ويبدأ بمداعبتها وملاعبتها والتصفير لها ، وتمرير يديه على جسدها بحنان واضح ، فترد عليه حسن المعاملة بما هو أحسن  منها ، فبعد أن تتراقص هي الأخرى وتحرك ذنبها تعبيرا عن الفرح والسرور “وما يسمى هذه الأيام “القبول والإيجاب” ، وتخرج صوتا حانيا ، تقعى على مؤخرتها وتصدر صوتا  رخيما ، وبعد ذلك يطلب مني والدي رحمه الله إحضار  الطعام لها. 

لم تكن وجبة “ستيلّا” وجبة عادية ، بل كانت مميزة  وخمس نجوم  ، فهي ليست  كالكلاب الضالة التي تجوب الشوارع  ليلا نهارا تبحث عن عظمة  تتلهى بها  ، وتسد بها رمقها  وتثير الذعر بين المواطنين ، وربما  تحمل مرض السعار الذي ينتقل لمن تعضه ، ويتطلب الأمر علاجا طويلا.

كانت وجبة  “ستيلّا” تتكون من العظم المطبوخ جيدا  ، ومن  الخبز المنقوع بشوربة العظم المنكهة “الثريد” ، وكم كانت  فرحتها وهي تلتهم  هذه الوجبة اليومية ، ثم تصدر  أصواتا  تنم عن الشبع ، وبعد ذلك تستدير إلى وعاء الماء القراح فتشرب منه ، وتغفو قليلا.

تميزت “ستيلا” بالذكاء والمهارة في مراقبة  الطير المصاب ، إذ كانت  وفي حال أيقنت أن الرصاصة إستقرت في جسد الطائر أو  الأرنب ، تقفز  وبسرهة هائلة  وتواكبه حتى يتعب ومن ثم تنقض عليه ، وتحمله بين أسنانها ، وتضعه أمام والدي ، فرحة  متعففة  مع أن بإمكانها التهامه  بعيدا عن عيون أبي ، خاصة وأنها في بعض الأحيان تقطع مسافات طويلة قبل أن تنال مرادها ، وتقع الفريسة على الأرض إن كانت طائرا ، أو يسلم الحيوان أمره ، فيستسلم لها إن كان أرنبا بريا على سبيل المثال أو غزالا، لكنها لم تفعل ذلك ، كونها   سلوقية مؤصلة جبلت على الإخلاص وعفة النفس  ، بمعنى أنها لم تكن  تعرف الفساد بل كانت  أمينة مخلصة وفية  لصاحبها وهو أبي رحمه الله  بطبيعة الحال..

لكل فارس هفوة ، ولكل جواد كبوة ، فالحياة لا تسير على خط مستقيم ، بل هناك تعرجات لا بد وأن تحدث ، والعبرة في النتيجة ، وهناك من لا يتحمل الفشل ، فيحاسب نفسه أشد الحساب ، إنطلاقا من  فهمه لدوره ، وان ما يقوم به هو تكليف يرقى إلى مرتبة الأمانة ، والمستشار مؤتمن ، وإن كان  أصيلا ، فإنه لا يقبل بالفشل ، وإن كان غير ذلك فإنه لا يأبه حتى  لو ألحق الضرر بالعباد والبلاد  ، كما هو حاصل هذه الأيام في بلداننا العربية ، لأن المستشار عندنا ليس مؤتمنا.

ذات يوم  إصطاد والدي أرنبا بريا ، وكعادة “ستيلّا “، إنطلقت فور إدراكها أن  الرصاصة إستقرت في جسد الأرنب ، ولم يدر بخلدها ، كم من الخبث  كان ذلك الأرنب يمتلك  ، إذ كان وعلى ما يبدو قريبا من جحره ، وعلى الفور دخل فيه جريحا والدم ينزف منه ، علما أن “ستيلا” كانت على وشك الظفر به.

كنت أرافق والدي في تلك الرحلة  ،  ولم لا وقد كان يرغب بتعليمي حمل السلاح والصيد ، وكانت أول مرة  سمح لي بإطلاق النار فيها من بندقيته ومن على ظهر الفرس مذ كان عمري أربع سنوات ، في  إحتفال لعرس أحد أبناء الحمولة  .

تأخرت “ستيلّا ” بالعودة ، وطالت غيبتها ، ما أثار القلق لدى والدي الذي بدأ ينادي عليها بأعلى صوته ، ويصدر صفيرا عاليا ، بلا جدوى  فلا حياة لمن تنادي ، ولكننا في نهاية المطاف وجدناها بحالة مزرية ، وقد فهم أبي أن الأرنب دخل جريحا في جحره ، ولم تستطع “ستيلّا” اللحاق به لضيق المدخل .

بذل والدي رحمه الله  جهدا كبيرا  كي يخفف عنها ، فقد كانت  في حالة يرثى لها ، وتنهمر الدموع من عينيها ، وتقف مسمرة  فوق ثغرة الجحر ، وفي البداية رفضت الإنصياع لأوامر والدي بالتحرك ، وهي التي كانت تستقبله  راقصة هاشة باشة من بعيد ، وتتعربش عليه  وتصدر له صوتا ولا أروع.

نجح الوالد في إقناعها بالعودة ، ولكنها لم تسامح نفسها على هذا الفشل ، إذ ظنت انها قصرت ولم تحمل الأمانة كما يجب ، لذلك رفضت تناول وجبتها الشهية ، وإمتنعت عن شرب الماء ، ولم تتجاوب مع أبي في أي حركة ، وبعد ثلاثة أيام  ماتت ، فحزنت كثيرا وكذلك أبي وبقية أفراد الأسرة ، وما كان مني إلا أن حملتها  إلى الخلاء  وحفرت لها  حفرة ودفنتها فيها .

تندرت علي بنات الحمولة وقلن أنني كنت أحبها ، وإلا ما معنى أن أقوم بحفر حفرة لها  ولفها بقطعة قماش ودفنها ؟ وعلى العموم لم آخذ ما قالته بنات الحمولة على محمل الجد ، وبقيت “ستيلّا ” في ذاكرتي كلبة سلوقية  فقط ، لكنني وعندما كبرت وخضت في عالم السياسة ، بدأت أقرأ قصة “ستيلّأ” على أنها أبعد من كلبة سلوقية ، فشلت في إحضار الفريسة للصياد ، فظنت انه سيحرمها من الطعام عقابا لها ، بل نظرت إليها على أنها تتعلق بالحكم الرشيد وحمل الأمانة .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.