دراسة سياسية اقتصادية هامة جدا … المغرب العربي، لقطات، من ليبيا إلى موريتانيا – 2020 / الطاهر المعزّ

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 24/12/2020 م …  

نُشرت الفقرات الموالية، كنصوص مستقلة، في فترات مختلفة من سنة 2020، كصورة، غير مكتملة، عن الوضع في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وقد يُساعد نشرها مجتمعة على توضيح الصورة في هذه المنطقة، التي كانت خاضعة للإمبريالية الأوروبية (فرنسا بشكل خاص)، باستثناء ليبيا، قبل أن تهتم الإمبريالية الأمريكية وأُسْطُولها العسكري السّادس، بهذا الإقليم القريب من أوروبا، والذي يُعتَبَرُ بوابةً تُطل على إفريقيا وعلى أوروبا




من خصائص اقتصاد المغرب العربي: 

يعاني اقتصاد البلدان المغاربية، ولا سيما في المغرب وتونس، من آثار التباطؤ في اقتصاديات الشركاء التجاريين، مثل الصين وأوروبا، بالإضافة إلى انخفاض أسعار صادرات هذه البلدان من المواد الخام (نفط الجزائر ومعادن موريتانيا، وفوسفات تونس والمغرب) أو المنتجات الزراعية، المُصَدَّرَة من تونس والمغرب، وأعلن صندوق النقد الدولي تباطُؤَ اقتصاديات البلدان المغاربية “بشكل خطير”، وفقًا لتقرير الصندوق (تشرين الأول/أكتوبر 2019)، ويشير صندوق النقد الدولي في نفس التقرير إلى نمو هزيل بنسبة 2,7% في المغرب و 2,6% في الجزائر و 1,5% في تونس، وتأثّر اقتصاد الجزائر بانهيار أسعار النفط، وبالحراك الإجتماعي ضد البطالة والفساد، أما وضع ليبيا فإنه كارثي، ويُشكل التفاوت الطبقي المُجْحف قاسمًا مشتركًا في الدول العربية، بما فيها بلدان المغرب العربي. 

جأت حُكومات الإخوان المسلمين في المغرب وتونس، منذ 2012، للإقتراض من صندوق النقد الدّولي، وتنفيذ الشُّروط التي أَضَرّت كثيرًا بالمواطنين من الفئات المتوسطة، والأُجراء، وأضَرّتْ خاصة بالفُقراء، وسكان الأحياء الشعبية والأرياف، فارتفعت معدلات الفقر والبطالة، بسبب “الإصلاحات الهيكلية” وانخفاض الإنفاق الحكومي، وخصخصة المُؤسسات والخدمات العامة، وانخفاض قيمة العملات المحلية، بالإضافة إلى الفساد وهدر المال العام، وهي إجراءات تزيد عدد العاطلين عن العمل، ومن الفقراء، ويشترط صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي توجيه جُزْءٍ من الدُّيُون لما يُسميانه “تحسين مناخ الأعمال”، أي تقدم الدعم القانوني والمالي للقطاع الخاص، ليزدهر على حساب القطاع العام، الذي يجب أن يزول، بحسب مُؤَسَّسَتَيْ “بريتن وودز”، ما يعني توجيه المال العام والقُروض التي يتكبد الشعب عبء تسديدها، لدعم الشركات والأثرياء الذين لا يدفعون الضرائب على الأرباح، ولا يُساهمون في  ميزانية الدولة… 

*****

ليبيا، نموذج تدهور الوضع العربي 

مليشيا لكلِّ طرف أجنبي، وإمارة لكل مليشيا  

أصبحت ليبيا، منذ تدخّل حلف شمال الأطلسي، ومصر وصهاينة العرب بالخليج، وغيرهم، مَرْتَعًا للجيوش والقوى الأجنبية، ومليشياتهم المُسلّحة، التي نهبت ثكنات الجيش الليبي، بإشراف الجُيُوش ومكاتب المُخابرات الأمريكية والأوروبية، وأذنابها، وتم تقسيم البلاد إلى ثلاث “إمارات”، تحكمها مليشيا مسلّحة، جميعها رجعية، تابعة لقُوى أجنبية، ومُتناحرة فيما بينها، لتحقيق أهداف شركات ودُول أجنبية، ولعب الإخوان المسلمون في تونس دور المُخْبر الصغير لتركيا وللولايات المتحدة ولقوات حلف شمال الأطلسي، وتم تحويل جزيرة “جربة” الجميلة إلى قاعدة تدريب وتجسس، وميناء  ومدينة “جرجيس” إلى محطة في طريق تخريب ليبيا، وأقام الجيش والمخابرات الأمريكية قاعدة للطائرات الآلية في صحراء تونس، قريبًا من الحدود الجزائرية والليبية.

تَمَيَّزت المرحلة الثانية للتدخل الإمبريالي في ليبيا واليمن بتكفّل الأنظمة العربية العميلة بتنفيذ مخططات التدمير والتّخريب والتّقسيم، في حين تعددت محاولات تركيا الأطلسية لتَحْيِين وتَحْدِيث التراث العنصري التّركي، في ليبيا وفي سوريا، وفي مناطق أخرى (آسيا الوسطى، وأوروبا الوسطى وشرقي المتوسط…)، بدعم من الإخوان المسلمين ومن غاز وإعلام “قَطَر” الذي يُمَدّدُ حُدُود تركيا إلى الغرب، مرورًا بليبيا…

نكتفي بتقديم خَبَرَيْن قصيرَيْن يُلخِّصان الوضع في ليبيا   

أوردت وكالات الأخبار، يومَيْ 10 و 11 أيلول/سبتمبر 2020، بعض الأنباء التي تُقَدّم صورة، غير شاملة، عن الوضع:   

الخبر الأول عن وكالة “رويترز” 10 أيلول/سبتمبر 2020 

أوْرَدَتْ وسائل إعلام محلية، نقلاً عن “المؤسسة الوطنية للنفط” (10 أيلول 2020) خَبَر وفاة شخص مُسَلّح، وإصابة آخر بجروح، إثر تبادل إطلاق نار، تُوِّجَ باحتلال حقل “الشّرارة” النفطي، من قبل مليشيا مسلحة، يوم الأحد 06 أيلول/سبتمبر 2020.  

بالتوازي مع محاولة المليشيات احتلال المزيد من المواقع الإستراتيجية، يُجري ممثلو مختلف المليشيات محادثات في المغرب، وأكّدت تصريحات بعض المُشاركين، والبيان الختامي لِلِّقاء، التوصل إلى اتفاق بشأن تقاسم المناصب، على أن تُستأنَفَ المُساومات، خلال الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر 2020، “لِبَحْثِ تفاصيل التَّوصُّل إلى تسوية سياسية شاملة في ليبيا”، ولكن هذا اللقاء وهذا الإتفاق ليس الأول من نوعه، حيث أعلنت نفس الأطراف (العميلة كُلُّها) سنة 2015، عن اتفاق سلام مُماثل، في مدينة “الصخيرات” (المغرب)، لكنه لم يُطَبّقْ.  

في نفس الفترة ( 10 و 11 أيلول 2020)، أشرفت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، على لقاء استشاري، سياسي، بمدينة “مونترو” السويسرية، بين نفس الأطراف المُجتمعة في المغرب، التي أعلنت “اتفاق المُشاركين على إجراء انتخابات خلال 18 شهراً والبدء بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي الليبي وتشكيل حكومة وحدة وطنية…”، لكن هل يتحكّم المُشاركون في هذه اللقاءات في أجَنْدَة الأطراف الخارجية (أعضاء حلف شمال الأطلسي بدرجة أولى، وعملاؤهم العرب)، إذ سبق أن أعلنت نفس الأطراف المتحاربة (من أجل مصلحة أطراف خارجية) يوم 22 آب/أغسطس 2020، “وقف إطلاق النار بشكل فوري وكامل وتنظيم انتخابات، في كافة أنحاء البلاد، سنة 2021 “، وتوقفت المعارك الطاحنة، بين الإخوان المسلمين (طرابلس وغرب البلاد)، التي تدعمها تركيا وقَطَر، وقوات شرق ليبيا التي تدعمها مصر والسعودية والإمارات، ودارت تلك المعارك من أجل السيطرة على مدينة “سرت” ومحيطها، للتحكم في حقول النفط وموانئ التصدير في شرق ليبيا

تراقب السفن الحربية، الأوروبية والأطلسية، الوضع في البحر الأبيض المتوسط، وتتدخل من حين لآخر، لفَرْض توازن يُفيد مصالح شركات المحروقات وغيرها

الخبر الثاني عن وكالة “رويترز” 11 أيلول/سبتمبر 2020 

بينما كانت الوفود مُجتمعة في الفنادق الفخمة، والقاعات المُكَيَّفَة في المغرب وسويسرا، كان العديد من سُكّان بنغازي (تحت سيطرة مليشيات مسلحة مدعومة من مصر والخليج، باستثناء “قَطَر”) يحتجّون، يوم الخميس، العاشر من أيلول/سبتمبر 2020، على الإنقطاع المُسْتَمِرّ للتيار الكهربائي (خاصة منذ بداية العام 2020)، وعلى الظروف السّيّئة للمعيشة، وقام المتظاهرون بإشعال إطارات السيارات، وبإغلاق الطّرقات، وكانت مدينة طرابلس قد شهدت احتجاجات مُماثلة، خلال شهر آب/أغسطس، بسبب انخفاض إمدادات الكهرباء، في ذروة موسم الصيف الحار جدًّا، وبسبب تدهور مستوى المعيشة وسط غياب الرعاية الصحية، وارتفاع عدد حالات الإصابة بوباء “كوفيد 19“. 

لم تتفق الدّول الأجنبية بَعْدُ، منذ آذار/مارس 2011، على تقاسم ثروات ليبيا، وعلى السيطرة على البلاد الشاسعة (حوالي 1,8 مليون كلم2 ) موانئها، وعلى حدودها المُتاخمة للبحر الأبيض المتوسط، وتونس والجزائر والنيجر وتشاد والسودان ومصر. أما الجامعة العربية (العِبْرِيّة؟) فأصبحت أداةً بيد آل سعود، لدعوة القوى الإمبريالية والكيان الصهيوني لتغيير الأنظمة العربية، واحتلال بلاد العرب، وتلعب معظم الأنظمة العربية دَوْرَ الواشي والعميل لتقسيم ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وغيرها، فيما يدعم الإخوان المسلمون (في الحكم وخارجه) الإحتلال التّركي لبلادنا، في العراق وسوريا وليبيا، ويُقدّمون مصالح تركيا على مصالح الشعب المغربي، والتونسي، وغيرهما، ما يجعل من التّيّارات الرجعية العربية، (الأنظمة وتيّار الإخوان المسلمين)، عَدُوًّا، لا يقل خَطَرًا عن الإمبريالية والصّهيونية 

***** 

تونس، عام الكورونا، أي جديد؟  

تهميش مَنْهَجِي للفئات المُنْتَفِضَة:  

تَكَفّل الزمن ووسائل الإعلام بإضفاء صورة ضبابية على ما حَدَثَ بتونس، بين السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010، في سيدي بوزيد، إحدى المناطق المحرومة بالبلاد، والرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، يوم خُروج الجنرال زين العابدين بن علي وأسْرَتِهِ حيّا يُرزق، ومُعافى، في طائرة خاصّة، نحو مدينة جدّة السعودية، على البحر الأحمر، وبفضل التدخل الأمريكي السريع والحازم، بواسطة “جيفري فلتمان” (اختصاصي في تخريب البلدان العربية) أصبح الدّساترة ( محمد الغنوشي وفؤاد المبزع وابن خالته الباجي قائد السبسي، وغيرهم)، يتحدّثُون باسم “الثّورة” ويحتلون المناصب القيادية في مؤسّسات الدّولة، قبل أن يتقاسموها مع الإخوان المسلمين، الذين حازوا على أغلبية الأصوات في الإنتخابات التي مَوّلها وأشرف عليها الإتحاد الأوروبي، بإذْنٍ أمريكي، يوم 23 تشرين الأول/اكتوبر 2011، والإنتخابات التي تلتْها، وانخرطت كافة (أو مُعْظَم) القوى التقدمية والقومية واليسارية في لعبة الإنتخابات، واعتَبَرتْها مقياسًا (أو المقياس الوحيد) للديمقراطية، وحَوّلت قيادةُ اتحاد نقابات الأُجَراء، منظمةَ العُمّال، من قوة احتجاج ومطالبة بتحسين الرواتب والتقاعد وظروف العمل، إلى وَسيط وشريك لمنظمة أرباب العمل، و”قُوة خَير” (كما كان يُكرّر “حُسين بن قَدُّور”) تتوسّط بين مختلف الفئات الرجعية (المُعادِيَة لمصالح العاملين والكادحين والفُقراء)، بإشراف أوروبي وأمريكي…  

لذلك بقي الفُقراء والمصابون وأُسَر ضحايا رصاص الجيش والشّرطة، أثناء الإنتفاضة، على الهامش، أو في الطُّرّة، خارج إطار “اللُّعْبَة الديمقراطية”، وبعد قرابة عشر سنوات، لم تُنشر بعد القائمة النهائية لجرحى وشهداء الإنتفاضة الشّعْبِيّة التي سَرَقَها الدّساترة والإخوان المسلمون، وخذلتها جُلُّ القوى التقدمية، واللّجان التي تأسست لتمْيِيع قضية ضحايا القمع، وتمّت إطالة عمر هذه المؤسسات، بدعم مالي وسياسي وإعلامي، امبريالي أوروبي وأمريكي…  

قَدّمت أُسَرُ الضّحايا والمُصابين أكثر من ألف قضية استئناف أمام المحكمة الإدارية، بعد نَشْر اللجنة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية قائمة غير نهائية لهؤلاء الشهداء والجَرْحى، في تشرين الأول/اكتوبر 2019، بعد تسع سنوات من انطلاقة الإنتفاضة، وضَمّت آخر قائمة شبه رسمية، نَشَرَتْها تلك اللجنة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، التي يرأسُها أحد الأعْيان، (تشرين الأول/اكتوبر 2019) 368 شهيدًا و 2800 مُصابًا، أطلقت عليهم قوات الجيش والشرطة (القُوات النّظامية) النار، بسبب التظاهر والإحتجاج، خلال الإنتفاضة، وقُدِّرَ العدد الحقيقي للمُصابين والشُّهَداء بنحو 7713، بحسب إحصاءات أُخرى، ولم تحصل هذه الأُسَر على اعتراف رسمي، ولا على العلاج المجاني، ولا على تعويض مالي أو مَعْنَوي (رمزي)، بينما حصل الإخوان المسلمون على مقدار غير معروف (قُدِّر بمئات الملايين من الدينارات) و نحو 75 ألف وظيفة في القطاع الحُكُومي والعام، دون احترام قواعد التّوظيف (مستوى التعليم والمُؤَهّلات، واجتياز المناظرات وغير ذلك من الشّروط)، بمباركة صندوق النّقد الدّولي الذي فَرَضَ تسريح خمسين ألف موظف حُكومي، خلال خمس سنوات، وضاعت حقوق أهالي الشهداء والمصابين، وبقوا مُشتّتين بين اللجنة العُليا لحقوق الإنسان، وهيئة الحقيقة والكرامة (العدالة الإنتقالية) ومختلف اللجان (الإستشارية) الرسمية وشبه الرّسمية، التي أُطِيل في عمرها، رغم عدم جدواها، أو هي تأسّست أَصْلاً لتغييب الحُقُوق، ولارتقاء بودرالة أو بن سدرين وغرهما من الأثرياء والأعيان، بضعة درجات في السلم الطّبَقِي والإجتماعي والسّياسي، وفي غضون ذلك، تُوفِّي العديد من مُصابي الإنتفاضة، بسبب التّقْصِير والإهمال الطّبِّي  

المُسْتفيدُون من تضحيات الفُقراء:  

سياسيًّا، سُرعان ما نَسِيَت أو تَناسَت القوى التقدمية وائتلاف “الجبهة الشعبية”، واليسار القومي والشيوعي، عمليات الإغتيال السياسي، التي راح ضحيّتها رمْزان من رُموز الجبهة واليسار، الشَّهيدان شكري بلعيد (26/11/1964 – 06/02/2013) و محمد البراهمي (15/05/1955 – 25/07/2013 )، واغتيل كلاهما بالرّصاص، أمام منزله، في وضع النهار، في ظل حُكومات الإخوان المسلمين المُتحالفين مع الدّساترة، وهي الحكومات التي أَمَرَتْ بإطلاق الرّصاص على المُحتجّين من المصابين وأُسر الشهداء، وقتل بعضهم، وإصابة نُواب ومناضلين وحُقُوقيين، في ذكرى عيد الشّهداء، يوم التاسع من نيسان/ابريل 2012، عندما كان “علي لَعْرَيِّض”، أحد مؤَسِّسِي وقادة حزب الإخوان المسلمين (النهضة)، رئيسًا للحكومة وَوَزِيرًا للدّاخلية، كما أطلقت شرطة حكومة الإخوان المسلمين الرصاص الإنشطاري وقتلت وأصابت عددًا من المتظاهرين (حوالي 250 مُصاب) في مدينة “سِلْيانَة”، يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2012، قبل حوالي أسبوعَيْن من مهاجمة الإخوان المسلمين (مباشرة أو عبر تحريض بعض الهامشيين البُسَطاء والمُغَفَّلِين، الذين انضَمُّوا إلى مليشيات الإخوان المسلمين المُسمّاة “رابطة حماية الثورة”، مقابل وُعُود بالتّوظيف) محلات نقابة الأُجَراء، الإتحاد العام التونسي للشغل، وتخريبها، وإلقاء النّفايات داخلها وأمامها… 

بالتوازي مع إهمال قضية ضحايا الإنتفاضة، عقد الإخوان المسلمون والدّساترة عدة صفقات، استفاد منها الفاسدون واللصوص من رُموز السّلطة ومن رجال الأعمال والأثرياء الفاسدين، الذين نهبوا أكثر من 15 مليار دولارا، بحسب تصريحات بعض وُزراء الإخوان المسلمين، تحت عنوان “المُصالحة الإقتصادية”، وطُرِحَ مشروع القانون في تموز/يوليو 2015، وتمت المصادقة عليه في البرلمان في تموز/يوليو 2017، أُسْوةً بما حصل في مصر، خلال حُكم الإخوان المسلمين، من “مُصالحة” بين الرأسمالية التقليدية، من جهة، والوُصُولِيِّين المُلتحقين بها من الإخوان المسلمين، من جهة أخرى، أي توسيع رُقعة الفساد، وإعادة تقاسم حصيلة نهب المال العام، وممتلكات وثروات الشعب، بين مختلف مجموعات اللصوص، قديمها وحديثها. 

الوضع الإقتصادي بين الحاج موسى الدّستوري، وموسى الحاج الإخوانجي

أدّى حُكم الإخوان المسلمين إلى ارتفاع حجم الدُّيُون الخارجية للبلاد، بنسبة 246% وتُمثل “خَدمات الدّيْن” نحو 20% من ميزانية الدّولة، خلال سبع سنوات من حُكم الإخوان المسلمين، ليفوق نصيب كل فرد (رضيع أو شيخ على حافة القَبْر) من الدّيون أكثر من ثمانية آلاف دينار، بنهاية 2019، وإلى انخفاض قيمة الصادرات، وبالتّالي ارتفاع العجز التجاري إلى أكثر من أربعة مليارات دولارا، خلال شهر آب/أغسطس 2020، وأصبحت الدّولة عاجزة عن تسديد رواتب مُوظّفيها، في حين يغرف الإخوان المسلمون من خزينة الدّولة، عملاً بإيمانهم بأن السّلطة غنيمة، وجب تقاسُمُها فيما بين الإخوان “وما مَلَكت أيديهم”، أما أبناء الشعب من الفُقراء، ومن أبناء الأُجراء والفلاحين والكادحين، فيعانون من البطالة التي ارتفعت نسبتها إلى 18%، بنهاية حُزيران/يونيو 2020، بحسب البيانات الرسمية، وهي دون الواقع بكثير، وتَراجع نُمُو الإقتصاد بنسبة 12%، خلال نفس الفترة، بحسب بيانات نَشَرَها المعهد الوطني للإحصاء (مؤسّسة رسمية)، منتصف شهر آب/أغسطس 2020، ويتوقع أن يتراجع نمو الإقتصاد ليُصبح سالبا بنسبة – 22% متوقّعة بنهاية العام 2020، ووجب على الدّولة تسديد 4,2 مليار دولارا من الدّيون، سنة 2020، ونظرًا لإفلاس الدّولة، يلجأُ الإخوان المسلمون (كما كافة الحُكومات العميلة والفاسدة) إلى الإقتراض من الخارج، من صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي والإتحاد الأوروبي واليابان ، لسد عجز الميزانية، ولا تُمثل هذه المؤسسات والدّول منظمات خيرية، بل مؤسسات رأسمالية تبحث عن استثمارات مُرْبِحَة…  

يُتَوَقّع أن تسوء حال أغلبية المواطنين، خلال سنة 2021، بحسب صحيفة “الصباح” (10 أيلول/سبتمبر 2020)، التي نشرت بعض ملامح ميزانية الدّولة لسنة 2021، التي نَقَلت مُصطلحات وتعابير صندوق النقد الدّولي، بحذافيرها (وكأنها القُرآن) ومن ضمنها “تحسين مناخ الأعمال والإستثمار”، و “مُعالجة اختلال التّوازنات المالية”، و “التّحَكُّم في النّفقات العُمومية، وترشيدها”، وغيرها من المُصْطَلَحات التي يمكن ترجمتها في الحياة اليومية للمواطنين، إلى خفض وإلغاء دعم المواد الأساسية، وبَيْع ما تَبَقَّى من القطاع العام، وخفض عدد المُوظّفين (باستثناء الشرطة ووظائف القمع ) وخَفْض الرواتب ومعاشات التّقاعد (عبر عدم زيادة مبالغها، رغم ارتفاع الأسعار)، وإلغاء أو تأجيل التّرقيات القانونية في سُلّم الوظيفة العُمومية، وإلغاء برامج ودورات التّأهيل، مع زيادة إيرادات الضريبة على الرواتب (وليس على قطاع الأعمال “الحُرّة”) وعلى استهلاك السّلع والخَدَمات (ضريبة القيمة المُضافة)، مع خَفْض قيمة الدّينار 

خاتمة، من أجل بديل يُحقّق طموحات جيل الإنتفاضة

مثّل تأسيس “الجبهة الشعبية” أملاً للعديد من القوى التّقدّمية ومن المواطنين، لكن عواملَ عديدة أدّت إلى فشلها، نظرًا للحُدُود التي حَكَمت عملية تأسيسها، فهي جبهة انتخابية، ولم تكن أبدًا أداة نضال، وسارع زُعماؤها إلى التّصرف كدكتاتوريين، من خلال تجاهل مؤسساتها وفُرُوعها، خارج العاصمة، وتجاهل وزن المناضلين التّقدّميّين، “المُستقلّين”، أي غير المُنْتَمِين رسميًّا للأحزاب والمنظمات، وكانوا أغلبيةً مُطْلَقَة، قبل إقصائهم، كما جَعَل القادة المُتَنَفِّذون من هذه الجبهة، منظمة “غير حكومية” إضافية، تُتْقِن خطاب اليسار، ولكنها تُعَوِّلُ على دَعم القوى الإمبريالية، الأمريكية والأوروبية، للإرتزاق وللإعتراف بها كبديل سياسي للإخوان المسلمين، بالتحالف مع جناح من النّظام السابق، والتي يُمثّلها “الباجي قائد السبسي”، المَدْعُوم من الإمارات (كمنافس، رجعي أيضًا، لمشيخة “قَطَر” التي تدعم الإخوان المسلمين)، وما الإمارات سوى قاعدة عسكرية أجنبية، ومشيخة تابعة للإمبريالية الأمريكية، وحصل تحالف “الجبهة” مع “نداء تونس”، مباشرة بعد الإغتيال الذي أودى بحياة ثاني قائد للجبهة، “محمد البراهمي (25 تموز/يلوليو 2013)، بعد ستة أشهر من اغتيال “شُكري بلعيد” ( 06 شباط/فبراير 2013)، ما حَوّل التّضامن والتّعاطف الشعبي مع الأُطْرُوحات التّقَدّمية للجبهة، إلى دعم انتخابي ظَرْفِي، انتهى عندما ارتطمت “الجبهة الشعبية” ونوابها بحدود دَور العمل البرلماني، خاصة إذا اقتصر “النضال” المَزْعُوم على التهريج في قاعة مجلس النّواب، أمام كاميرات التّصْوير التلفزيوني، والتّدافع للحديث في وسائل الإعلام الرّدِيء، بدل استغلال الشّهرة لقيادة النّضال الجماهيري، من أجل انتصار الكادحين والمُنتجين على أعدائهم الطّبَقِيِّين، باستخدام كافة الوسائل، وما الإنتخابات الدّورية سوى واحدة من هذه الوسائل (الثانوية) إلى جانب التوعية والتّحريض والإحتجاج والتظاهر، ومُساعدة الكادحين والمُعَطّلين من أجل إدارة شؤونهم، وتحقيق مطالبهم، بأي شكل مُناسب لقُدراتهم على التعبئة والصّمود، من أجل بناء مجتمع بديل، يُلَبِّي حاجة الجميع… أما التّعويل على الإنتخابات فقد جَرّبت الجماهير حُدُوده، لأن من لا يملك المال، ووسائل الإعلام وقاعات الإجتماعات، لا يتمكّن من إبلاغ رأيه وأُطْرُوحاته ومن إيصال برامجه البديلة لجماهير الشعب، هذا إذا افترضْنا جَدَلاً جِدِّيّة المُترشحين والتزامهم بقضايا الكادحين والفُقراء، وامتلاكهم البرنامج والرّؤية الواضحة لإنجاز برنامج تقدّمي، ذي أُفُقٍ اشتراكي، يخدم مصالح الأغلبية…  

مرت قبل يَومَيْن الذكرى التاسعة والأربعون لانقلاب تشيلي (11 أيلول/سبتمبر 1973 – 2020)، ضد الرئيس “سلفادور اليندي”، المُنتخب ديمقراطيا، والذي حاول تغيير الوضع الإقتصادي والسياسي عبر الإنتخابات والحصول على الأغلبية النيابة، لكن الشركات متعددة الجنسية أطاحت به، ونصّبت طُغْمة عسكرية، بقيادة “أوغوستو بينوشيه”، من 1973 إلى 1990.  

في إيطاليا قاد الحزب الشيوعي الإيطالي المُقاومة ضد الفاشية، ثم الإحتلال النازي (من 1923 إلى 1945)، رغم السجن والإغتيالات، وكان أقوى حزب، خلال عقد سبعينات القرن العشرين، ولكن الولايات المتحدة، التي تمتلك قواعد جَوِّيّة وبَحْرِيّة ضخمة (باسمها أو باسم حلف شمال الأطلسي) اعترضت على مُشاركة أي حزب شيوعي (ولو كان يمينِيًّا، بمقاييس الإشتراكية) في سلطة أي بلد من أوروبا الغربية، وفي هذَيْن المثالَيْن عبرة لمن لا يزال يتوهّم بإمكانية تغيير طبيعة المجتمع، بواسطة صناديق الإقتراع، فالإنتخابات قد تُصْبِحُ، في بعض الأحيان، منصّة للدفاع عن الأفكار والبرامج الثورية، والتّعريف بها لدى أوسع فئات الشّعب (إن كان ذلك مُمْكِنًا)، لكن وجب إدْراك حُدُودها…  

***** 

تونس، على هامش وفاة “أحمد بن صالح”   

مُقتطف من دراسة عن “المسألة الزراعية” 

ضرورة إعادة الإعتبار للعمل الجماعي وللتعاضديات  

نموذج تونس 

بعد وفاة الوزير التونسي السّابق “أحمد بن صالح (13 كانون الأول/ديسمبر 1926 – 16 أيلول/سبتمبر 2020 )، نَشَرت بعض وسائل الإعلام التونسية والعربية نبذة عن حياته السياسية، وخصوصًا لما حوّله “الحبيب بورقيبة” من “فارس مقدام”، إلى مسؤول عن فشل سياسة الحكومة، طيلة عقد كامل، وكان “أحمد بن صالح” مناضلا سياسيا ونقابيا، قبل أن يصبح وزيرًا ذا نفوذ كبير، من 1961 إلى 1969، في ظل حُكم الحبيب بورقيبة ( 03 آب/أغسطس 1903 – 06 نيسان/ابريل 2000 )، ونورد فقرة عن دَوْرِه في تصميم وإدارة تجربة اقتصادية، باسم “الإشتراكية الدّستورية”، كان من نتائجها تنفير المواطنين من فكرة الإشتراكية، ومن أي ذكر لعبارة “التعاضد” أو تجميع المُزارعين ضمن هياكل عمل جماعي. 

كان أحمد بن صالح من شباب حزب “الدّستور”، عندما اختلف جناحان داخله، أحدهما يدعو إلى وفاق مع الإستعمار الفرنسي، وقبول حكم ذاتي، ثم استقلال متفق عليه يُحافظ على مصالح الإستعمار الفرنسي، ويقود الحبيب بورقيبة هذا التيار، ضد التيار الثاني الذي كان يدعو إلى استكمال استقلال المغرب العربي (الجزائر)، ورفض الحكم الذاتي، حتى نَيْل “الإستقلال التّام”، ويقود “صالح بن يوسف” هذا الجناح، ودعم أحمد بن صالح جناح “بورقيبة” الذي استعان بجيش فرنسا للقضاء على خصومه…  

يُمثل أحمد بن صالح جناحًا داخل حزب الدّستور، يمكن وصفه ب”الديمقراطي الإجتماعي”، وكان هذا التيار يحاول بناء دولة عصرية، تنفق على البُنية التحتية وعلى التعليم والصحة والتّصنيع، وما إلى ذلك، لكن دون استشارة أو مُشاركة الشعب أو الطبقة العاملة، والكادحين، الذين أصَرّ “أحمد بن صالح” على وصمهم، سنة 2013 بنقص أو انعدام الوَعْي الطّبَقِي، في تقويمه لانتفاضة 1969، التي أطْلَقَتْها فئة صغار الفلاّحين…  

تولى “أحمد بن صالح”، مُمثل هذا التيار منصب الأمين العامّ للإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأجراء) من 1954 إلى 1956، وكان عضوًا في أعلى هيئة قيادية بالحزب الدّستوري، وقدّم أول برنامج اقتصادي متكامل، قبل أن يصبح وزيرًا للصحة سنة 1957، وتولّى عددًا من الوزارات الأخرى، إلى أن جمع، خلال عقد الستينيات من القرن العشرين خمس وزارات، منها وزارات اقتصادية، إضافة إلى الصحة والتّربية (التعليم)، إلى أن أطاح به مُعلِّمُهُ “بورقيبة”، سنة 1969، واتهمه بالخيانة العظمى، وأصدر قُضاةٌ مأمورون ضده حُكمًا بالسجن عشر سنوات، مُشَدَّدة… 

يذكُر المواطنون الذين عاصروا فترة عنفوان نفوذه السياسي، ما سُمِّيَ في تونس “تجربة التّعاضد”، بعد تغيير إسم الحزب الحاكم والأوْحد، ليُسَمّى “الحزب الإشتراكي الدّستوري”، ولا يوجد اشتراكي واحد في قيادته، وأوْضَح بورقيبة أنها “اشتراكية الوحدة الوطنية التي ترفض الصراع الطبقي”، وتميزت تجربة “التعاضد” بالقرارات الفَوْقِيّة، وتجميع أراضي صغار المزارعين (كانت الفلاحة تمثل حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي)، وصغار التّجّار، ضمن تعاونيات إنتاج وتسويق، بين 1962 و 1969، وأوكلت الدولة للأعيان والأثرياء (وهم من مسؤولي الحزب الحاكم) الإشراف على تعاضديات الفلاحة والتجارة والخَدَمات، وتَضَمّن البرنامج الإقتصادي وتحويل فائض القيمة من الفلاحة إلى قطاعات أخرى، وزيادة الإنفاق لإنشاء العديد من المنتجعات السياحية المُخصّصة للأجانب، وبعض المصانع (تكرير النفط وصناعات الصُّلْب، وتصنيع اللّفت السّكّري، وتصنيع الورق من “الحَلْفاء”، وتصنيع الفوسفات ومُشتقاته…)، واحتكار الدّولة للتّوريد والتّصدير وتجارة الجُملة، فيما لم يقع تطوير القطاع الزراعي، بل عاش الفُقراء مجاعةً، فزادت حدة الفَقْر في أوساط الكادحين والعُمّال والمُزارعين، وأصبحوا يستهلكون الذّرّة والطّحين والقمح الأمريكي الرديء، المُعَدْ لعلَف الحيوانات، أي مواد من فائض الإنتاج الأمريكي، غير صالحة للإستهلاك البشري، لتتحول تونس، بثَمَنٍ رخيص جدًّا، من مَحْمِيّة فرنسية إلى محمية أمريكية، وبدأت هيمنة الإمبريالية الأمريكية بتدخل “الوكالة الأمريكية لتنمية الدولية” ( يو أس آيد)… 

وصف بورقيبة وزيره المُقرّب أحمد بن صالح ب”المُفكّر الفذّ والفارس المِقْدام الذي نذر حياتَه لخدمة الوطن، ولإعانة الغير”، ولكن عندما تقَرّرَ تعميم نظام التعاضُد على الأراضي الزراعية الكُبرى، بعد سبع سنوات من إفقار واستغلال جهود صغار الفلاحين، وبعد ثلاث سنوات من الجفاف، ضحّى بورقيبة بأحمد بن صالح، بعد أن كان يعتبره وزيرًا ورجل سياسة استثنائيا، وحَمَّلَهُ مسؤولية المآسي التي خلّفتها فترة التّعاضد القَسْرِي في الأرياف وكذلك في المُدُن، وتقرّر وضع حدّ لبرنامج التعاضد، لكن صغار الفلاحين فقدوا أراضيهم، فاستولى عليها الأثرياء، وهاجر عشرات الآلاف من صغار الفلاحين إلى أوروبا وليبيا، بحثًا عن عمل. 

أصبح “الهادي نويرة” ( 05/04/1911 – 25/01/1993 ) الرأسمالي الثّرِي والمُعادي للعُمّال والعمل النقابي (منذ شبابه، حيث أشرف على تعنيف المُؤْتَمرين في مؤتمر نقابة “جامعة عموم العملة التونسيين”، الثانية، التي أُعيد تأسيسها سنة 1936 وحظَرَتْها سلطات الإحتلال الفرنسي بالتآمر مع “الدستوريين”، سنة 1938) وزيرًا أول، وفتح باب البلاد أمام الإستثمارات الأجنبية المُعفاة من الضرائب، لإنشاء الفنادق ومصانع النسيج وتركيب بعض التجهيزات…  

إن التّذْكير بهذه التّجربة، من خلال فقرة كاملة، نابع من تأثيرها السَّلْبي ومُخلّفاتها السلبية في الذّاكرة الجمْعِية للشعب التونسي، وشَوّهَتْ تلك التجربةُ الفكرةَ الإشتراكيةَ، وتسببت، في حينها، في اندلاع انتفاضات عديدة، أهمّها انتفاضة المزارعين والحرفيين والتجار الصغار، ومجمل المواطنين، نساءً ورجالاً، في مدينة “الوردانين” (الوَسَط الشرقي للبلاد) التي قَمَعها الجيش بالرصاص الحي، وأُعلن عن قتل شخص واحد، وجرح العشرات، في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني/يناير 1969، واعتقلت قوات الأمن مئات المتظاهرين، لكن حركة الإحتجاجات توسّعت، وانتشرت إلى بقية مدن وقُرى المنطقة، ثم إلى جنوب البلاد ومختلف المناطق الأخرى، بسبب تراجع دَخْل المواطنين، وارتفاع الأسعار وارتفاع نسبة البطالة، وبقي الوضع مُضطربًا، إلى أن تم التراجع عن هذه التجربة، وحَمّلت الدّولة (أي بورقيبة) أحمد بن صالح مسؤولية فشلها… 

استغل حزب الدّستور الحاكم (وإن بقي يُسمِّي نفسه “اشتراكيا” ) والإعلام السّائد، فشل تلك التجربة، لتشويه فكرة الإشتراكية، ونَسَفَها من أساسِها، واستغلّها لِتَبْرِير المحاكمات العديدة لمئات المناضلين الإشتراكيين والقَوْمِيِّين العرب، ولذلك لا يجرؤ أي مناضل اليوم، في تونس، على اقتراح برنامج إصلاح زراعي، يتضمّن إنشاء تَجَمُّعات أو تعاونيات إنتاج وتسويق، أو تعاضديات يتجمع ضمنها صغار الفلاحين أو المُعَطّلين عن العمل، أو الحِرفِيِّين، أو أي فئة من فئات المُجتمع التي سحقها رأس المال المَحلي، أو رأس المال الإحتكاري الأجنبي… 

إن دراسة هذه التجربة، بحسب الوثائق المتوفرة، تُظْهِرُ أنها فُرِضَت على صغار الفلاحين، ولم تبدأ بمصادرة أو تحديد الملكيات الزراعية الكبيرة، ولما بدأ الحديث، بعد سبع سنوات، عن توسيع التجربة إلى الفلاحين الميسورين، الذي لم يشملهم البرنامج في بدايته، عمدوا إلى تخريب البرنامج، بدعم من بعض أجنحة الدّولة والحزب الحاكم والأوْحَد، وبدأ التخريب سِرًّا، منذ البداية، ثم أصبح علنيا، وتواصل التّخريب العَلَنِي حوالي تسعة أشهر، وورد في تقارير أجهزة الأمن (بحسب وثائق “مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات”، بتاريخ 23 آب/أغسطس 2008)، أن برنامج التعاضد كان مُسْقَطًا من فَوْق، وفاقم من مشاكل السّكن وخلقَ اضطرابًا في نظام التّشْغيل والتأمينات الإجتماعية، ولم يقدّم حلولا لمجمل هذه المشاكل، بالإضافة إلى تعيين لجان الإشراف على التعاضديات، من بيْن الأعْيان، من هياكل الحزب الحاكم، الذين لا يُساهمون بأي عمل، ويسرقون المحاصيل وجهود العاملين، دون رقابة أو متابعة أو تفتيش، واستحوذ هؤلاء على أراضي الفُقراء والأرامل والعاجزين عن العمل، بسبب الشيخوخة أو الإعاقة أو المرض، ويُشير تقرير أمني (24 شباط/فبراير 1969) أن الحكومة اعتمدت على إصدار الأوامر الفَوْقِيّة، ولم تبذل أي مجهود لإقناع المواطنين بجَدْوى التّجَمُعات الفلاحية، ما زاد من عمق الفجوة بين الدولة والمواطنين، وخاصة الفئات الكادحة… 

من الضروري دراسة هذه التجربة، واستخلاص الدّروس منها، وتجاوز هذه العُقْدَة، وتقديم برنامج إصلاح زراعي ديمقراطي وثوري، يعتمد التّجَمُّع الطّوْعي، وليس القَسْرِي، ويُشرف عليه ويُديره ويُقَوِّمُهُ المُتعاضدون أنفسهم، بدعم من مُتطوِّعِين من مختلف الإختصاصات، كما من الضّروري دراسة تجارب أخرى في تونس (واحة جمْنَة)، وفي فلسطين، أثناء انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 1987، وهي التجربة التي أطلق عليها “عادل سمارة” مفهوم التّنمية بالحِماية الشّعْبية، ثم طَوَّرَ هذا المفهوم في بُحُوث لاحقة، ودراسة تجارب ونضالات شُعوب أمريكا الجنوبية، فهي مسألة حيوية مُرتبطة بالأمن الغذائي… 

لقد تقهقرت لدى المناضلين النقابيين ولدى مناضلي الأحزاب التقدمية، فكرة الإصلاح الزراعي والزراعات البيولوجية (الحيوية)، ومن الضّرُوري تعميق التفكير والنقاش من أجل بناء أو تعزيز حركة شعبية قاعدية، تستلهم عملها من التجارب والشبكات الدولية المُقاومة، في قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وطلب الدّعم من النقابات المناضلة والتقدمية لصغار المزارعين الأوروبيين، انطلاقا من حاجة صغار المزارعين بتونس أو المغرب أو أي بلد عربي، وليس انطلاقا من برنامج تحدده أي جهة أجنبية… 

اشترط البنك العالمي على حكومات الدول الفقيرة التي طلبت قُرُوضَا، في بداية سبعينات القرن العشرين، إنتاج المحاصيل الزراعية المُوجّهة للتصدير، وتصنيع الملابس والمنسوجات المُعدّة للتصدير أيضًا، وإقرار قوانين وإجراءات جاذبة للإستثمارات الأجنبية، ومن بينها الإعفاءات الجمركية والضريبية والرواتب المنخفضة وإضعاف النقابات العُمّالية، وغير ذلك من الشّروط التي تندرج في إطار التخصّص والتبادل غير المتكافئ بين الدول وبين مختلف مناطق العالم، لتتخصص الدول الواقعة تحت الهيمنة في تزويد الدّول الإستعمارية والمُصَنَّعَة ببعض الإنتاج الزراعي (البُن والشاي والسّكّر والكاكاو والقطن والمطاط…)، والمواد الأولية التي تحتاجها الصناعات في أوروبا وأمريكا الشمالية والدول المُصنّعة (المعادن والمحروقات الخام)، وبذلك أصبح اقتصاد دول “الجنوب” تابعًا ومرتبطًا باحتياجات دول “الشّمال”، ومُرْتَهِنًا بالتالي لتقلبات أسعار المواد الأولية، في أسواق عواصم الدول الإستعمارية، وبالتوازي مع ذلك ارتفعت دُيُون البلدان الفقيرة، وفَرَض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي برامج وخطط “الإصلاح الهيكلي”، الذي استهدَفَ إلغاء الحواجز الجمركية وإلغاء حماية الإنتاج المحلي، وإلغاء كافة أشكال الدعم، ويُؤدّي تطبيق هذه “التوصيات” (وهي في الواقع أوامر) إلى تقويض الأمن الغذائي، وتدمير الزراعة التقليدية، لتوسيع رقعة الأراضي التي تملكها الشركات وكبار الفلاحين، وتخصيص الأراضي الخصبة والتربة والمياه لزراعة إنتاج مُعدّ للتّصدير، بأسعار رخيصة، ما أدّى إلى تدمير حياة الملايين من المُزارعين في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، مقابل استيراد المواد الإستهلاكية الأساسية، مثل الحبوب، من الدول الغنية التي تَدْعم الُمزارعين، في حين يشترط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي على البلدان الفقيرة إلغاء دعم المنتجات الغذائية، مثل الخبز والأرز والحليب والسكر، والخدمات الأساسية مثل النقل والسكن والتعليم والصحة، لتتعمّق الهُوّة بين الدول الرأسمالية المتطورة، التي تشتري المواد الرخيصة، وتُصدّر المنتجات الزراعية أو المُصنَّعَة، مرتفعة الثمن، والدول الفقيرة، التي باتت تُصدّر المواد الرخيصة، بحسب الطّلب، وتستورد الغذاء والمواد المُصنّعة، وأدى ذلك إلى تدمير الزراعة، وهي النشاط الرئيسي للسّكّان، وتدمير الوظائف، مع الإنقراض التدريجي للفلاحين، وللإنتاج الزراعي التقليدي، الذي كان يُغذّي السّكّان المحليين في بلدان “الجنوب”، ولم تعد هذه البلدان تُنتج، بل تستورد الغذاء الرديء والمُلَوّث بالمبيدات، والذي تدعمه حكومات الولايات المتحدة وأوروبا… 

***** 

الجزائر- ما مصير الحركة الإحتجاجية ؟    

وصفت وسائل الإعلام العالمية الحركة الإحتجاجية، التي انطلقت يوم 22 شباط/فبراير 2019، بأنها “تعبير جيل الشباب عن مطالب ذات صبغة ديمقراطية”، ضد إعلان ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (الذي يحكم منذ 1999) لفترة رئاسية خامسة، مُدّتُها خمس سنوات، لكن المُتأمِّل في الشعارات، وفي مُخْتَلَف الشّرائح الإجتماعية التي تظاهرت في الشوارع، يلاحظ الصبغة الإجتماعية والطّبقية التي طبعت هذه المظاهرات، خاصة خلال الأسابيع الأولى، قبل احتوائها من قِبَل قوى انتهازية، بهدف توظيفها “لمآرِبَ أُخْرى”، و “لغاية، بل غايات، في نَفْسِ يعقوب“…  

أطْلقت مجموعات الشباب المُعَطّل عن العمل، من سُكّان الأحياء الشعبية، ومن ضواحي الجزائر العاصمة، هذه المظاهرات، ضد الفساد، وضد استيلاء فئة البرجوازية الطُّفَيْلِيّة على المال العام، برعاية السّلطة السياسية، قبل أن تنتشر المُظاهرات وتَعُمّ المُدُن الكُبْرى بسرعة، ووَصَف المتظاهرون فئة اللُّصُوص ب”العصابة”، وهو نفس الوصف الذي وَرَدَ في شعارات المتظاهرين أثناء انتفاضة تونس، بنهاية سنة 2010 “العمل استحقاق، ياعصابة السُّرّاق” (السُّرّاق، من فِعْل سَرق = اللُّصُوص)، ثم التحقت بهذه المجموعات الشبابية، فئات أخرى، من البرجوازية الصغيرة، ومن الميْسُورين، فتغيّرت الشعارات، وطغى الطابع “الديمقراطي” (وهو مُصطلح فضْفاض)، على الطابع الطبقي، الذي جَسّدَهُ الغضب الشّعْبي العَفْوِي، خلال الأُسبوعَيْن الأوَّلَيْن من المُظاهرات، وعند ذلك حضَرَتْ وسائل الإعلام الأجنبية، والمبعوثين الخَاصِّين، وحضَر زُعماء معظم الأحزاب (بما فيها المُشاركة في السُّلْطَة) ورموز “حزب فرنسا” (تَسْمِيَة يُطْلِقُها مواطنو المغرب العربي على “الديمقراطيين” ومناضلي “حقوق الإنسان” الذين تدعمهم الإمبريالية، وخاصة فرنسا، التي استعمرت المغرب العربي) وزُعماء المُنظّمات “غير الحُكُومية” المُمَوّلة أجنبيا، غير أن الجميع اتّسم بملازمة الحذَر، نظرًا لاعتراض معظم فئات الشعب الجزائري على التّدخّل الأجنبي في الشؤون الدّاخلية للبلاد… 

تمت مناقشة قرار تعليق التّظاهر، والتخلي عن تنظيم المسيرات، خلال مسيرة يوم الجمعة 13 آذار/مارس 2020، بسبب انتشار وباء “كوفيد 19″، في ظل تدهور منظومة الرّعاية الصّحّيّة بالبلاد، قبل أن تَمنعَ السّلطات تنظيمَ المُظاهرات، ضمن مجموعة من الإجراءات الوقائية الأخرى كإغلاق مؤسسات التعليم، والمنافذ الحدودية، والرحلات الجوية والبحرية وغلق المساجد، وهي فُرْصة لغلق الفضاء العام الذي احتله المواطنون منذ 22 شباط/فبراير 2019، كما استغل النظام هذه الفُرْصة لرفض تقديم أي تنازلات، بل وقع اعتقال وإدانة بعض المثقفين والإعلاميين، بتهم مختلفة، منها “تنظيم، أو المشاركة في تجمع غير مرخص”، وتَعَلّلت الحكومة بالنداءات التي أطلقتها بعض الرّموز الرجعية، وبعض المنظمات “غير الحكومية”، من باريس أو من جنيف أو من لندن (مُستَغِلّةً غياب قيادة للحركة الإحتجاجية)، لتكثيف حملة الإعتقالات والقمع، في حين عَبَّر معظم المشاركين في المظاهرات الإحتجاجية عن رفضهم تدخل القوى الأجنبية في الشؤون الدّاخلية للبلاد، وانتقد بعضهم تدخّل القوى الإمبريالية (فرنسا والولايات المتحدة، بالأخص)، عبر تمويل المنظمات “غير الحكومية”، وعبر احتضان بعض الرّموز العميلة…  

قبل تَوَلِّي منصب الرئاسة، كان عبد العزيز بوتفليقة (وزير الخارجية، خلال فترة حُكم الرئيس هواري بومدين) يعيش خارج البلاد، وله علاقات مع شيُوخ النفط، وخاصة مع حُكّام الإمارات، وجاء به الجيش لِيُنَصِّبَهُ رئيسًا، سنة 1999، بنهاية عقد الحرب على الإرهاب، فأصْدَر عفْوًا على الإرهابيين، دون مُحاكمة، وأعلن طي صفحة “العَشْرِيّة السّوداء”، وبقيت قضايا ضحايا الإغتيال والخَطْف والإختفاء القَسْرِي، مُعَلّقَة، ومع الإغلاق المُصطنَع لملف الإرهاب، فُتِحَ باب الإثراء السّريع، وغير المشروع، بواسطة الفساد والرّشوة، على مصراعَيْه، ما يُبَرِّرُ حُنْق المواطنين على “العصابة”، المُتكونة من جهاز الحُكْم، ومن المُقرّبين منه، من مُقاولي الإنشاء، وأصحاب شركات التّوريد (والتّصدير إن أمكن)، والسّماسرة والوُسطاء وَوُكَلاء الشركات والدّوَل الأجنبية…  

الأسباب الإقتصادية للإنتفاضة:  

ارتبطت عَشْرية رئاسة العَقيد “الشاذلي بن جديد” (من 09 شباط/فبراير 1979 إلى 11 كانون الثاني/يناير 1992) بالخصخصة وبَيْع أراضي الدّولة، ومؤسساتها الإقتصادية (ممتلكات الشّعب)، وتخَلِّي الدّولة عن بعض القطاعات، كالتوريد والتصدير، وأدّى ذلك إلى الثّراء السّريع لبعض الفئات التي كانت معظمها تدور في فلك النّظام، وأدّت خصخصة القطاعات الصناعية والفلاحية والتجارية، إلى تسريح عشرات الآلاف من العاملين، كل سنة، وإلى ارتفاع عدد الفقراء والمُعطّلين عن العمل، وبالتالي ارتفاع عدد المهاجرين بطريقة غير نظامية، عبر البحر الأبيض المتوسط، وموت الآلاف من شُبّان البلاد غَرقًا، في سبيل العثور على عمل قد يقِي هؤلاء الشبان شر الفقر والبُؤس…  

بقي اقتصاد الجزائر اقتصادًا ريعِيًّا، غير مُتَنَوِّع، يعتمد على عائدات تصدير المحروقات، ويستخدم النّظام الحاكم جُزْءًا من هذه العائدات لشراء السّلم الإجتماعي، لكن إصابة الرئيس بجلطة، وبقائه مُقْعَدًا، منذ سنة 2013، وانهيار أسعار النفط والغاز، منذ منتصف حُزيران/يونيو 2014، وَمُحافظة المُستفيدين على مستوى النّهب، السابق لانهيار أسعار النفط، ولانخفاض إيرادات الدّولة، جعل نظام الحُكْم عاجزًا على توزيع الفتات، لشراء صَمْت المواطنين، فيما احتدّ صراع الكُتل داخل أجهزة الحُكم، التي استحوذت عليها أُسْرة بوتفليقة (المُقْعَد) والمُقرّبين منها، وداخل فئات البرجوازية، غير المُنتِجَة، والمُستفيدة من اقتصاد الرّيع، ومن تمثيل مصالح الشركات والدّول الاجنبية

انخفض احتياطي العملات الأجنبية، في غضون ست سنوات، وفقدت الدّولة، بين سنتَيْ 2014 و 2020، ما يقارب 25% من إيراداتها، وانخفض حجم السّيُولة في المصارف، ما جعل المُوظّفين والمُتقاعدين يقفون الساعات الطّوال، في طوابير أمام المصارف، لاستلام جُزْءٍ من رواتبهم وجرايات تقاعدهم، واتخذت الحكومة السابقة والحالية إجراءات لخفض حجم وقيمة الواردات، فانخفضت قيمتها بأكثر من 38%، رغم زيادة قيمة واردات الحبوب ومواد البناء، فيما انخفض دخل الغالبية العُظْمى من المواطنين، ما جعل العديد من الفُقراء ومتوسطي الدّخل يتخَلَّون، سنة 2020، عن شراء ذبائح عيد الإضحى، ليتمكنوا من شراء المواد الغذائية، رغم النسبة المنخفضة للتضخم ( 2,2% )، بسبب قلة الطلب على الخُضار والفواكه الطازجة…  

انخفضت إيرادات الدولة من المحروقات، من 73 مليار دولار، سنة 2012، إلى 24 مليار دولارا سنة 2019، وقد تصل إلى ما بين 12 و 15 مليار دولارا، سنة 2020، وأدّى انخفاض أسعار المحروقات وتراجع حجم الصادرات، بالإضافة إلى شَلَل الإقتصاد، جرّاء انتشار وباء “كوفيد 19″، إلى انهيار الإقتصاد، ومالِيّة الدّولة، فبلغت نسبة عجز ميزانية الدّولة، نحو 10 %من الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2019، وقد يصل العجز إلى نحو 20 %من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية سنة 2020، مع تراجع حجم الإقتصاد (الناتج المحلي الإجمالي) بنسبة 3% بحسب توقعات الحكومة، وبنسبة 5,2%، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي بعنوان “آفاق الاقتصاد العالمي”، الذي نشره في بداية شهر نيسان/ابريل 2020، وأعلن وزير المالية أن خسائر الشركات العمومية، سنة 2019، تجاوزت 1100 مليار دينار جزائري، أو حوالي ثمانية مليارات دولارا، وتعتزم الحكومة زيادة إيراداتها من زيادة الضرائب المباشرة على الرواتب، والضرائب غير المباشرة على استهلاك السّلع والخدمات. أما قيمة احتياطات العملة الأجنبية، فيُتَوَقَّعُ أن لا تتجاوز نحو أربعين مليار دولارا، بنهاية سنة 2020، وأدّى انخفاض حجم العملات الأجنبية في المصارف إلى ازدهار سوق الصّرف الموازية، حيث ترتفع أسعار الدولار الأمريكي، واليُورُو الأوروبي، بنسبة تتراوح بين 40% و 50%، ليستفيد منها المستوردون، الذين يشترون العملة الأجنبية من المصارف بالسعر الرسمي، وبعملية بسيطة، تتمثل بتضخيم قيمة فواتير التّوريد، يبيعون جزءًا من العملة في السوق الموازية، ويربحون الفارق بين السّعْرَيْن الرسمي وغير الرسمي…  

الإنتفاضة، من العَفْويّة إلى الإحتواء:  

في البداية (22 شباط/فبراير 2019)، شكل أبناء الطبقة الكادحين والفُقراء من الأحياء الشعبية، جمهور التظاهرات الإحتجاجية، في الجزائر العاصمة، كما سبق ذكْرُهُ، ثم انضمّ إليهم الفُقراء وسُكّان الأحياء الشعبية، من المُصَلِّين، ومُرتادِي المساجد، أيام الجمعة، فيما بدأ طُلاّب الجامعات يتظاهرون مساء الثُّلاثاء، وبعد أسبوعَيْن، انضمت مجموعات أخرى من الفئات الُوسطى (ليبرالية التّوَجُّه)، وحاولت التّأثير، وتوجيه الشعارات والمَطالب، لكي تُلائم وسائل الإعلام “الغربية”، وهو ما جعل أبناء الكادحين، الذين أطلقوا الحركة الإحتجاجية، ينسحبون بداية من شهر أيار/مايو 2019، وبدأت الشعارات الليبرالية والدّينية والإنفصالية في الظّهُور، لكن وسائل الإعلام المُهَيْمِنَة عالميًّا، ضخّمتها لتجعل منها الشعارات الرئيسية للمتظاهرين، وبانسحاب سُكان الأحياء الشعبية والكادحين، تراجع حجم المتظاهرين، وفقدت الإحتجاجات زخمها الذي عاشته يوم النساء العالمي، يوم الثامن من آذار/مارس 2019، إلى أن وقع اتخاذ قرار التوقف عن تنظيم المسيرات، يوم الثالث عشر من آذار/مارس 2020، قبل أن تُقرّر السلطات، يوم 17 آذار/مارس 2020، إغلاق المساجد ومؤسسات التعليم وغيرها، كما ذكرنا في فقرة سابقة، ورفض المواطنون تلبية الدّعوات غير المسؤولة، لمواصلة التظاهر، التي أطلَقَها البعض من “حزب فرنسا“… 

كانت هذه الحركة الإحتجاجية، حدثًا استثنائيّا في تاريخ البلاد، منذ الإستقلال (الخامس من تموز/يوليو 1962)، ولا تُشبه احتجاجات عقد ثمانينيات القرن العشرين (خاصة احتجاجات تشرين الأول/اكتوبر 1988)، ولا احتجاجات بداية سنة 2011، ولذا من الضّرُوري تحليل أسباب انطلاقها، وأسباب توقفها، واستخلاص الدّروس من هذا الحدث الذي جَمَع ملايين المواطنين، واستَمَرّ لعدّة أسابيع، قبل أن تُسيطر عليه الفئات الليبرالية المُرتبطة بالمنظمات “غير الحكومية” وبأحزاب ومنظمات أوروبية وأمريكية، وأجْبَرت هذه الحركةُ الدّوائرَ العُليا في السّلطة على إقالة الرّئيس وعلى فتح مِلفّات الفساد، وإن كانت العملية بمثابة تصفية حسابات بين أطرف في السّلطة، أو بين فئات الرّأسمالية الطُّفَيْلِيّة، التي استفادت من “الإنفتاح” الذي دشّنَهُ الرئيس الشاذلي بن جديد (بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، بنهاية 1978)، ومن خصخصة القطاع العام، ومن اعتماد البلاد على توريد معظم احتياجاتها…  

تختلف أسباب الإحتجاج، وأهداف، ومطالب جماهير الكادحين والفُقراء، بالحق في العمل والسّكن والرعاية الصّحّية والعيش الكريم، عن مطالب وأهداف الفئات الأخرى (تُجّار ومُدرّسون وأطباء ومحامون…) التي التحقت بحركة الإحتجاج، واحتوَتْهُ، وصبغت الحركة بشعاراتها، التي تهدف زيادة حصّتها من السلطة، عبر شعارات ذات صبغة “ديمقراطية”، في ظاهرها، على الأقل، ونظرًا لغياب تنظيمات سياسية ونقابية ومؤسسات إعلامية، تُمثّل الكادحين والفُقراء، والمُعَطّلِين عن العمل، والعاملين بالإقتصاد الموازي، طَغَتْ شعارات البرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى الليبرالية، وتمكّنت بعض الأحزاب السياسية، والمنظمات “غير الحكومية”، والمنظّمات الحُقُوقية من استغلال الإنتفاضة، كواجهة إعلامية، ثم تمَّ التّخلّص من الطابع الشّعْبي للحركة، والمُناهض للرأسمالية، في جَوْهَرِهِ، من خلال تنديد المتظاهرين الفقراء بالفجوة الطّبَقِيّة العميقة بين فئات المجتمع، وبدَوْر الفساد والرّشوة وسرقة ممتلكات الشعب، في تضخيم ثروة العديد من الأثرياء، لِيتحول الهدف إلى “إعادة تشكيل السلطة، وإعادة تقاسم النّفُوذ السياسي والإقتصادي”، ضمن “احترام قوانين وقواعد السّوق، والمنافسة الحُرّة”، وخفض، أو إلغاء، دور الدّولة في توجيه الإقتصاد، مثلما عبر عن ذلك بعض رجال الأعمال، في ظل أزمة اقتصادية فاقمها انهيار أسعار النفط، منذ حزيران 2014، وعجز الدّولة عن توزيع جزء من إيرادات المحروقات، وفي ظل العجز البدني والذّهني للرئيس، منذ سنة 2013…  

مكانة الجزائر في “منظومة العَوْلَمة“:  

تم تعزيز دور الاقتصاد الجزائري ، كاقتصاد ثانوي أو طَرَفِي، في خدمة رأس المال المعولم، أي “المَرْكَز”، فالجزائر مُنتج ومُصدّر لموارد الطاقة الخامة الرخيصة، وسوق مربحة لإنتاج الشركات الرأسمالية الأوروبية، ويتمثل الدور الوظيفي للإقتصاد الجزائري في تعزيز تراكم رأس المال في المركز الرّأسمالي، عبر شراء السلع وإيداع الأموال في مصارفه

نجحت رؤوس الأموال الأمريكية والأوروبية في الهيمنة على السوق الوطنية الجزائرية، ومع ذلك لا تزال بعض العراقيل تُواجه أوروبا وأمريكا، قبل إنجاز عملية الهيمنة الكاملة على ثروات البلاد… 

فقدت الجزائر، من الناحية السياسية، نفوذها خلال العُقُود الأربعة الماضية، وشارك الجيش الجزائري منذ أكثر من عشرين عامًا في مناورات عسكرية في البحر الأبيض المتوسط، وفي الصحراء الكبرى، مع جيوش حلف شمال الأطلسي ( ناتو ) الذي تُقحم الجيش الصهيوني في كافة مناوراته، أو جُلِّها، لكن السلطات الجزائرية تعلن معارضتها للتدخل العسكري في بلدان الجوار، وتُعلن ضرورة حل مشاكل بلدان الصحراء أو المشاكل العربية أو الإفريقية، دون تدخل أطراف خارجية، وعارضت السلطة الجزائرية التّدخّل العسكري الفرنسي في مالي (المدعوم من أوروبا، ألمانيا وبريطانيا، ومن الولايات المتحدة)، لكنها فتحت الفضاء الجوي الجزائري أمام الطائرات العسكرية الفرنسية والأوروبية والأمريكية

بالإضافة إلى ذلك، وقعت الجزائر عدة عقود اقتصادية مع الصين، التي تخطط لدمج الجزائر في برنامج “طريق الحرير الجديد”، وللاستفادة من موقع الجزائر الاستراتيجي وثروتها من الطاقة والمعادن، ما يتعارض مع سياسات الإمبريالية الأمريكية والأوروبية التي تعمل على مَنْع الصين من مُنافستها في البحر الأبيض المتوسط، على حدود أوروبا، في حين تجاوزت تركيا (المحتل السابق للجزائر وعضو حلف شمال الأطلس، وحليف الدولة الصهيونية) كل الحُدُود، وبدأت تنهب ثروات ليبيا المجاورة، بالإضافة إلى النفوذ التركي على جماعة الإخوان المسلمين في المغرب العربي، من موريتانيا، مرورًا بالمغرب والجزائر، إلى تونس، حيث يُهيْمن الإخوان المسلمون على السلطة (كما في المغرب)، منذ العام 2012، وفي ليبيا، حيث يحكم الإخوان المسلمون غرب البلاد، منطقة طرابلس، والحدود مع تونس والجزائر 

مخاطر التّدخّلات الخارجية:  

إن المخاطر المحدقة بالبلاد ( الدّولة والوطن والشعب)، مخاطر حقيقية، ولكنها لا تُبَرِّرُ الصمت أمام السياسات التي ينتهجها النظام، من خصخصة، وعدم تحويل اقتصاد الرّيع النّفطي إلى اقتصاد مُنتج، يُمكن البلاد من تحقيق الأمن الغذائي، فالجزائر ثاني أكبر مُستورد للقمح، في العالم، بعد مصر، ولا تُبَرِّرُ الخطوات التطبيعية المُتسارعة، منذ لقاء عبد العزيز بوتفليقة مع رئيس حكومة العدو الصهيوني، في المغرب، سنة 1999، في جنازة الملك الحسن الثاني… 

قَوّضت الحكومات الجزائرية المتتالية منذ أربعة عُقُود (منذ سنة 1980) مكاسب المرحلة السابقة، وخسر العاملون بعض المكتسبات، في ظل خصخصة القطاع العام، وغياب أو ضُعْف أدوات النضال النقابي والسياسي، واستخدمت الدّولة ريع النفط، لإثراء بعض الفئات، ولشراء السلم الإجتماعي، بإلقاء بعض الفُتات، للفئات الشعبية، وللفُقراء… لكن ما يحصل منذ شهر شباط 2019، فيما سمي “الحراك”، يُثير العديد من التساؤلات المشروعة، بشأن الشعارات (مثل “فَلْيَرْحلوا جميعا”، بدون أي بديل)، أو بشأن الأهداف (غير المُعْلَنة)، وبشأن المرحلة المُقبلة، في ظل انخفاض إنتاج النفط، بسبب نُضُوب بعض الحقول، وانخفاض الأسعار في الأسواق العالمية، منذ منتصف حزيران/يونيو 2014، وبسبب الإغراق الذي تُمارسه السعودية والولايات المتحدة (النفط والغاز الصّخْرِيَّيْن)، فهذه القوى والأحزاب لم تُقدّم برامج بديلة لبرامج ولسياسة الحُكومة

أثارت تعليقات وانحياز وسائل الإعلام وبعض الحكومات الأجنبية بعض التّساؤلات المشروعة بشأن بعض من وقع تنصيبهم (في الخارج) كزعماء وقادة لانتفاضة الشعب الجزائري، وحاولت وسائل الإعلام الفرنسية، تقديم بعض الرموز الموالية لها كبدائل، فيما استغلت بعض القوى الإنفصالية المتصهينة (والفرنكفونية والمعادية لكل ما هو عربي) هذه الإنتفاضة لتُعزّز التقارب مع الصهاينة… 

نال بعض هؤلاء “الزُّعماء” المُنَصَّبُين شهرةً إعلامية في الخارج، وجوائز أجنبية، مُثيرة للشّبهات، وأموالأ، تحت بَنْد دعم “المجتمع المدني”، ونشر “الوَقف القَومي للديمقراطية” الأمريكي (وهي شبكة من المنظمات التي تُمولها الحكومة، عبر وزارة الخارجية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والكونغرس ووكالة الإستخبارات وبعض الشركات الخاصة…) حجم المبالغ التي أنْفَقَها سنة 2019، “دَعْمًا” لمنظمات “غير حكومية” جزائرية، وبلغت قيمتها 291 ألف دولارا، لكن الموقع أحجم عن نشر أسماء المنظمات التي استفادت من المال الأمريكي الفاسد، أو الرّشوة السياسية، بطلبٍ من قادة هذه المنظمات، وحصلت منظمات “شبابية” (يقودها كُهُول)، ومنظمات “حقوق الإنسان”، وغيرها، على مبالغ ضخمة، من الولايات المتحدة، ومن أستراليا واليابان وكندا، والإتحاد الأوروبي، وهي أموال تُستخْدَمُ بغرض تحقيق “الهيمنة الناعمة”، وتقويض الدّول من الدّاخل، إلى جانب استخدام الإعلام، لبث الدّعاية المُوجّهَة، وتمويل أحزاب المعارضة الموالية لإمبريالية الأمريكية والأوروبية، ومنظمات حقوق الإنسان، والأقليات الاثنية والدينية وغيرها، وسبق أن كتبت صحيفة “واشنطن بوست”، بمناسبة إحدى “الثّورات المُلونة (أوكرانيا، سنة 2014) تقريرًا عن المبالغ التي وقع إنفاقها (بين 2004 و 2014)، والأساليب التي تتوخّاها المخابرات الأمريكية، والمنظمات “المانحة” والداعمة لهذه “الثورات المُلَوّنة”… 

أنشأت المنظمات الأمريكية المشبوهة شبكة من المُثقّفين الجزائريين، العُملاء، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، وتولى “الوقف القومي للديمقراطية” تأهيل وتدريب العديد منهم، ومن بينهم سعيد سعدي، مؤسس حزب “تَجَمّع الثقافة والديمقراطية”، وصديق الصهيوني “برنار هنري ليفي”، منذ عُقُود، والهواري عدّي، ومُصطفى بوشاشي، وكريم تَبُّو، وزبيدة عَسُّول، وحكيم عدّاد (مؤسس تجمّع العمل الشبابي، سنة 1992، وتموله الحكومة الأمريكية، بشكل غير مباشر، منذ 1997)، وغيرهم، ممن تَكَفَّلَ “المنتدى الدّولي لبحوث الدراسات الديمقراطية” الأمريكي (أحد فُروع “الوقف القومي للديمقراطية”)، بصَقْل مواهبهم في الخطابة والمُراوغة، وفي تَحْسين صورة الإخوان المسلمين، الذين تعتبرهم الولايات المتحدة ممثلي “الإسلام السياسي المُعتدل” (لقاء مصطفى بوشاشي مع علي بلحاج، أحد الزعماء الإسلاميين الأكثر تطرفا في الجزائر)، وفي الإدّعاء أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، وخيانة الوطن، “وجهة نظر، يمكن مناقشتها وقبولها والتعايش معها”، ومنذ سنة 2005، يُشارك هؤلاء “الديمقراطيون” الجزائريون (معظمهم من ذوي الجنسيات الأجنبية) في الدّورات التي تُنظمها مؤسسات البحث والدراسات التابعة لشبكة “الوقف القومي للديمقراطية” لدراسة “محاسن الديمقراطية الامريكية”، كما قَدّمها فرنسيس فوكوياما وصامويل هنتفتون ودونالد هوروفيتز، ومَوّلت منظمة “راند” الأمريكية، وهي منظمة بحثية، في خدمة الحكومة الأمريكية والشركات الكُبرى، عددا من الدراسات والبحوث السياسية التي أعدّها باحثون جزائريون، لإثراء ملف الجزائر لدى الحكومة والمخابرات الأمريكية، وخاصة وزارة الحرب الأمريكية، واستفاد “مصطفى بوشاشي” (الذي نصبته فرنسا مدافعًا عن حقوق الإنسان في الجزائر) من تمويلات الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي (الحكومة الأمريكية)، منذ سنة 2000، لإعداد ملفات عن الجزائر وفلسطين، كما فرضت فرنسا منذ بداية حُكْم بوتفليقة عددًا من الوزراء، وأشهرهم وزيرة التعليم المناهضة لتعليم اللغة العربية 

استخلاصات ودُرُوس من التاريخ

كان الإقتصاد الجزائري مُوَجّهًا من قِبَل الدّولة، خصوصًا بعد تأميم قطاع المحروقات وإعلان الإصلاح الزراعي ( استخدم النظام عبارة “ثورة زراعية”)، وبدأت الدولة استثمار عائدات المحروقات في تنفيذ برنامج صناعي ضخم، تَضَمّن مُجَمّع الحديد والصّلب “الحَجّار” (منطقة عَنّابة) والصناعات الميكانيكية (سكيكدة) ومصنعان لتَسْيِيل الغاز، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وغيرها، وترافق هذا البرنامج مع حملة إعلامية لتحسيس المواطنين بضرورة تحقيق الإستقلال الإقتصادي والإكتفاء الذاتي، واعتمد برنامج الإصلاح على العمل التّطوُّعي، حيث شارك آلاف الشًّبّان والنّقابيين والمُوظّفين والطّلاّب الجامعيين في إنجاز برامج الإصلاح الزراعي، وبناء القُرى في الرّيف، لكن هذا البرنامج كان فَوْقِيًّا، بقرار سياسي، لم يعتمد الحوار والإستشارة مع المواطنين المَعْنِيِّين بالأمر، رغم حماسة العديد من المناضلين والشباب، وبعض موظّفي الدّولة، فيما ساهمت فئات أخرى عديدة، من داخل أجهزة الحُكم، ومن خارجها، في تخريب البرنامج من أساسه، انطلاقًا من موقف طبقي، رجعي، يعتبر الشعب، وسُكّان الريف والفلاحين، بشكل خاص، مجموعات من الرّعاع، غير جديرة باهتمام الدّولة، ولا بنَيْل حصّتها من ثروات البلاد، واعتمد هذا البرنامج على توريد التقنية من الدول الأوروبية، بدل الإعتماد على خبرات ومهارات المُهندسين والتّقنِيّين والعاملين المحلّيّين، فعمقت الدّولة بذلك التّبَعِيّة، واشترطت الدّول والشركات المُصدّرة للتكنولوجيا، توقيع عُقُود صيانة، تحظر على العاملين المحليين إصلاح أي عطب، فأصبح كل عَطَبٍ صغير يُصيب آلة في مَصْنع أو جَرّار في مزرعة، يتطلب قُدُوم بعثة من ألمانيا أو فرنسا، لمُعاينة العطب، ثم طلب إرسالها من أوروبا، وتعطيل العمل، لمدة أشْهُر أحيانًا… 

انطلقت حملات التّخريب من “كلمة حق أُرِيدَ بها باطل”، إذ كان نَقْدُ البيروقراطية، والتّبعية في مَوْضعِهِ، لكن الإستنتاج كان لغايات خبيثة، تهدف تطبيق الإجراءات الليبرالية التي يدعو لها البنك العالمي، وصندوق النّقد الدّولي، وتُعمّق التّبَعِيّة وتُقوّض استقلال البلاد الذي ضَحّى من أجله مليون مواطن…  

كان “الشاذلي بن جديد” أحد مُمَثِّلِي هذا التّيّار الرّجعي، من داخل أجهزة السُّلْطة، ونَفَّذَ برنامجًا شبيهًا ببرنامج أنور السادات في مصر، بعد وفاة جمال عبد النّاصر، وخَرّب كلاهُما اقتصاد البلاد، باسم “الإنفتاح”، وتمثّلَ التّخريب في القضاء على وَحَدات الإنتاج، والإعتماد على توريد معظم حاجيات البلاد، وفي مقدمتها الحُبُوب والغذاء، من الخارج، وبيع مُؤسّسات القطاع العام، وتسريح مئات الآلاف من العاملين، فتَضَخّم الإقتصاد الموازي والفساد والبطالة، وتعمقت الفَجْوَة الطّبقية… 

في الجزائر، بدأت سياسة الخصخصة وتَقْوِيض الإنتاج المحلي، قبل حوالي أربعة عُقُود، وتوقّفت الدّولة عن توظيف المُتعلّمين، وخرّيجي الجامعات، فلم يَعُد التّعليم وسيلة لارتقاء الفُقراء في درجات السّلّم الإجتماعي، ما زاد من عدد المُعطّلين والمُهَمّشِين والفُقراء، والعاملين في القطاع الموازي (الذي يُشرف عليه رأسماليون من السلطة أو من المُقَرّبين منها)، بدون حُقُوق ولا حماية اجتماعية، خاصة من فئة الشّباب، ما دفَع العديد منهم ومنهُنّ إلى المُخاطرة بحياتهم، وعُبُور البحر الأبيض المتوسّط، كما ذكرنا في فقرة سابقة…  

في الأرياف، استفاد صغار الفلاحين من توزيع الأراضي الزراعية التي تم تأميمها، سنة 1971، ولكن الدّولة افتكّتها منهم، بعدما أحياها هؤلاء الفلاحون الفُقراء، وأعادتها إلى أبناء وأحفاد كبار مالكي الأرض، ومعظمهم كان “متعاونًا” مع الإستعمار(أي عَمِيلاً للإستعمار)، وحصل على الأرض إما بالوراثة، أو بالقُوّة، وغادر العديد من الفلاحين الفُقراء مناطقهم الأصلية في الريف، نحو العشوائيات، بحثًا عن عمل في المُدُن  

خاتمة

أطلق المواطنون من الشرائح الشعبية هذه الإنتفاضة الجزائرية، وهي متألّفَة من العمال غير المُثَبّتِين، والعاملين في الإقتصاد الموازي، ضحايا خصخصة الاقتصاد والقطاع العام. لقد أطلقوا الحراك الاحتجاجي في شباط/فبراير 2019 بشعاراتهم ومطالبهم الاجتماعية والاقتصادية، التي تشغلهم، لكن نقص التجربة والخبرة والتنظيم وغياب الأُفُق السياسي، كانت من العوامل التي مَكّنت المنظمات الرجعية أو الإسلامية أو الأمازيغية، والمنظمات غير الحكومية والليبراليين، من “عرقلة” الحراك وتحويل وجهته، وفرضت هذه المنظمات والقوى الرجعية تحويل شعارات الحركة، من مطالب اقتصادية واجتماعية للفُقراء والمُهَمّشين، إلى شعارات تهدف الحصول على وعود بإعادة تقاسم السلطة بين مختلف الفصائل النيوليبرالية والرجعية … 

يمكن للحركة العفوية أن تكون شرارة قد تؤدّي إلى انطلاق انتفاضة، أو حتى ثورة، شرْط وجود قوة ثورية منظّمة، تحظى بثقة المُشاركين في الإنتفاضة، ولها كوادر ومناضلين قادرين على تقييم الوضع مباشرة، على عين المكان، وبسُرعة، لتحويل الشعارات والمطالب الأساسية والبسيطة ظاهريًّا، إلى برنامج جماعي و أهداف ثورية واضحة وقابلة للتحقيق، ولكي يتبَنّى المُنتفضون والمُستَغَلُّون والمُضْطَهَدُون هذا البرنامج، وجَبَ طرحُهُ، وتنظيم نقاشات علنية، بهدف تعديله، قبل اعتماده خلال جلسات الجمعيات العمومية المفتوحة، وما على المناضلين الثوريين سوى الدّفاع عن هذا البرنامج وهذه الأهداف التي سوف تلقى مُعارضة شرسة من القوى الرجعية والإنتهازيةن والديمقراطية الإجتماعية وغيرها… لا يمكننا أن نتحَرّر بالتعويل على الصّدفة، وانتظار مسار الأحداث، فلن نتحرّر بدون تأسيس أداة للتّحرّر، جديرة بأن تُسمّى حزبًا ثوريًّا، يستهدف، على المستوى الاستراتيجي ، التحرر الاجتماعي للعاملين وللمنتجين المستغَلين، عبر استيلاء العاملين على وسائل الإنتاج وتملكهم لها ولسُلْطة القرار السياسي

لكن، لا يمكن لهذا الحزب أن ينْمُوَ ويتطور، ويتم احتضانه وتَبَنِّيه من قِبَلِ المستغَلين والمضطهَدين إلا إذا ارتبط مناضلوه ارتباطًا وثيقًا بنضالات العمال والشباب والنساء والشرائح الشعبية ضد الاستغلال وضد القهر ، وطنيا ودوليا … 

هذا ما كانت تحتاجه الإنتفاضات العربية، في تونس والمغرب ومصر والأردن والبحرين واليمن والجزائر، وهذا ما جعل القضية الفلسطينية تتراجع، رغم التّضحيات …  

الرجاء مراجعة مقالات الطاهر المعز السابقة، عن الجزائر، بعد انطلاق الإنتفاضة، وأهمها:  

الجزائر – أزمة عميقة وليست عابرة (10 آذار/مارس 2019)  

عرب، ما بعد إزاحة الرئيس- نموذج الجزائر والسّودان (07 أيار/مايو 2019

الجزائر، هوامش الحركة الإجتماعية لسنة 2019 (15 تشرين الأول/اكتوبر 2019

***** 

المغرب، نموذج التّبَعِيّة، والهيمنة الأجنبية  

مقدمة: 

انطلقت حركات الاحتجاج في المغرب، ضد برامج “الإصلاح الهيكلي” والتّقشّف، التي يَفْرِضُها الدّائنون، منذ سبعينيات القرن العشرين، وجابهتها الدّولة بالقمع والعُنف والمُحاكمات، وأدى قمع احتجاجات سُكّان منطقة “الرّيف” (شمال البلاد)، إثر مقتل المواطن “محسن فكري”، يوم 28 تشرين الأول/اكتوبر 2016، بمدينة “الحُسَيْمة”، إلى اعتقال أكثر من 1500 مواطن، وأصْدَرَ جهاز القَضاء أكثر من 700 إدانة، من ضمنها الحكم على خمسة متظاهرين بالسجن عشرين عاما نافذة، ورَدّ النظام على احتجاجات “جرادة” (الشمال الشرقي)، بنهاية 2017، وبداية 2018، بالقمع والحكم بالسجن  (من سنتَيْن إلى ثلاث سنوات) على 17 شخصا، وخلال أقل من ثمانية أشهر من سنة 2020، سُجن ما لا يقل عن 16 شخصًا (من بينهم اثنان من طلاب المدارس الثانوية) لمشاركتهم محتوى منشور على وسائل التّواصل المُسَمّى “اجتماعي”، (فيسبوك وإنستغرام، ويوتوب…)، وهم يواجهون أحكاما تتراوح بين شهر واحد و 4 سنوات سجنًا نافذًا، وتنظم السلطات، باسمرار، حملات مضايقة، وحملات تشهير وترهيب ضد بعض مُناضِلِي الحركات الاحتجاجية أو الإعلاميين والصحفيين المستقلين أو النقابيين، وتستهدف حملات القَمع، بشكل عام، حرية التعبير التي تمكّن المناضلون والنّقابيون، من التيارات التّقَدُّمِيّة، اكتسابها، خلال فترة امتدّت من منتصف تسعينات القرن العشرين، إلى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وغالبًا ما تتهم السلطات وجهاز القضاء، هؤلاء الصحفيين المستقلين، أو المدافعين عن الحقوق والحريات، بازدراء الدّين أو القُضاة، أو بارتكاب أعمال العُنف، أو ب”الإعتداء على الأخلاق الحَميدَة”، وممارسة “الجنس خارج إطار الزواج” أو أي تُهَم أخلاقية أخرى، بهدف تشويه سمعتهم في نظر السكان … 

على الصعيد الاقتصادي ، يمثل المغرب نموذج الدول ذات الدَّيْن العام المرتفع والتي تخضع لإملاءات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ونموذجا للدول العربية التي تستجيب سياساتها لرغبة ومصالح القوى الإمبريالية، والكيان الصهيوني، والشركات متعددة الجنسيات، وارتفعت قيمة الدَّيْن العام، من سنة إلى أُخْرى، ويُؤدّي ارتفاع الدّيْن العام إلى تدهور الأحوال المعيشية لغالبية السكان الذين تنخفض دخولهم السنوية، لأن جُزْءًا مُتعاظمًا من الإنتاج ومن جُهْد العاملين، يَخْرُج من البلاد، ويُخَصَّصُ لتسديد الدُّيُون… 

تُمثّل اتفاقيات “التجارة الحرة”، أو اتفاقيات الشراكة” مع الإتحاد الأوروبي، التي فُرِضَتْ على المواطنين (في المغرب وتونس ومصر والأردن وغيرها من البلدان العربية) نموذجا لمظاهر الإستعمار الجديد، لأنها مُجَرّد أداة لسيطرة المصارف والشركات الأوروبية العابرة للقارات، على ثروات واقتصاد بلدان الحَوْض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وتَتَكامَلُ هذه الإتفاقيات مع هيمنة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، إذْ تسمح هذه الاتفاقيات للشركات الأوروبية (وغيرها) بالسيطرة على القطاعات الاقتصادية المربحة والخدمات العامة، وتسريع عملية خصخصة قطاعي الصحة والأدوية، وتغيير قوانين البلاد (من خلال قوانين الملكية الفكرية وبراءات الاختراع)، ووَصَل الأمر إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية الخصبة، لتزيد عملية إفقار المُنتجين وصغار الفلاحين، عبر زيادة المديونية التي تهدد وجودهم، كَفِئَات اجتماعية مُنْتِجَة، تُساهم في تزويد السوق المحلية بحاجيات المواطنين، وإنتاج سلع ومواد تُناسب دَخْل وعادات ونمط حياة المواطنين…   

بعض سِمات الوضع الإقتصادي بالمغرب: 

لا يُعدُّ المغرب من المنتجين للنفط، بل يستورده من الخارج، ولكنه كان يتلقّى بعضَ الفُتات من الأُسَر الحاكمة في الخليج، وأدّت أزمة 2008/2009، ثم انخفاض أسعار النفط الخام في الأسواق العالمية، وبالتالي انخفاض إيرادات دُويلات الخليج، إلى انخفاض “المِنَح” والإستثمارات والقُرُوض الخليجية، فتأثّر الإقتصاد المغربي سَلْبًا، بالتوازي مع ارتفاع نسبة البطالة والفَقْر، ومع انخفاض إيرادات السياحة وتحويلات العُمال المهاجرين والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولجأت الحُكومات المتعاقبة للإقتراض من صندوق النقد الدّولي، ومن الدّائنين الآخرين، الذين اشترطوا تطبيق سياسات التّقشّف وتعميم العمل الهش، وخَفْض الإنفاق العُمومي وخصخصة القطاع العام، واندماج كافة القطاعات في اقتصاد السّوق، فارتفع حجم المديونية العمومية (الديون الداخلية والخارجية) إلى 84% من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب، سنة 2018،  بحسب المصرف المركزي المغربي، وحصلت حكومة المغرب على قرض ائتماني، بقيمة ثلاثة مليارات دولارا، أو ما يعادل 3% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، البالغ حوالي مائة مليار دولارا، بنهاية الرّبع الأول من سنة 2020 وعلى قُرُوض أخرى من البنك العالمي ومن أطراف أخرى، في بداية الرّبع الثاني من سنة 2020، لتصل قيمة دُيُون النصف الأول من سنة 2020، إلى حوالي 4,2 مليارات دولارا، وقُدّرت قيمة “خدمة الدَّيْن” في المغرب بما يعادل عشرة أضعاف ميزانية الصّحّة، وما الدّيُون سوى وسيلة لتوسيع نفوذ وهيمنة الدّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي بشكل خاص) ومصارفها وشركاتها، عبر مُؤسسات “بريتن وودز”، وعبر فَرْض شُرُوط وقواعد منظمة التجارة العالمية، مثل “حقوق المِلْكِيّة الفِكْرِيّة” التي رفَعَتْ أسعار الأدوية بمعدّل 25%، في بعض البلدان الفقيرة، ومن بينها المغرب، ما حَرَمَ الفُقراء من الرعاية الصحية، ومثل “تحرير” كافة القطاعات بما فيها تجارة التجزئة والفلاحة، حيث تُقدّم الدُّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية واليابان والإتحاد الأوروبي، وأستراليا…) دَعْمًا هامًّا لقطاع الزراعات الكبرى وتربية الماشية واللحوم ومشتقات الألبان، مقابل التّأكيد على مَنْع دول “الجنوب” من حماية اقتصادها، ومن تقديم أي دَعْمٍ للقطاعات الإستراتيجية، كالزراعة، ويأتي هذا التّحريم عبر منظمة التجارة العالمية، أو عبر اتفاقيات “الشّراكة” الثنائية ومتعددة الأطراف، ووقّعت تونس والمغرب ومصر والأردن ولبنان اتفاقيات شراكة غير متكافئة بالمَرّة مع الاتحاد الأوروبي، وكبّلتْ حكومتا تونس والمغرب شَعْبَيْهِما، من خلال المفاوضات المُرهقة التي بدأت منذ 2015، بشأن “اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق”، مع الإتحاد الأوروبي، الذي لا يخدم سوى مصالح المصارف والشركات الأوروبية  العابرة للقارات، والذي يفرض على الدّوْلَتَين (تونس والمغرب)، تطبيق المَعايير الأوروبية، في مجالات القانون والإنتاج والتجارة، والفلاحة والخَدَمات، وحماية “المُستثمِرِين” والشركات الأوروبيّة، لتعظيم أرباحها، عبر تكثيف استغلال العاملين المَحَلِّيِّين واستغلال واحتكار الثروات والأسواق المحلّية، ما يُعَمِّقُ علاقات التّبَعِيّة، ذات الطابع الإستعماري، وما يؤدّي إلى تهديد الأمن الغذائي لشَعْبَيْ تونس والمغرب، ففي مجال الفلاحة، يعتبر المغرب مُنتجًا غذائيًّا ومُصدّرًا للأغذية الرّخيصة إلى أوروبا، التي تنهب أيضًا الثروات البحرية للمغرب، التي لها واجهتان على البحر (المتوسط والمحيط الأطلسي)، وتنهب ثروات غرب إفريقيا، فيما يتهدّدُ الإفلاس القطاع الفلاحي المغربي، وبالأخص صغار الفلاحين، أصحاب المَزارع الصغيرة، أو الذين يسْتأجِرُون الأرض، المُكبّلين بالدّيُون، بالإضافة إلى العوامل الطبيعية غير المُواتية، كالجفاف، وهيمنة الشركات الإحتكارية، التي تستحوذ على الدّعْم الحكومي، وتستغل العاملين الفُقراء في الأرياف، وتحتكر الأراضي والموارد والمياه، وتفرض شروطها على صغار الفلاحين، لتُدَمِّرَ الغذاء التقليدي والصّحّي، ولتستحوذ على معظم الإنتاج الفلاحي، لتوجيهه نحو التّصْدِير، وِفْقَ حاجة الأسواق الأوروبية (والخارجية عمومًا)، بدل تَلْبِيَة حاجة الشعب المغربي، ولذلك تستورد الدولة، قرابة 55% من المواد الغذائية الضرورية، وخاصة من الحُبُوب والقَمْح، وأدّى تطبيق هذه السياسات إلى احتجاجات نظّمها الفلاحون الصغار وجمعيات المُستهلكين وبعض منظمات المُجتمع الأهْلِي، سنتَيْ 2018 و 2019، جابهتها أجهزة الدّولة بالقمع والإعتقالات والمحاكمات …  

تُؤَدّي عملية استيلاء الشركات العابرة للقارات على الأراضي الزراعية، مثلما تنص عليه اتفاقيات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، إلى تهديد الأمن الغذائي للمغرب (كما الحال في أي بَلد آخر)، وبدأت بعض اللجان المَحَلِّيّة، وبعض القوى السياسية والنقابية، في المغرب وتونس، ترفع مطلب إلغاء الدّيون، وينظم بعضها حملات، مُحتشمة، من أجل إلغاء اتفاقيات “الشراكة” مع الإتحاد الأوروبي، التي تضفي الشرعية على علاقات التّبَعية والهيمنة الاستعمارية. 

تؤدي هذه الاتفاقيات إلى تفاقم التبعية وارتفاع قيمة العجز التجاري، وزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية من الأسواق العالمية، وتؤدّي إلى تدمير أنشطة الإنتاج الفلاحي، وتدمير الوظائف، أو فُرَص العمل الدائمة، وتدمير النّسِيج الإجتماعي في الأرياف. 

عَمَّمَت هذه الاتفاقيات (مع الإتحاد الأوروبي) هيمنةَ الشركات متعددة الجنسيات، بالتعاون مع رأس المال المحلي الكبير، على القطاعات الاقتصادية المربحة، وعلى الخدمات العامة، بما في ذلك الصحة والأدوية، وكفلت حماية “حقوق” رأس المال الأجنبي، من خلال قوانين “حقوق الملكية الفكرية” و “براءات الاختراع”، وتشمل الصيغة “الجديدة” من اتفاقيات التجارة الحرة، كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، كما هو الحال في اتفاقية التجارة الحرة الشاملة المعمقة (كافتا) بين تونس والإتحاد الأوروبي، وتتكاملُ اتفاقيات “التجارة الحرة” مع الدُّيُون الخارجية، لِتُشكِل أهم أدوات الهيمنة الإمبريالية، وهي اتفاقيات لا تهدف تلبية احتياجات المواطنين، بل على العكس من ذلك، تستهدف هذه الاتفاقيات خصخصة القطاعات الأساسية والحَيَوِيّة كالصحة والتعليم والنقل الحضري وقطاعات الطاقة الاستراتيجية والمصارف والاتصالات، وتقتضي بنود هذه الاتفاقيات تحرير تجارة السلع، والخدمات، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، عبر ما تُسَمِّيه المُؤسسات المالية “تَحْسِين مناخ الإستثمار والأعمال” إلخ. 

نشرت جمعية “أتاك” المغربية، سنة 2019 (وهي جمعية تناضل من أجل إلغاء الدّيون، ومن أجل فَرْض رُسُوم على عمليات المُضاربة) دراسة عن العلاقة بين الزراعات التقليدية المحلية و”السيادة الغذائية”، أو “الأمن الغذائي”، واستنتجت أن الفلاحين والفلاحات الصغار يُعانون من ظروف الحياة وظروف العمل الصعبة، ومن الأُمِّيّة ومن غياب مؤسسات التعليم والصحة، والبُنية التّحتية، كالطرقات، والخدمات الأساسية، كالمظَلّة الإجتماعية والرعاية الصحية، ومن انخفاض مستوى الدّخْل، ومع ذلك لهم فضْلٌ كبير في المحافظة على البيئة، ومُقاومة التّصَحُّر وفي إنتاج غذاء صحي، رغم الحجم الصغير للمساحات المزروعة، ورغم شُحّ المياه، وارتفاع أسعار الأسمدة والمُعدّات الفلاحية، وَراكَمَ هؤلاء الفلاحون الصغار، في المغرب كما في كافة مناطق العالم، خبرات ومهارات وتجارب للحفاظ على المياه وعلى خصوبة الأرض، واحترام البيئة، والحفاظ على التنوع البيئي، النباتي والحيواني، وخبرات أخرى عديدة ورثوها عن الأجيال السابقة، على مر القُرُون، قبل اجتياح هذه المناطق الريفية من قِبَل الشركات العابرة للقارات، ووكلائها المَحَلِّيِّين، وهي شركات تمتلك المال والسّلطة، واستخدمتهما لتدمير البيئة ولنهب الموارد، من أجل تحقيق الربح السريع، وهيمنت هذه الشركات وَوُكلاؤُها على الأسواق، ما حَرَم صغار الفلاحين من بُذُورهم التي تأقلمت، خلال مئات السّنين، مع تُربة ومناخ البلاد، وما حرمهم من تسويق إنتاجهم، خُصُوصًا في غياب العمل الجماعي، النّقابي، والتّعاوُنِي، للدّفاع عن مصالح هذه الفئة الإجتماعية من المُنْتِجِين، في ظل غياب الرُّؤْيَة الشُّاملة (الوطنية والمغاربية) للمسألة الزراعية، وإهمال الأنظمة للتخطيط من أجل إنتاج المواد الأساسية الضّرورية للسوق المحلية (كالحبوب والخضروات واللحوم والألْبان…)، وإهمال (أو عرقلة) أجهزة الدّولة شروط تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، مع تشجيعها الإنتاج التجاري المُعَد للأسواق الخارجية، في مزارع ضخمة، تستغل العاملات والعُمّال المياوِمين، لفترة 12 ساعة يوميا، برواتب ضعيفة، وبدون حُقُوق، ويُهاجر الآلاف منهُنَّ ومنهم، سنويًّا، إلى جنوب أوروبا، بعقود موسمية، أو بدون عُقُود، ويعملون في ظروف سيئة جدًّا، وتعتمد هذه المزارع الضخمة على التقنيات التي لا تُراعي المحافظة على الثروة المائية وعلى أديم الأرض، وتستخدم البُذور المُعَدَّلَة وراثيا والمواشي التي يقع تَسْمِينُها بالمُضادّات الحيوية والهرمونات، وتستخدم المبيدات التي تم حَظْرُ استخدامها في الإتحاد الأوروبي (مُنِعَ استخدام بعضها منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين)، فتُلَوِّث التّرْبَة والمياه، ومُحيط عَيْش القَرَوِيّين المغاربة، وهو تدمير شبيه بما يحصل في مناطق عديدة من العالم، في غابات الأمازون، بأمريكا الجنوبية، وفي جنوب آسيا، وفي معظم بلدان إفريقيا…   

بين تَبَعِيّة الإقتصاد وبُؤْس المواطنين: 

شهد المغرب انتفاضات عديدة منذ الإستقلال الشّكْلِي (سنة 1956)، حيث رَفَضت بعض فصائل النضال الوطني تَبِعات اتفاقيات هذا “الإستقلال” مع فرنسا، القوة المُسْتَعْمِرَة، وواصلت بعض المجموعات المُعارضة الكفاح المُسَلّح، عدة سنوات، كما انتفض الأولياء والمُدَرِّسُون والتلاميذ أيام 22 و 23 و 24 آذار/مارس 1965، احتجاجًا على ظروف الدّراسة وعلى ارتفاع نفقاتها في مؤسسات التعليم العُمومي، وقتل الجيش مئات المتظاهرين في الدار البيضاء، وبعد سنوات، أدّى تطبيق برنامج الإصلاح أو التَّكَيُّف الهيكلي، الذي فَرَضَهُ الدّائنون إلى مزيد من الفَقْر، في المغرب، كما في العديد من البلدان، إلى انطلاق احتجاجات جماهيرية عارمة، في العديد من البُلدان، ومنها المغرب، وقمعت القوى الأمنية المُسلحة المغربية هذه الإحتجاجات بشراسة، منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وأسفرت عن عشرات القَتْلى والمُصابين والمُعتقَلِين، وخاصة خلال سنوات 1981 و 1984 و 1990، ثم تغيّر شكل الإحتجاجات، بداية من سنة 2011، حيث انطلقت انتفاضة شبابية، قبل أن تتسع رقعتها، في شهر شباط/فبراير 2011، ولم يكُفّ سُكّان الأحياء الشعبية في المُدُن المغربية عن الإحتجاج ضد ارتفاع أسعار السّلع والخدمات، وضد خصخصة الخدمات، وارتفاع أسعارها، كالهكرباء والمياه، وصعوبة استئجار مَسْكن، وغير ذلك من ظروف الحياة اليومية الصّعْبَة، وعالجت الحُكومات المتعاقبة (التي لا يمكنها الخُرُوج عن مخططات القصر المَلَكِي) هذه المطالب بالقمع، وعالجت الوضع الإقتصادي بالإستدانة والخصخصة، وتحْميل الأُجَراء والفُقَراء أعباء الأزمات، كما في معظم بلدان “الجنوب”… 

الدّيُون الخارجية: 

تقترض حكومات المغرب وتونس ومصر والأردن من صندوق النقد الدولي (وكذلك من البنك العالمي ودائنين آخرين)، وعندما يوافق صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي على قرض، فإنه يتحكم في السياسة الإقتصادية للدولة المُقْتَرِضَة، ويفرض عليها برنامجًا اقتصاديًّا، ومن يتحكّم بالإقتصاد، يتحكّمُ بالقرار السياسي السيادي، ولا تترك الشروط المفروضة، وجدول السداد (الدَّيْن والفائدة) أي هامش للدول المُسْتَدينة لكي تستثمر في القطاعات الحيوية التي يُمْكنُها تَعْزِيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي، ولا يُمكن للدول المُسْتدينة أن تعد ميزانية سنوية أو تخطط للإنفاق أو الاستثمار بدون موافقة صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي الذي يُحَدّدُ بُنُود الميزانية، ويتدخّل في تفاصيل الإيرادات والإنفاق، ما يُعَدُّ استعمارًا من نوع جديد، بدون جُيُوش. 

طبّقت هذه الدول شُرُوط الدّائِنِين، ولكن لم تنخفض قيمة ونسبة الدُّيُون (من الناتج المحلي الإجمالي)، بل على العكس، فهي تتزايد باستمرار، وتطلب الحكومات قُرُوضًا جديدة لسد العجز أو لتسديد القروض القديمة، ودخلت في دوّامة أَضَرّتْ بحياة الشُّعُوب، وخاصة فئات الكادحين والأُجَراء والفُقراء، فارتفعت الفوائد وخدمة الدّيون (تكلفة أو أعْباء الدّيُون)، ما قد يؤدّي إلى عدم القُدْرَة على التّسْديد، لتقترض الحكومات (في المغرب وتونس ومصر والأردن ولبنان) أموالاً لتسديد القُروض السابقة، وهي قُرُوض أو دُيُون خارجية، مُقَوّمة بالعملة الأجنبية، معظمها من صندوق النقد الدولي ومن البنك العالمي ومن مؤسسات مالية أخرى كالمصرف الإفريقي للتنمية، ونادي باريس، ودخلت معظم الدول العربية (ومنها المغرب) في هذه الدّوّامة الخطيرة من الإستدانة لتسديد ديون قديمة، وفاقت قيمة الديون الخارجية للمغرب، بنهاية سنة 2018، خمسين مليار دولارا، وبلغت حصة كل مواطن مغربي منها، أي المبلغ الذي يتوَجّب على كل مواطن مغربي تسديده، من الرضيع إلى الشيخ الطاعن في السّن، 2120 دولارا، من الدّيون الخارجية، بالعملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة العملة المحلّية، وارتفاع قيمة الدّولار، وهو ما يُتَرْجَمُ في الحياة اليَوْمِيّة بارتفاع الأسعار، وبانخفاض القيمة الحقيقية لدخل الأفراد، وباعت معظم الدول العربية، ومنها المغرب، الأُصول (أي خصخصة ممتلكات الدّولة والشعب)، والسّندات، بالإضافة إلى الإقتراض المباشر، بهدف سدّ العجز في ميزانيات هذه الدّول، ويُشرف الدّائنون على طريقة إنفاق هذه القروض الخارجية، في غياب مؤسسات الرقابة الشعبية، والمحاسبة الداخلية، ولم تُسْتَخْدَم القُرُوض في الإستثمار في قطاعات إنتاجية (لو افترضنا أن الدّائنين يسمحون بذلك)، بل لسد العجز، وتمثلت شُرُوط صندوق النقد الدولي في إقرار سياسات التّقشُّف، وزيادة الضرائب على الرّواتب وعلى السلع الأساسية، مع خفض الضرائب على الثروات وعلى أرباح الشركات (ومعظمها شركات أجنبية)، وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض قيمة العُملة المحلية، ووَقْف التّوظيف في القطاع العام، بل وبيع القطاع العام أصْلاً، وتَضُرُّ سياسات التّقشف بالعاملين وبالفُقراء، بفعل زيادة الأسعار وإلغاء الدّعم، وخفض قيمة العملة المحلية، ما يُبرّرُ انطلاق الإحتجاجات بشكل شبه متواصل في المغرب وتونس والسودان ومصر (قبل موجات القمع الرهيبة) والأردن ولبنان والعراق، وهي دول يتّسم اقتصادها (مثل بقية الدول العربية) بالتّبَعِية لدول “المركز” الرأسمالي الإمبريالي، رغم، أو بسبب ثروة المحروقات في العراق. 

لم تستثمر الحكومات المغربية المتعاقبة، شأنها شأن الحُكومات العربية الأخرى، مبالغ الأموال المُقْتَرَضَة في القطاعات المُنْتِجَة، بل استخدمتها لسدّ العجز المُتراكم في ميزانية الدّولة، ما زاد من نسبة الدّيون من الناتج المحلي الإجمالي، ومن قيمة الأموال التي وجب تسديدها، فتضغط الحكومات، بأمر من الدّائنين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، على الفُقراء والأُجَراء، عبر برامج “الإصلاح الهيكلي” والتقشف وخفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة القطاعات والخدمات الأساسية، لتتحمل الفئات الشعبية، والعُمال والأجراء والفُقراء نتائج سياسات السلطات التي لم تستشر الشعب، وبعد انهيار الإقتصاد، يفلت الفاسدون واللصوص ومكونات السلطة من المُحاسبة والعقاب، ثم تَصُمُّ الحُكومات آذان الأُجَراء والفُقراء بالحديث عن “الشفافية” و”الحوكَمَة”…

خُصُوصِيّات اقتصاد المغرب 

الدّيُون: 

قَدّرت الحكومةُ قيمة الناتج الإجمالي المحلي المغربي بنحو 118 مليار دولارا سنة 2019، لنحو 35 مليون نسمة، بينما ارتفعت نسبة الدّيْن العمومي إلى حوالي 66,2% من الناتج الإجمالي المحلي، بحسب البيانات الرّسمية، وخلال النصف الأول من سنة 2020، طلبت حكومة المغرب سبعة قُرُوض خارجية، بقيمة تجاوزت ثلاثة مليارات دولارا، وقُدّرت حاجة الحكومة، سنة 2020، إلى قُرُوض خارجية أخرى، بقيمة تفوق 1,32 مليار دولارا أخرى،  ويقدّر البنك العالمي نسبة الفقر بأكثر من 25% ممن يعانون من الفقر أو يتعرضون للفقر، الذي ينتشر في المغرب، إلى جانب الأمية، وتفتقد المناطق الريفية للبنية التحتية وللخدمات الأساسية، كالمرافق الصحية والمدارس والماء والكهرباء والصّرف الصحي، ولذلك يحتل المغرب مرتبة سيئة (123) في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة… 

خَفّضت المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية) توقعاتها لنمو اقتصاد البلاد سنة 2019، عدة مرات، ليستقر عند 2,3%، بينما يقدّر صندوق النقد الدّولي نسبة النّمو المَرْجعِية لإدماج العاطلين عن العمل، بنحو 10% سنويا، طيلة عقد كامل، وتهيمن القطاعات الهشة وذات القيمة الزائدة الضعيفة (المعادن الخام، والسياحة والزراعة وصناعات تركيب قطاع الغيار أو النسيج) على اقتصاد المغرب، حيث يُشكل الفوسفات الخام (خصوصًا بفضل استغلال فوسفات الصحراء الغربية) والمواد الزراعية غير المُصنّعة والسياحة، وصناعات النسيج والجلد وتركيب قطع غيار السيارات والطائرات، الجزء الأكبر من صادرات البلاد، ويمثل القطاع الزراعي نحو 16,5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُشغّل نحو 40% من العاملين (أو ما يُسمّى “قُوّة العمل”) في البلاد. 

يتميز اقتصاد المغرب (كما معظم الدول العربية) بتفشي الفساد والرشوة واللصوصية، مع الإفلات من العقاب، بحسب بيان الجمعية المغربية لحماية المال العام (15 آذار/مارس 2020) ويُقيم بالمغرب عدد من كبار اللصوص والفاسدين والشّاذّين ومُغْتَصِبي الأطفال، من جميع أنحاء العالم، ومن بينهم المدير التنفيذي الأسبق لصندوق النقد الدّولي، الذي أسس شركة استشارات، يقع مقرها (عنوانها) بالمغرب، ولا تُشغّل أحدًا غيره وشريكه (صهيوني يتنقل بين تل أبيب والمغرب وفرنسا، قبل أن ينتحر إثر كشف قضية فساد هائلة، نفذها مع شريكه “دومنيك ستروس كان”)، وقدرت الأرباح الصافية لهذه الشركة بنحو 25 مليون دولارا، وهي مُعفاة من الضرائب، واستقال “ستروس كان” من منصب مدير صندوق النقد الدّولي، بعد انتشار خبر عديد الفضائح الجنسية وقضايا الفساد واستغلال السّلطة، وانتقل إلى الإقامة بالمغرب، حيث يمتلك محل إقامة فاخرة، وأدى انتشار الفساد، إلى احتجاج الجمعية المغربية لحماية المال العام، التي دعت إلى مسيرة وطنية في مدينة مراكش، يوم 15 آذار/مارس 2020، تحت شعار ”تجريم الإثراء غير المشروع، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومكافحة الفساد مدخل أساسي للتنمية

من جهتها أشارت المُديرة التّنفيذية لصندوق النقد الدّولي (كريستالينا جورجيفا)، خلال أول زيارة لها للمغرب، خلال الأسبوع الأخير من شهر شباط/فبراير 2020، أن نسبة البطالة والفقر لا تزال مرتفعة، وتجدر الإشارة أن شرُوط صندوق النقد الدّولي تُؤَدِّي دائما إلى ارتفاع نسبة البطالة والفَقْر، وأعلنت أيضًا أن سياسة الدولة تفتقر إلى الشفافية، وتتميز بالفساد، ويُشكّل هذا التّصريح مُنعطَفًا، إذ اعتادت الحكومات المغربية على طمس الحقائق، بدعمٍ وإطْراءٍ من بعثات الدّائنين…    

ارتفعت قيمة الدّيون الخارجية بما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولارا، سنة 2018، لتزيد عن خمسين مليار دولار، بحسب البيانات الحكومية، ليرتفع حجم خدمة الديون الخارجية إلى نحو 4,3 مليار دولار في تقديرات ميزانية 2020، ونشر عضو لجنة برلمانية بيانات أخرى، مفادها أن مجموع ديون البلاد يفوق ما أعلنته الحكومة، وأن المؤسسات المالية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمصرف الإفريقي للتنمية…) تفرض شروطاً مجحفة على المغرب وكل الدول الأخرى، ليتحكم الدّائنون في القرارات التي تخص الميزانية والضرائب والنفقات وأجور الموظفين،  في إطار “برنامج الإصلاح الهيكلي”، الذي يولي أهمية خاصة لخفض الإنفاق الحكومي، ولضمان تسديد الديون، على حساب احتياجات الشعب والفقراء والأُجراء، وأنتجت هذه السياسة، في المغرب كما في بلدان أخرى، تعميق الفجوة الطبقية بين الأثرياء والفُقراء، وارتفاع عجز ميزانية الدولة سنة 2019، بنسبة 14,2% مقارنة بسنة 2018، وبلغت قيمة العجز نحو خمسة مليارات دولارا، رغم ارتفاع حجم الضرائب على الرواتب والضرائب غير المباشرة على استهلاك السلع والخدمات، وكان شُيُوخ الخليج قد وعدوا ملك المغرب (كما ملك الأردن) بدعم مالي، بقي وهْمِيًّا أو افتراضيًّا، ولم يوف الخليجيون بوعودهم، للسنة الثالثة على التوالي… 

يمكن تلخيص الوضع، بنهاية النصف الأول من سنة 2020، من خلال برقية لوكالة “رويترز”، تَضَمّنَتْ بيانات رسمية، إذ توقعت “المندوبية السَّامِيَة للتخطيط” (جهاز رسمي) يوم الأحد الخامس من تموز/يوليو 2020، انكماش الإقتصاد، بسبب تَبِعات جائحة “كوفيد 19″، وكتبت وكالة رويترز ( 07/07/2020)  أن الديوان الملكي يتوقع أن تبلغ نسبة عجز الميزانية 7,5% وأن يَنْكَمِشَ اقتصاد البلاد (أو النّاتج الإجمالي المَحَلِّي)، سنة 2020، بنسبة 5%، أي أن يكون النّمُو سلْبِيًّا بنسبة 5%، مقارنةً بسنة 2019، بسبب انخفاض الإستثمارات الأجنبية، وانخفاض إيرادات الصادرات والسياحة والتحويلات المالية للمغاربة المقيمين بالخارج، واقترضت الحكومة أكثر من أربعة مليارات دولارا، من الخارج، خلال النصف الأول من سنة 2020، ليس بغرض استثمارها في قطاعات منتجة، وإنما لتمويل عجز الميزانية، ويتوقع المصرف المركزي المغربي ارتفاع الدّيْن الحكومي من 65% سنة 2019، إلى 75,3% من الناتج الإجمالي المحلي، سنة 2020، وهي توقّعات دون الواقع، بحسب بعض وسائل الإعلام والنقابات المغربية…   

الفقر في المغرب: 

تتضمّن هذه الفقرة مُلخّصات لمحتوى العديد من التقارير، وفق تسلسلها الزمني، بين أيار/مايو 2019 و 15 آب/أغسطس 2020، ورغم طول هذه الفقرة، فإن قراءتها تُبَيِّنُ التدهور السريع للوضع، مع غياب أُفُق معالجتِهِ من قِبَل الحكومة، التي يُديرها الإخوان المُسلمون، ويُشرف عليها القَصْر المَلَكِي.   

أشار تقرير نشرته الأمم المتحدة في شهر أيار/مايو 2019 عن الفقر، إلى أن المغرب هو أحد أهم البلدان العربية التي يعاني سُكّانها من الفقر، بتصنيفاته الثلاث (من الفقر المُدْقع والفقر متعدد الأبعاد إلى الفقر النّسبي)، وتصل نسبة الفُقراء والمُهَمَّشين إلى حوالي 60% من السّكّان المحرومين من عدد من الحُقُوق، كالتعليم والصحة والحق في العمل والسكن، وغير ذلك، ويحتل المغرب المركز 123 في تصنيف مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة (من إجمالي حوالي 189 دولة في العالم، سنة 2018)، وتُشير تفاصيل التّقرير إلى حرمان أطفال الفُقراء من وسائل الترفيه والمُطالعة، وإلى تسَرُّبهم من المدارس، للعمل ومساعدة الأسرة، وقدرت اليونسكو أن 7,5% من الأطفال يُغادرون المدرسة، قبل نهاية مراحل التعليم الأساسي، وأن نحو 2,5 مليون طفل، معظمهم من الفتيات الريفيات، محرومون من الذهاب إلى المدرسة، وأن 83% من النساء في المناطق الريفية لا يزلن أميات، ويؤدّي الفقر وحرمان البنات الفقيرات من التعليم إلى ارتفاع حالات الزواج المبكر للقُصّر، لِيَبْلُغَ معدلها 16% من حالات الزواج، بينما لا تتجاوز النسبة 2% في تونس و 3% في الجزائر، ولا تتجاوز نسبة الذين تمكّنوا من الدّراسة في التعليم العالي 32%، فيما تفوق النّسبة 81%، في أوروبا الشمالية، على سبيل المُقاربة… 

يُقَدِّرُ التقرير أن 18% (ستة ملايين مواطن يعانون الفقر المدقع)، أو حوالي مليون مغربي ومغربية يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، وأن خمسة ملايين مغربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (بنهاية سنة 2019)، وفقًا لتقرير البنك العالمي، ويعيش حوالي ثمانية ملايين مواطن، أو ما يعادل 25% من السّكان، على عتبة الفَقْر، فيما يتهدَّدُ الفَقْرُ حوالي 40% من السّكّان البالغين، أو حوالي 13 مليون شخص، بسبب احتمال تعرّضهم لفقدان العمل أو للمرض وما إلى ذلك، وتعتمد تصنيفات الفقر متعدد الأبعاد، الدّخل الفردي اليومي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السّنوي والحق في التعليم والرعاية الصحية، ونسبة البطالة والأمل في الحياة عند الولادة، ووفيات الأمّهات بسبب الحمل أو الولادة، وتصل نسبة الوفيات في صفوف الأمهات بالمغرب إلى 121 امرأة لكن مائة ألف نسمة، بينما لا تتجاوز في النرويج التي احتلت الصدارة 5 نساء لكل مائة ألف نسمة... 

نشرت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، بيانات بخصوص نسبة انتشار الفقر في المغرب، ووَرَدَ في تقريرها الذي نُشِر في نيسان/ابريل 2019، إن حوالي 38% من الأطفال المغاربة الذين تقل أعمارهم عن 17 سنة يعانون الفقر متعدد الأبْعاد، فهم محرومون من التعليم، أو لم ينهوا مرحلة التّعليم الإبتدائي، ومحرومون من التأمين الصحي والطّبابَة، ومن المياه النّقِيّة، والسّكن اللائق، وخدمات الصرف الصحي، ويُسْتَشَفُّ من التّقرير تدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي والبيئي والثقافي ( أو ازداد تدهورًا)، منذ 2012، خلال فترة حُكْم الإخوان المسلمين (حزب العدالة والتنمية)، ما أدّى إلى زيادة حجم ونسبة الفقر… 

أما “المُنظّمة الديمقراطية للشغل” ( إحدى نقابات الأُجَراء )، فقد أصْدَرَتْ، في بداية سنة 2020، تقريرًا بعنوان “الحصيلة الإجتماعية بالمغرب لسنة 2019″، تَضَمّن مُعطَيات عن الفقر، اعتمادًا على تقارير الأمم المتحدة والبنك العالمي، وأوْرَدْنا بعضًا منها في الفقرات السابقة، ومنها أن تسعة ملايين مواطن كانوا مُهدّدين بالفقر المدقع، سنة 2018، وأن أكثر من 45% من المغاربة “يعانون من الحرمان الشديد”، ونسب التقرير إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 13,2% من المغاربة “معرضون للفقر متعدد الأبعاد” فيما يعاني 25,6% من الفقر المرتبط بالظروف الصحية (المرض مع العجز عن العلاج، والإعاقة…) ويعاني 32,2% من الفقر المرتبط بمستوى المعيشة، و 42,1% من ضُعْف مستوى التعليم، ما يُعيق فُرَصَ التّدريب والتّأهيل واكتساب المهارات الخ. 

تَعَرَّضَ تقريرُ المنظمة الديمقراطية للشغل إلى اتساع الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، وهبوط مستوى عيش الأُجَراء والفئات المتوسِّطَة، وإلى التفاوت الطبقي بين خُمُس ( 20% ) السكان الأكثر ثراءً، وخُمُس (20% ) الموطنين الأشَدّ فقرًا، وأن 5% من السّكّان يستحوذون على نسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي، واستَنْتَجَ تقرير الإتحاد النقابي (المنظمة الديمقراطية للشغل) أن المغرب يعرف أعلى مستوى للفوارق في المغرب العربي، إذ تضاعف حجم الناتج الإجمالي المحلي، ثلاث مرات، خلال عِقْدَيْن (من 1990 إلى 2019)، إلا أن 10% من الأكثر ثراء، يتمتعون بمستوى معيشة أعلى 12 مرة، من مستوى معيشة 10% لأكثر فقرا، وهو فارق لم يتراجع منذ 1990، بحسب النقابة التي أكّدَ تقريرها على انخفاض القيمة الحقيقية للرواتب، وعلى الفوارق الهامة في الرواتب والمعاشات حيث تتجاوز رواتب ومُكافآت الفئات العُليا (مُديرين وموظفين حكوميين سامين) 35 مرة الحد الأدنى للأجر والمعاش، مع استمرار الضغط الضريبي على الأجور والمرتبات والاقتطاعات، التي تُشكل نحو 80% من إيرادات الرّسُوم والضرائب التي تَجْبِيها الدّولة، عبر الضرائب غير المباشرة، والضريبة على الدّخل، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية، بينما لا تُشكل الجباية من الشركات و”الأعمال الحُرّة”، ومن الأثرياء، سوى 20% من إجمالي إيرادات الرُّسُوم الضّرِيبية… 

أما بخصوص الطبقة العاملة، فقَدّر التقرير النقابي أن 72% من العمال والعاملات بالقطاع الخاص، محرومون من عقود العمل، ولا يُصرح أرباب العمل “للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي”، سوى بثلاثة ملايين ونصف مليون عاملة وعامل، من إجمالي 11 مليون من العاملين بالأجر، وتَتَواطَأُ الحكومة مع أرباب العمل الذين لا يحترمون القوانين المحلية، ولا يُطبّقون مضمون اتفاقيات منظمة العمل الدولية بخصوص تحقيق المُساواة في الأَجْر، وظروف العمل الخ. 

نشرت الأمم المتحدة تقريرًا، يوم الخميس 02 نيسان/ابريل 2020، بعنوان “التأثير الاجتماعي والاقتصادي لوباء كوفيد19 على المغرب”، اعتمد بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واللجنة الاقتصادية لإفريقيا، والبنك العالمي، ويتوقع مُحرّرو التقرير أن ترتفع نسبة الفقر في المغرب إلى 27%، وأن يلتحق عشرة ملايين مواطن بصفوف الفُقَراء، بسبب “ارتفاع الإنفاق الإجتماعي والاقتصادي المرتبط بكوفيد 19 وانخفاض الإيرادات الضريبية، خاصة من ضرائب شركات النّقل والتّجارة والسّياحة والخدمات اللوجيستية، وسوف يَتأثّرُ المواطنون القريبون من خط الفقر، لينخفض دخل الأسرة الواحدة إلى حوالي 5,5 دولارا، يوميًّا (أو حوالي 56 درهمًا مغربيا) ويلتحق هؤلاء بصفوف الفُقراء، مع الإشارة أن الأُسْرة التي تُنفق 3,2 دولارا يوميا (33 درهما مغربيا) تُعدّ في باب “الفُقر المُدقع”، ويتوقّع مُعِدّو التقرير أن “يلتحق حوالي 300 ألف مغربي إضافي بصفوف الفقراء”، وأن يتضرر الاقتصاد المغربي بشدة، بسبب الجفاف، وانخفاض النشاط الإقتصادي، مُتأثِّرًا بتبَعِيّتِهِ لأوروبا، الشريك التجاري الرئيسي للمغرب، واعتماد الاقتصاد المغربي بشكل كبير على صادراته إلى أوروبا، وعلى السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر 

في منتصف شهر آب/أغسطس 2020، أكّدَ تقرير مشترك  صادر عن المندوبية السامية للتخطيط ومنظمة الأمم المتحدة والبنك العالمي، بعنوان “مذكرة استراتيجية بشأن الأثر الاقتصادي والاجتماعي لجائحة كوفيد 19″، زيادة حدة الفقر في المغرب، وارتفاع عدد المتضررين من جائحة الفيروس التّاجي “كورونا” إلى أكثر من مليون مواطن، وأن يصل معدل انتشار الفقر إلى 20% بنهاية سنة 2020 (بدل نسبة 18% التي كانت متوقعة في شهر نيسان/ابريل 2020)، بسبب ارتفاع عدد العمال غير الرسميين، الذين يفتقرون إلى شبكات التأمين الاجتماعي والصحي، والمُعَرَّضِين للبطالة وللفقر والمرض، وأشار التقرير، من خلال مَسْحٍ وطني (نيسان/ابريل 2020) إلى تخلّي 30% من الأسر على خدمات الاستشارة قبل الولادة وبعدها (33%في المناطق الريفية)، كما اضطرت 36% من الأسر إلى التخلي عن خدمات تطعيم الأطفال ضد بعض الأمراض الخطيرة كالشلل (43% في المناطق الريفية مقابل 31% في المناطق الحضرية، وهي بعض مُؤشّرات الفَقْر…   

المغرب في ظل حقبة “العَوْلَمة”: 

سبق أن تَدَخّل صندوق النقد الدّولي، في بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، إثْرَ عَجْزِ الدولة المغربية عن تسديد القيمة المُرتفعة لخدمات الدّيْن الخارجي، للمصارف وللدّول الأجنبية الدّائِنَة، وفَرَضَ صندوق النقد الدولي برنامجًا ل”الإصلاح الهيكلي” لفترة عشر سنوات، من 1983 إلى 1993، وتَضَمّن تطبيق “الإصلاح الهَيْكَلِي” خصخصة القطاع العام والمرافق، وخفض الإنفاق الإجتماعي وتجميد الرّواتب وخفض قيمة دَعْم المواد والخَدمات الأساسية، وكان ذلك سببًا مُباشرًا لانطلاق ثلاث انتفاضات شعبية، خلال عقد واحد، وشمل “برنامج الإصلاح” القطاع الفلاحي (خفض دعم صغار المزارعين، و”تحرير” القطاع) ما أدّى إلى إفلاس العديد من صغار الفلاحين، واستحواذ الشركات الرأسمالية على الأراضي الخصبة والمياه، وتوسيع رقعة زراعة الإنتاج النباتي والحيواني، المُعَدّ للتصدير، بدعم من الدّولة، ثم انضَمّ المغرب، سنة 1995، إلى منظمة التجارة العالمية، وَوَقَّعَ اتفاقيات “التبادل الحر”،  دخلت حيز التنفيذ سنة 2000 مع الاتحاد الأوروبي، وسنة 2006 مع  الولايات المتحدة الأمريكية، وهي نموذج لعلاقات الهيمنة الإستعمارية، وللتّبادل غير المتكافئ، وتسمح هذه الإتفاقيات للشركات العابرة للقارات بالإستثمار في أي قطاع بالمغرب، مع خُرُوج الأرباح، وهي (الإتفاقيات) إحدى أسباب تهديد أو فقدان الأمن الغذائي، وارتفاع عجز الميزان الغذائي، خلال الفترة 2008 – 2018، وزيادة توريد الحبوب، وتَخَصُّص الفلاحة المغربية في تصدير الطماطم والحمضيات، غير المُصَنَّعَة، مع بقاء القسم الأكبر من قيمة الصادرات بالمصارف الأجنبية…  

***** 

موريتانيا  

بين واقع الفَقْر الحالي ووُعود مُستقبل الغاز    

تُمثّلُ هذه الورقة الحلقة الخامسة والأخيرة من مجموعة مقالات عن بلدان المغرب العربي، كانت المقالة عن ليبيا أَقْصَرَها، بسبب الوضع الخاص، وركّزب المقالات الأخرى عن الوضع الإقتصادي والسياسي والإجتماعي في الجزائر وتونس والمغرب، وينطبق نفس المنهج على موريتانيا في هذه الورقَة    

نبذة تاريخية:  

احتلت القوى الأوروبية الصاعدة (إسبانيا والبرتغال وهولندا وبريطانيا…)، السواحل الموريتانية، على المحيط الأطلسي، منذ القرن الخامس عشر، بهدف إقامة محطّات تجارية بَحْرِيّة، ومَحَطّات لتجارة العبيد ونقلهم بكثافة، إي أكثر من 12 مليون إفريقي، مات حوالي 30%منهم، خلال نقلهم في ظروف سيئة جدًّا وغير إنسانية، من إفريقيا الغربية إلى القارة الأمريكية، وَوَرثت موريتانيا الحديثة هذه المأساة الإنسانية (وجُذُورها اقتصادية وثقافية في واقع الأمر)، وبدأ الإحتلال الفرنسي يحتل مواطئ قدم، في موريتانيا، منذ سنة 1858، ليتمدّد بداية من سنة 1881 (تاريخ استعمار تونس) وَتَواصَل الإحتلال تدريجيًّا، لِيكتمل بإعلان موريتانيا “منطقة إدارية تابعة لفرنسا” سنة 1920، وانطلقت حركات مقاومة الإستعمار، منذ مراحله الأولى، وبعد اكتمال الإحتلال، فَصَل الإستعمارُ الفرنسيُّ موريتانيا عن بقية بلدان المغرب العربي، وربَطَها سياسيا وإداريا واقتصاديا، بالسينغال، في إطار سياسة الإستعمار الفرنسي التقليدية للتفريق بين مختلف مُكوّنات السّكّان، ومحاربة اللغة والثقافة العربية، وبقيت مثل هذه المشاكل تُعَرْقِلُ النشاط السياسي والثقافي، والتنمية في البلاد، وتُساهم في عَرْقَلَةِ تماسك مختلف فئات الشعب، إلى غاية اليوم، لتستغلها الإمبريالية الفرنسية (وغيرها)، عبر المنظمات المُسمّاة “غير حكومية”، أو منظمات الدّفاع عن حقوق الإنسان، خاصة خلال فترات المفاوضات بشأن استغلال أوروبا للثروة البحرية الضخمة في سواحل موريتانيا، أو بشأن تحوير اتفاقيات “التجارة الحرة”، كما أجّجَت الإمبريالية الفرنسية الصراع الدّاخلي، وحوّلته إلى صراع “طائفي”، بعد إقرار إجبارية اللغة العربية في التعليم، (شباط/فبراير سنة 1966)، ثم دعمت الدّولة الفرنسية (بمختلف مؤسساتها) الدّعوات الإنفصالية، وبثّ التلفزيون الفرنسي (القناة الثالثة – قطاع عام) تقريرًا عن العبودية في موريتانيا، بمناسبة سباق السيارات، سنة 1998، وهي كلمة حق أُرِيدَ بها باطل، وإثارة مشكل اجتماعي موريتاني، باستغلال حدث “رياضي”، لا يخدم سوى شركات صناعة السيارات الفرنسية والعالمية، التي تختبر مُحركاتها وسياراتها، سنويًّا، في الأراضي الإفريقية، حيث يُخلّف هذا الحدث عدة ضحايا، خاصة من الأطفال.   

استقلّت موريتانيا عن فرنسا استقلالاً شكلِيًّا، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1960، ضمن جملة الإستقلالات الشكلية للمستعمرات الفرنسية في إفريقيا، وبقيت موريتانيا تعتمد الفرنك الإفريقي (المرتبط بالفرنك الفرنسي والمصرف المركزي الفرنسي) حتى سنة 1973، سنة إصدار موريتانيا عُملتها “أُوقِيّة”، بدلاً عن الفرنك الإفريقي، في حزيران/يونيو 1973 ، سنة انتماء موريتانيا إلى الجامعة العربية، في كانون الأول/ديسمبر 1973، لكن لم يتغيّرْ وضْعُ الهَيْمَنَة الإمبريالية عليها.  

لم يعترف المغرب باستقلال موريتانيا (تعتبرها الأُسرة المالكة جزءًا من المغرب) سوى في أيلول/سبتمبر سنة 1969، عندما بدأ الحديث عن احتمال انسحاب جيش إسبانيا من مستعمرتها “الصحراء الغربية”، فانعقد لقاء ثلاثي بين ملك المغرب والرئيسين الجزائري والموريتاني، في مدينة “نواذيبو” الساحلية الموريتانية، سنة 1970، “لمناقشة قضية الصحراء الغربية”، ثم تورّطت دولة موريتانيا في مخططات الملك المغربي “الحسن الثاني”، لاحتلال الصحراء الغربية، والسيطرة عليها وعلى ثرواتها المنجمية والبحرية، بعد الإتفاق مع إسبانيا الذي أبْعَدَ الجزائر (تشرين الثاني/نوفمبر 1975)، وتمثل في عقد صفقة خروج إسبانيا من الصحراء الغربية ( الساقية الحمراء ووادي الذهب) الغنية بالفوسفات وبالموارد البحرية، وتقسيمها بين المغرب وموريتانيا، وسيطر المغرب على كافة الثروات، وجنّد الملك معظم الأحزاب (بما فيها التي تَدّعي الإشتراكية) والنقابات، في حملة شوفينية ضد الجزائر، وحصدت موريتانيا هجمات “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” (المعروفة باسم “بوليساريو”)، على العاصمة الموريتانية “نواق الشّطّ”، فتدخّل الطيران الفرنسي، لصد الموجة الثالثة من هجمات “بوليساريو” سنة 1977، على العاصمة الموريتانية، واضطر الجيش الموريتاني لمغادرة الصحراء وتسليمها للجيش المغربي، سنة 1979…    

اقتصاد موريتانيا: 

 تُشيرُ بيانات البنك العالمي إلى ضُعْف اقتصاد موريتانيا، حيث لم يتجاوز حجم الناتج الإجمالي المحلي ثمانية مليارات دولارا، سنة 2019، أو ما يقِلُّ عن 1200 دولارا سنويا للفرد (متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي)، وبلغت نسبة النمو 3,6% سنة 2018، مقارنة بسنة 2017، غير أن نسبة التضخم مرتفعة، ما يخفض من القيمة الحقيقية للدخل وللرواتب، وما يرفع من نسبة الفقر إلى حوالي 40% من سكان البلاد.  

تُعتبر موريتانيا بلدًا فقيرًا، بحسب مؤشرات التنمية التي تعتمدها الأمم المتحدة، إذ لا يتجاوز معدل الأمل في الحياة 63 عامًا، ويقل الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد الواحد عن خمسين دولارا، فيما تقارب وفيات الأطفال الرّضّع، حديثي الولادة، نسبة خمسين وفاة لكل ألف ولادة حية، وهي نسبة عالية جدّا…  

تدلّ الآثار المتواجدة في مختلف مناطق البلاد على عراقة الحضارة في هذه الرقعة الجغرافية التي أصبحت تُسَمّى الآن “موريتانيا”، والتي غزاها المسلمون انطلاقا من القيروان (تونس) والمغرب الأقصى، بداية من سنة 734 (بدايات القرن الثاني للهجرة)، وأصبحت مدينة “شنقيط” مركزا ثقافيا وحضاريًّا هامًّا، خصوصًا خلال فترة حكم “المُرابطين”، بداية من القرن الخامس للهجرة، والذين امتد حُكْمُهُم حتى الأندلس، وأصبحت العربية لغة مهيمنة، بحكم الإختلاط بين مختلف المجموعات البشرية في البلاد التي كانت موقعًا تجاريا، بين شمال إفريقيا وجنوبها، وغربها، وسَهّل هذا الموقع تجارة العهبيد التي كان يمارسها الأثرياء من أوروبا الغربية بشكل مُكثّف، بتواطؤ الوُكَلاء من الأعيان المَحَلِّيِّين في مالي والسينغال الحالية وغيرها من بلدان غربي إفريقيا، وورثت موريتانيا المعاصرة تقاليد العُبُودية، واستعباد المواطنين من ذوي البُشرة السّوداء، لخدمة الأُسَر “البيضاء” (وهي “بُيُوضَة” نسبية جدًّا) في المنازل وفي المزارع، وهي ليست بالضرورة مزارع كبيرة، مثل المزارع الأمريكية التي تستخدم عشرات أو مئات العبيد، لكن العبودية نَخَرت المُجتمع، وقَوّضت تماسكه، وعمّقت الفوارق الطّبقية، ومَأْسَسَت دَوْرَ كل مجموعة سُكّانية في الإقتصاد والثقافة وحُكْم البلاد، ويُشكّل السّكّان السود حوالي 20% من السّكّان الذين تعود أُصُولُهُم إلى السينغال أو مالي، ويتكلمون لغات الولوف والسُّونِينْكِي، والبولار، ولئن كانت الدّيانة الإسلامية تُشكل قاسِمًا مُشتركا بين السّكّان، فإنها لا تمحو الفوارق الطبقية بين هذه المجموعات، ولم يَحْظُر القانون تجارة العبيد والرّق سوى سنة 1981، ولم يُجَرّم امتلاكهم سوى سنة 2007…  

لموريتانيا حدود بَرِّية طويلة (خمسة آلاف كيلومتر) على المناطق الصحراوية التي تقع على حدودها مع المغرب والجزائر ومالي، لذا يتميز المناخ بالجفاف، فهو مناخ صحراوي، وتعتبر موريتانيا من أكثر البلدان تصحُّرًا، حيث تبلغ نسبة الصاحري، حوالي 80% من الأراضي الشاسعة للبلاد (أكثر من مليون كيلومتر مربع)، ما يُفسِّر قِلَّة عدد السّكّان ( حوالي 4,5 ملايين، سنة 2019 )، وذلك رغم وجود نهر السينغال جنوبا، والمحيط الأطلسي الذي يحد البلاد غَرْبًا (حوالي 650 كيلومتر من الشواطئ)، والذي يحتوي ثروة سمكية هائلة، تستغلها السّفن الأوروبية (وغير الأوروبية) الضخمة، وفق اتفاقية الصيد البحري التي تفرضها أوروبا على المُستعمَرات السابقة، غربي إفريقيا، ويُشغل قطاع الزراعة وتربية المواشي قرابة نصف القوى العاملة، لكن إنتاجه ضعيف ومساهمته في الناتج المحلي الإجمالي متواضعة (أقل من 15% )، رغم الظروف المواتية في بعض المناطق الساحلية، رغم أهمية قطاع تربية المواشي، ويعتمد المزارعون في المناطق الحدودية على الفيضان الموسمي لنهر السينغال (الفاصل بين موريتانيا والسينغال) لزراعة الأراضي بالحبوب وبعض الخضروات، بالإضافة إلى منطقة الواحات التي تنتج التمور، وتسمح بتربية بعض الأغنام والماعز، فيما تزداد أهمية قطاع استخراج المعادن، لكن موريتانيا تُصدّر المعادن الخام (النفط والفوسفات والحديد والنحاس والذهب…)، ولا يتم تصنيعها وإضافة قيمة زائدة لها، على عين المكان، ويحتوي باطن الأرض على اليورانيوم والكوارتز وبعض المعادن الأخرى، بأحجام متواضعة.   

تُمثّل موريتانيا بلدًا ذا مناخ صحراوي، وكثافة سكانية ضئيلة، تبلغ 4,3 شخص فقط لكل كيلومتر مربع ، مقارنة بمتوسط يبلغ 44,9 في أفريقيا، ويعتمد الإقتصاد على الموارد الطبيعية، حيث شكلت منتجات الصيد والتعدين 98,1% من إجمالي الصادرات سنة 2018، بحسب تقرير البنك العالمي، الصادر في  آذار/مارس 2020، واعتبر تقرير اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، الصادر سنة 2016، الاقتصاد الموريتاني اقتصادا تقليديا، قليل التّنوُّع، يفتقر إلى رؤية استراتيجية، ويعتمد نموه على الموارد الطبيعية (الحديد، الذهب، النحاس، الفوسفات، الكوارتز اليورانيوم) بالاضافة إلى الثروة الحيوانية، والزراعة، والنفط والغاز، وهي قطاعات لا توفر وظائف مستدامة ولا تعتمد على الكفاءات، ويتطلب تطوير هذه القطاعات، زيادة الإستثمار الحكومي في البنية التحتية والبحث العلمي وتأهيل العاملين لاكتساب الخبرات الضرورية لتطوير هذه القطاعات، والتخفيف من حجم الإقتصاد الموازي…   

تُلَخِّصُ الوكالة الرّسمية الحكومية للأخبار (الوكالة الموريتانية للأنباء 27 أيلول/سبتمبر 2020) الأُسُس الإقتصادية، كما يلي: يعتمد اقتصاد موريتانيا على استغلال المناجم والصيد البحري، ثم قطاعات الزراعة والتجارة مع بلدان الجوار، وصادرات مناجم الحديد بمنطقة “زويرات”، والنحاس والذّهب في “أكجوجت”، والجبس في “أنرامشة”… أما القطاع الفلاحي (الزراعة وتربية المواشي) فيمثل حوالي 20%من الناتج المحلي الإجمالي (16% فقط بحسب البنك العالمي)، وتبقى موريتانيا بعيدة عن تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، رغم ضخامة الثروة السمكية، التي تستغلها الشركات الأوروبية، وتُسَجّلُ في موازنة الدولة في باب الصادرات…   

يُساهم قطاع المعادن والصناعات الإستخراجية بنسبة 25% من الناتج المحلي الإجمالي ونسبة 82% من الصادرات و23% من إيردات الخزينة، ولا يساهم قطاع الصناعة سوى بتشغيل 9 % والمعادن 2% من قوة العمل (القادرين على العمل)، ولذلك أفاد هذا القطاعُ الشّركاتِ الأجنبيّةَ (الكندية والأمريكية، بشكل خاص)، ولم يساهم في خفض حدة البطالة والفقر، رغم ارتفاع مساهمة الصناعة من 25% سنة 1995، الى 36 من الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2015، في حين انخفضت مساهمة الزراعة من 37% سنة 1995، إلى  23% سنة 2015، لكن الزراعة تشغل نسبة 50% من قوة العمل في معظم الولايات (المحافظات). أما بالنسبة لتركيبة قوة العمل، فإن نسبة المشاركة في سوق العمل، تُعْتَبَرُ مُتَدَنِّيَة بموريتانيا، حيث يبلغ حجم القوة العاملة، نحو 750 ألف شخص، ولا تتجاوز 43,5 % ولا تتجاوز نسبة مساهمة النساء 35%، ما يمثل اختلالا هيكليا كبيرا، إذ يُتَوقّع أن يلتحق سَنَويًّا، ما لا يقل عن 25 ألف شاب جديد بسوق العمل، حتى منتصف القرن الواحد والعشرين، ولاستيعابهم وجب توفير ما لا يقل عن مليون فرصة عمل، حتى سنة 2050، بحسب توقّعات البنك العالمي.    

تتبجح الدعاية الرسمية للدولة باندماج الإقتصاد في العولمة الرأسمالية، وسَرّعت الدّولة سياسة الخصخصة الواسعة للشركات الوطنية والمصارف والمرافق، خصوصًا منذ سنة 2000، ما خفض إيرادات الدّولة، وزاد من مصاعب المواطنين، وبقي الإقتصاد ضعيفًا، رغم إعلان الحكومة، منذ سنة 2000، عن وجود احتياطي هام للمحروقات، ورغم إعلان وجود احتياطيات هامة ومؤكَّدَة من الغاز، سنة 2018، في المياه الإقليمية بالمحيط الأطلسي، ورغم توقيع 14 رخصة للتنقيب عن النفط، سنة 2017، ورغم مُشاركة موريتانيا في مؤتمر عالمي للنفط البحري (هيوستن أيار/مايو 2018)، واستثمار بعض شركات الطاقة العالمية في مشاريع النفط والغاز بموريتانيا، يبقى الإقتصاد الموريتاني تقليديًّا وضعيفًا، ويعود أحد أسباب ضعفه إلى فَرْض قواعد اقتصاد السّوق الرأسمالي، في مجتمع فقير، حيث لا يزال المواطن يعتمد بشكل كبير على اقتصاد الكفاف من الزراعة والرّعي، ويعود الضُّعْف كذلك إلى غياب التخطيط الحكومي لتطوير عملية تحويل وتصنيع إنتاج الصيد البحري، والمعادن، وإضافة قيمة زائدة لهذه السّلع، بدل تصدير الإنتاج الخام الذي انهارت أسعاره في الأسواق العالمية، بانهيار أسعار النفط، منتصف سنة 2014، وتباطأ الإقتصاد الموريتاني، منذ سنة 2015، ثم انخفض الطلب على المواد الأولية إلى أدنى مستوى، مع استفحال أزمة الفيروس التاجي (كوفيد 19)، فتعرض اقتصاد البلدان المُصدّرة للمواد الخام إلى صدمة، قد تستمر سنوات، واستغل صندوق النقد الدّولي هذه الفُرصة ليفرض على الدول الفقيرة، مثل موريتانيا “تحرير الإقتصاد وتحسين مناخ الأعمال وإزالة الحواجز القانونية والإدارية أمام المُستثمرين (أي الرأسماليين الأجانب بشكل خاص)، وتعزيز المنافسة…”، ما يعني تعزيز وتعميق التّبَعِية.   

في أَوْج الأزمة الإقتصادية المُصاحبة لانتشار وباء “كوفيد 19″، أعلن رئيس الحكومة الموريتانية، في بداية شهر أيلول/سبتمبر 2020، أن التوقعات تُشير إلى تراجع الإقتصاد إلى نحو – 3,2% (سالبة) على الأقل، بنهاية سنة 2020، وإلى اقتراب نسبة التضخم من 4%، “بسبب تداعيات جائحة كورونا”، وبلوغ عجز الميزانية نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب “تباطؤ النشاط الإقتصادي وارتفاع النفقات وانخفاض حجم الإيرادات”، وأعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، في خطاب بثه التلفزيون الرسمي، (الإربعاء 02 أيلول/سبتمبر 2020) “إن جائحة كورونا كشفت عن ضعف هيكلي حاد في المنظومة الاقتصادية، وأظْهَرت الحاجة لتنظيم الاقتصاد وتوجيه الاستثمار وتنمية الإنتاج، وتحقيق مستوى عالٍ من الاكتفاء الذاتي…”، لكن الإجراءات التي أعلن عنها تسير في اتجاه مُعاكس للتنمية وتحقيق الإكتفاء الذّاتي، ولا تُفيد العاملين والكادحين والفُقراء، بل سوف لن يستفيد سوى الأثرياء من إنفاق الدّولة حوالي 666 مليون دولارا، بذريعة “تنشيط الإقتصاد”.    

البطالة والفقر سنة 2020:   

لا تنتج موريتانيا حاليا سوى خمسة آلاف برميل يوميا، من النفط الخام، وكميات صغيرة من الغاز الطبيعي، لكن رئيس الحكومة أعلن يوم 29 كانون الثاني/يناير 2020، أن موريتانيا سوف تُصبح مُصدِّرًا للغاز، سنة 2022، بعد اكتشاف كميات كبيرة في المياه الإقليمية الموريتانية بالمحيط الأطلسي، قُدّرَت بنحو خمسين تريليون قدم مُكَعَّب، وبدأت شركات الطاقة العابرة للقارات (“بريتش بتروليوم” و”إنرجي” و”إكسون موبيل” و”توتال”) تُبْدِي بعض الإهتمام الحَذِر بثروات البلاد، وحصلت هذه الشركات البريطانية والأمريكية والفرنسية على عُقُود للتنقيب عن النّفط والغاز، في مناطق عديدة، أهمها حقل غاز مُشترك مع السينغال… لكن في انتظار هذه الثروة المَوْعُودة، يُعاني سُكّان البلاد من البطالة والفقر…   

تُعتبر نسبة التَّمَدْرُس (نسبة الدخول للمدرسة ممن بلغوا سن الدراسة) ضعيفة في موريتانيا، ولا تتجاوز 55%، ينهي نحو 71% منهم مرحلة التعلم الأساسي، ولا يصل التعليم الإعدادي سوى 33% من إجمالي المُسجَّلِين، ولا يصل منهم سوى 5% للتعليم العالي، وكانت اللغة الفرنسية طاغية حتى سنة 1989، وهي ليست “اللغة الأُمّ” لسكان البلاد، بل لُغَةَ المُسْتَعْمِر، ما يُساهم في ارتفاع نسبة التّسرّب من المدارس، وفي ضُعف مستوى المُتَعَلِّمِين من أبناء الفُقراء، وفي تعميق التّبَعِيّة والإغتراب.     

البطالة:    

تُعرّف منظمة العمل الدولية المُعطّل عن العمل بأنه الشخص الذي بلغ سن القدرة على العمل (من 15 إلى 64 سنة تقريبًا)  ويبحث عن عمل بالأجر السائد، ولم يحصل على عمل، ويُعرّف الباحثون “العاطل المُحبط” بأنه الشخص الذي يَئِسَ، وتخلَّى عن البحث ، خصوصًا في فترات الكساد الإقتصادي، ولذلك يضطر العديد من المواطنين للعمل بدوام جُزْئي، اضطرارًا وليس اختيارًا، أما أرباب العمل فإنهم يغتنمون فرصة ارتفاع أعداد العاطلين لزيادة عدد ساعات العمل، وخفض الرواتب، وفرض شروط عمل سَيِّئَة.  

عرفت البلاد سنوات عجاف بسبب الجفاف، خلال عقْدَيْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، واضطر الرّيفِيُّون الذين فقدُوا مورد رزقهم، من الأرض والمواشي، للهجرة إلى المُدُن، ليلتحقوا بصفوف الفُقراء والمُهَمّشين والمُعَطَّلين عن العمل. أما الحكومات المتعاقبة، قبل انقلاب 1978، أو بعده، فلم تهتم بمشاغل وهموم الفُقراء والعاملين، فارتفعت البطالة والفقر، ووافق البنك العالمي على قروض استخدمتها الحكومة لتمويل بعض الشركات وأرباب العمل، في إطار “البرنامج التّعاقُدِي” مع “وكالة تشغيل الشباب”، أي أن الدّولة (ليس في مورتينيا فقط وإنما في عديد البلدان الأخرى) تمنح أرباب العمل أموالاً لتسديد أجور منخفضة لعدد من الشّبّان العاملين بعقود مؤقتة ولا تُساهم في تحسين تدريبهم، أو تقديم إضافات إلى مؤهلاتهم وخبراتهم.      

يرى العديد من الملاحظين والباحثين والخُبراء أن الأرقام الرسمية، أو التي تنشرها بعض المنظمات الدّولية، مثل البنك العالمي، لا تعكس واقع البطالة والفقر في البلاد، خصوصًا في أوساط سكان الأرياف، والشباب، وتشير البيانات إلى ارتفاع معدّل البطالة، من 21%سنة 1991، إلى 33% سنة 2011، وإلى 35%سنة 2018، بحسب بيانات منظمة العمل الدّولية، أما أرقام الحكومة فتطرح من قائمة العاطلين كلَّ مَنْ عَمِلَ ساعةً واحدةً في اليوم، أو يوما واحدا في الأسبوع، وأشارت بعض الدّراسات الإقتصادية لباحثين محلِّيِّين أن القطاع الحكومي لا يُشغل سوى 3% من القوى العاملة، وأن حوالي 85%من العاملين بالبلاد يشغلون وظائف مؤقّتة وهَشّة وغير منتظمة، ولا حقوق لهم، ولا تشملهم المظلّة الإجتماعية والتّأمين الصّحّي، وكان العمل في القطاع غير المُنَظّم يقتصر، قبل عقدَيْن أو ثلاثة، على الأُمِّيِّين أو من غادروا منظومة التّعليم مُبكِّرًا، وتغيّر الأمر، في موريتانيا كما في العديد من البلدان العربية الأخرى، فأصبح المُتعلِّمُون وخريجو الجامعات يشتكون من انسداد آفاق التوظيف، ويضطرّون للعمل في القطاع المُوازي، برواتب متدنّيَة وبدون حماية اجتماعية وصحّيّة، ولا تُشير سياسات الحكومة الحالية إلى الإهتمام بمسائل هامة كالفقر والبطالة، عبر الإستثمار في المشاريع المنتجة، والتي تستوعب أعدَدًا كبيرة من العاملين، مثل الفلاحة، والصيد البحري والصناعات الغذائية والصناعات التحويلية، وأشار تقرير منظمة العمل الدولية (سنة 2018) إلى ضرورة إقرار برامج قادرة، على الأقل، على استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق الشغل، ولكن لا يمكن للأنظمة التي أغرقت البلدان بالدّيون (في موريتانيا، كما في المغرب أو تونس أو مصر أو الأردن…) وفتحت الباب على مصراعيْه للشركات العابرة للقارات، أن تكون مُستقلة في قراراتها، وقادرة على إقرار سياسات وطنية وتقدّمية تقضي على الفساد وعلى الفقر والبطالة والأُمِّيّة، فهي أنظمة تُطبّق برامج الإصلاح الهيكلي، التي فَرَضها الدّائنون، منذ ثمانينات القرن العشرين.  

قَدّرت منظمة العمل الدّولية، سنة 2015، نسبة البطالة في موريتانيا بأكثر من 30%، ولم يتوقّع التقرير انخفاضها، بسبب غياب المخططات الجِدِّيّة والإستثمارات والجُهُود لمكافحتها، وقَدّر باحث جامعي موريتاني، أشرف على مَسْحٍ بَحْثِي، أن معدّل البطالة (خلافًا لادِّعاءات الحكومة) تجاوز 35% سنة 2018، وأكّد تقرير منظمة العمل الدّولية هذه النّسبة، سَنَتَيْ 2018 و 2019، مع ارتفاع نسبة المُعَطّلين من الشباب ومن أصحاب الشهادات (كالطّب والهندسة)، بحسب حركة “كفانا بطالة” (جمعية أسّسَها الشُّبّان المُعطّلون عن العمل ) وبسبب عدم توفير القطاع الخاص للوظائف، رغم انحياز الدّولة والمؤسسات المالية الدّولية، ورغم الحوافز وخفض الضريبة على الشركات والأثرياء، وَاعْتَبَر تقرير لمنظمة العمل الدّولية أن موريتانيا مُصَنَّفَة ضمن الدول العشر الأولى من حيث ارتفاع معدّلات البطالة، وارتفاع حصة الإقتصاد الموازي من الناتج المحلِّي الإجمالي، وانخفضت مُشاركة القوى العاملة في العمل وفي الدّورة الإقتصادية الرسمية من أكثر من 50% سنة 2000 إلى حوالي 46% سنة 2019، بالتوازي مع ارتفاع مستوى البطالة عمومًا وبطالة الشباب والنساء، بشكل خاص، مع التذكير بعمل ما يزيد عن 55% من القوى العاملة سنة 2019، في قطاع الزراعة وتربية المواشي وصيد الأسماك، فيما لا تُشغل الصناعة سوى ما بين 9% و 11% من القوى العاملة.  

من جهة أخرى، كلّما ارتفعت ديون الدولة، زادت هيمنة البنك العالمي والدّائنين، وزادت شروطهم، وضاق هامش استقلالية سياسة الدّولة، وتَبَعِيّتها لرأس المال العالمي، أي للهيمنة الإمبريالية، ما يجعل الدولة تُعجّل بإقرار الخصخصة وبيع القطاع العام، والتفريط في الثروات للشركات العابرة للقارّات…     

الفقر:   

“يتخذ الفقر أشكالا متنوعة تتضمن انعدام الدخل، والموارد المنتجة الكافية لضمان مستوى معيشي لائق، وقد تتضمّنُ الجوع وسوء التغذية وسوء الوضع الصحِّي، والحرمان من السّكَن اللائق، والوصول المحدود أو المعدوم إلى التعليم وغيره من الخدمات الأساسية، وازدياد انتشار الأمراض والوفيات وانعدام المُؤَن، والعيش في بئة غير آمنة، والتمييز والابتعاد الاجتماعيين، كما أنه يؤدّي الفقر لانعدام المشاركة في صنع القرارات في الحياة المدنية والاجتماعية”، بحسب تعريف الأمم المتحدة للفقر (آذار/مارس 1999).   

تأثّرت موريتانيا بانهيار أسعار المواد الأولية، ومن بينها أسعار خام الحديد الذي تمثل عائداته ثلث الميزانية العامة لموريتانيا، كما عانت البلاد من الجفاف (من 2017 إلى 2020) ومن انعدام الأمن الغذائي، بالإضافة إلى تدفق حوالي ستين ألف من اللاجئين من “مالي”، جراء العدوان الفرنسي والأوروبي، والذي يُشارك جيش موريتانيا في تنفيذه، وأدّت موجة الجفاف التي انطلقت سنة 2017، إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والإنتاج النباتي (الحبوب والخضروات والفواكه) والحيواني (الحليب واللحوم والبيض والدّواجن…)، وأدّى الجفاف أيضًا، وضُعْف المخزون الغذائي، إلى إلحاق أضرار صحِّيّة كبيرة بالأطفال والنساء (خاصة الحوامل أو المُرضعات)، في ظل تدهور أو غياب الرعاية الصحية، فارتفعت نسبة الإصابة بسوء التغذية المزمن إلى حوالي 20% من الأطفال الذين تتراوح أَعْمارُهم بين ستة أشهر وستين شهرًا، سنة 2019، وأصبح حوالي 51% من سُكّان البلاد في حالة فَقْر “مُتعدّد الأبعاد”، بحسب تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة للعام 2019، بالإضافة إلى 31% من السّكّان الذين يعيشون تحت خط الفقر (أو في حالة فَقْرٍ مدْقَع)، وفق معايير البنك العالمي، أو لا يتجاوز دخلهم 1,9 دولارا في اليوم، سنة 2019…   

أسّست الدولة سنة 1998 مفوضية حقوق الإنسان ومكافحة الفقر، وتهدف دَمْج الفُقراء في النسيج الإقتصادي والإجتماعي، قبل نهاية سنة 2015، بدعم من منظمات دولية عديدة، لكن ميزانية هذه المفوضية ضئيلة جدًّا، ما جعل منها هيكلاً أَجْوَفَ، حيث أعلنت الدولة برامج طموحة (بدون ميزانية) “لفك عزلة بعض المناطق الريفية، ولتحقيق الأمن الغذائي في الريف، مثل توفير مياه الشُّرْب ودعم تنمية المواشي”، وغيرها، وفي الوسط الحَضَرِي أقرّت الدّولة مشروع التطوير الحضاري، لمساعدة الأُسر الفقيرة في المُدُن الكُبْرى، وبعد خمس سنوات من انتهاء الفترة التي حدّدتها الدّولة للقضاء على الفقر، لا يزال حجم الفقر يقدّرُ بنسبة 46% من السكان ويُقَدَّرُ انتشاره بنسبة 70% في الأرياف، ولم تظهر “إنجازات” المشروع الحكومي المُسمّى “استراتيجية النمو المتسارع والرفاه المشترك 2016/2030″، بل تُقَدّرُ التّقارير الأكثرَ تفاؤُلاً عدد الفُقراء بأكثر من مليون مواطن ومواطنة، أو قرابة 25% من السكان، سنة 2017، وأصدرت الحكومة عدة وثائق، تدّعي وضع خطَط لمحاربة الفقر، لكنها لا تخرج عن الإشهار والوُعُود والتّسْويف، وادّعت وزارة الإقتصاد (آذار/مارس 2017) أن الظروف المعيشية للسكان شهدت تحسُّنًا ملحوظًا، في مجالات التعليم والصحة والسّكن، وأن عدد الفُقراء في تناقص مستمر، بفضل برامج الدولة، وانخفضت نسبة الفقر، وفق البيانات الرسمية، من 44,5 % سنة 2008 إلى 33% سنة 2016، وخلال نفس السنة (2016)، ركّزَ تقرير “يونيسيف” التابعة الأمم المتحدة، على العلاقة بين الفقر، والإنقطاع المُبكِّر عن الدّراسة، حيث يتوجه أبناء الفُقراء للبحث عن القُوت، ووصف البنك العالمي وضْعَ التّعليم بموريتانيا بأنه “الأضْعَف عربيًّا”، حيث تُشكل النساء نسبة 65% من إجمالي عدد الأُمِّيِّين البالغ عددهم حوالي سبعمائة ألف مواطن ومواطنة، تجاوزت أعمارهم الخامسة عشرة، كما تعاني النساء من ارتفاع نسبة الوفاة بسبب الولادة إلى 582 وفاة، من بين كل عشرة آلاف ولادة حية، سنة 2013، وهو رقم مرتفع جدا، فيما تتّسم مؤسسات التعليم، بمختلف مراحله، بنقص البنية الأساسية وقاعات الدّراسة والتجهيزات، وانخفاض رواتب المُدَرِّسِين، وبازدواجية اللغة، وفَرْض اللغة الفرنسية، ويتسم التعليم الجامعي بانخفاض عدد الطلبة، حيث ترسل الدّولة العديد من الطلاب الجامعيين (خاصّة من أبناء الأعيان والأثرياء) للخارج، بمنحة حكومية، مُقَوَّمَة بالعملة الأجنبية، بارتفاع نسبة “المُتعاونين” إلى نحو 60% من إجمالي عدد الأساتذة، ولا توجد مؤسسات بحث علمي في مجالات الصيد البحري والزراعة والتّعدين، وهي من ركائز اقتصاد موريتانيا…  

تُحاول الحكومة خفض الأعداد الحقيقية للعاطلين عن العمل أو للفقراء، وتحاول الإلتفاف عليها، ولا تظهر الأرقام سوى جانب من أوجُه البطالة أو الفقر، لكنها تُساعد على تقريب الصّورة، وعلى فهمها، فقد تسبب الجفاف في تعميق الفجوة الغذائية، وفي انعدام الأمن الغذائي، وفي زيادة عدد المُواطنين المحتاجين للمساعدة الغذائية العاجلة، ليفوق عددهم 400 ألف مواطن، أو قرابة 8% من إجمالي سكان البلاد (حوالي 4,5 ملايين نسمة، سنة 2020)، ويمكن تصنيف نصف سُكان البلاد ضِمْنَ الفُقراء، يعيش ثلاثة أرباعهم في المناطق الريفية، ويحتاجون إلى ما لا يقل عن 110 آلاف طن من المواد الغذائية، كل ثلاثة أشهر، لإنقاذهم من الموت جوعًا أو من سوء التغذية المُزمن، بحسب تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، بتاريخ  السابع من أيار/مايو 2020  

بالعودة إلى العلاقة بين مستوى التعليم والفقر، أشارت تقارير اللجنة الموريتانية لحقوق الإنسان، منذ أيلول/سبتمبر 2016، إلى ارتفاع عدد الأطفال المُتَسَرِّبين من المدارس، حيث يضطر حوالي 26% من الأطفال القاصرين للعمل، بسبب الفَقْر…   

حلّت موريتانيا، سنة 2016، في مؤخرة ترتيب دول العالم من حيث جودة التعليم، وجاءت في المركز ال134 من إجمالي 140 دولة على مستوى العالم، بحسب أحد فُروع مجموعة “البنك العالمي”، وبحسب “التنافسية العالمية” التابع للمنتدى الإقتصادي العالمي، سنة 2017، ويُعتبر ذلك من مُؤشِّرات انتشار الفقر، وبدل تحسين جودة التعليم، دفعت الدّولة باتجاه خصْخَصَة التعليم، عبر إهمال التعليم العمومي، فانخفضت نسبة النجاح في امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) من 13% سنة 2014، إلى 4%، وهي إحدى أضعف النِّسَب العالمية.   

نشرت منظمة الأغذية والزراعة، في أيار/مايو 2020،  تقريرًا يُشير إلى وجود مؤشرات المجاعة في البلاد، رغم الثروة السمكية والمعادن، حيث أن 71,3% من سُكّان موريتانيا يعيشون بأقل من دولارَيْن في اليوم، ومن بينهم 23,5% يعيشون بأقل من 1,25 دولارا في اليوم، ومن نتائج الفَقْر، ارتفاع نسبة الأطفال الذين يعانون من نقص الوزن إلى حوالي 30% في الأرياف وإلى أكثر من 16% في الوَسَط الحَضَرِي…    

الدُّيُون الخارجية:  

بعد انتشار وباء الفيروس التّاجي “كوفيد 19″، وتوقّف حركة التجارة والحركة الإقتصادية العالمية، طالبت بعض الدّول، وكذلك بعض المنظمات التّقَدُّمية العالمية (مثل “اللجنة من أجل إلغاء دُيُون العالم الثالث”) إلغاء دُيُون الدّول الأكثر فَقْرًا، لأن الشُّعُوبَ لم تستفد منها، وسبق أن أقرّت لجان دولية مُستقلة عدم شرعية الجزء الأعظم من دُيُون دولة “إكوادور” والأرجنتين وبوليفيا وغيرها…  

في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2020، طالبت حكومة موريتانيا، على لسان رئيسها، بشطْبِ دُيُون إفريقيا، بمناسبة “يوم إفريقيا” (25 أيار/مايو، من كل سنة، في ذكرى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في الخامس والعشرين من أيار/مايو 1963، بزعامة جمال عبد الناصر وكوامي نكرومة وهيلاسي لاسي…)، لكي تتمكّن الدّول من مجابهة تبعات انتشار وباء الفيروس التّاجي، الذي أصاب أكثر من مائة ألف إفريقي، لغاية يوم الأحد 24 أيار/مايو 2020.  

أما بخصوص دُيُون موريتانيا الخارجية، فقد ارتفعت بنسبة 20% بين سنَتَيْ 2014 و 2016، لتقترب من نسبة 100% من إجمالي الناتج المحلي، وهو مستوى تاريخي لم يسبق لهذه الديون أن وصلت إليه حسب بيانات البنك العالمي، بداية أيار 2017، وأجْرَتِ الحكومةُ مفاوضاتٍ مع الدّائنينَ لتأجيل سداد بعض الأقساط، بالتوازي مع رفع الضرائب واستهلاك مدخرات صندوق عائدات النفط لتغطية عجز الميزانية، وتسديد الديون الخارجية وفوائدها التي تستحوذ على نحو 20% من الموازنة العامة، ما يؤدّي إلى تقليص نفقات القطاعات والمشاريع الأساسية، وزادت قيمة الدّيون الخارجية التي يحل أجل تسديدها، بنسبة مُعدّلها 16%، سنويًّا، بين سنتَيْ 2015 و 2018، فيما تفوق نسبتها 20% من ميزانية الدولة سنة 2019 و 2020، بحسب المصرف المركزي الموريتاني، وناهزت قيمة الديون الخارجية للبلاد، سنة 2018، قرابة خمسة مليارات دولارا (4,984 مليارات دولارا)، ليكون نصيب كل فرد في موريتانيا من الديون الخارجية 1132 دولارا، ومثلت هذه الديون 94% من الناتج المحلي الإجمالي، أي من الحجم الإجمالي للإقتصاد، وتوقع صندوق النقد الدّولي، بنهاية 2019 (أي قبل انتشار الفيروس التّاجي وتوقف حركة التّجارة والإقتصاد)، أن ترتفع الدّيون الخارجية بزيادة نسبة 1,6% من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية سنة 2020…  

أدّت زيادة حجم الدّيُون الخارجية إلى اتساع العجز المالي، ولجأت الحكومة إلى رفع الضرائب، وإلى استهلاك مدخرات صندوق عائدات النفط، لتغطية عجز الميزانية، وتسديد الديون الخارجية وفوائدها التي تستحوذ على نحو 20% من الموازنة العامة، ما يؤدّي إلى تقليص نفقات القطاعات والمشاريع الأساسية، وزادت قيمة الدّيون الخارجية التي يحل أجل تسديدها، بنسبة مُعدّلها 16%، سنويًّا، بين سنتَيْ 2015 و 2018، فيما تفوق نسبتها 20% من ميزانية الدولة سنة 2019 و 2020، بحسب المصرف المركزي الموريتاني.    

مُقاومة ونضالات:  

إن الفَقْر لا يعني الإستِكانَة والركُود، بل ناضلت فئاتٌ عديدةٌ من الشعب الموريتاني من أجل الحقوق السياسية والإقتصادية، ومن أجل الحُرّيّات الفردية والجَمْعِيّة، ويعتبر المجتمع الموريتاني شديد الحيوية والنشاط السياسي والثقافي، رغم تأخّر الإعلان عن نهاية العُبُودية (قانونًا)، أما إزالتُها تمامًا فتتطلب سنوات أو عقودًا أُخْرى، ونورد بعض النماذج القليلة من النضالات، خلال العقود الأخيرة:  

نَظّمت القوى اليسارية، ومن بينها “حزب الكادحين” الماركسي، المحظور، سنة 1969، إضرابًا عامّا بالجامعة، جابهته الدولة بحملة قمع واعتقالات واسعة، وأضْرَبَ عُمّال المعادن، بشركة “ميغرما”، سنة 1971، وأدّى قمع الشرطة إلى سقوط ضحايا من المُضرِبين، ثم أمّمت الدولة الشركة، في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1974، ليصبح اسمها “الشركة الوطنية للصناعة والمعادن” (المعروفة باسم “سنيم” وهي الأحرف الأولى من اسم الشركة بلغة المُستعْمِر الفرنسي)، وبعد عشرين سنة تأسس “الإتحاد العام لعمال موريتانيا”، كأول اتحاد نقابي مستقل، في الرابع من كانون الثاني/يناير سنة 1994، وساهم الإتحاد في تنظيم المظاهرات الشعبية التي انطلقت ضد ارتفاع أسعار الخبز، في الثاني والعشرين من كانون الثاني/يناير 1995، كما انطلقت مظاهرات واحتجاجات ضد سياسات الحكومة، التي اعتقلت أجهزتها بعض زعماء المعارضة، واتهمت حزب البعث بالتسبب في الإضطرابات، وقطعت العلاقات مع العراق، الذي كان في حالة حصار وقصف أمريكي مستمر منذ عدوان 1991، وكانت فُرصة أو مُقدّمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بعد سَنَتَيْن على توقيع قيادات “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية لما سُمِّي “اتفاقيات أُوسلو” (الحُكم الذاتي الإداري في الضفة الغربية وغزة، تحت الحصار)، ولم يكن النظام الموريتاني مُنفردًا، بل طبّعت حكومات المغرب وتونس ومَشْيخات الخليج (إضافة إلى مصر والأردن) علاقاتها، عبر فتح مكاتب تنسيق في تل أبيب، ومكاتب صهيونية مماثلة في العواصم العربية، وفي سنة 1998، وخلال حملة تصفية حسابات بين عدد من المجموعات المُكَوّنَة لنظام الحُكْم، انتشرَ خبرُ دَفْنِ الكيان الصهيوني نفاياتٍ نوويةً في موريتانيا، وفي السابع والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1999، تطورت العلاقات بين النظام الموريتاني والكيان الصهيوني، ليرتفع مستوى العلاقات الرسمية إلى درجة تبادل السّفراء.  

في بداية سنة 2011، سنة الإنتفاضة في تونس وفي مصر واليمن (والأردن والمغرب، بشكل أقل انتشارًا) تظاهر المواطنون الموريتانيون في الخامس والعشرين من شباط/فبراير 2011، في الشوارع (بالتزامن مع مظاهرات الجزائر والمغرب ومصر)، رافعين شعارات مُطالبة بالديمقراطية وبحُكم مدني، وبالعدالة الاجتماعية والمساواة، وتمكّن النظام من لَجْمِ حركة الإحتجاج، بعد شهْرَيْن من انطلاقها، عبر القمع السَّافِر، وكذلك عبر استخدام نفوذ الأعْيان المَحَلِّيِّين لإخماد حركة الإحتجاج، ولكن بَذْرَةَ الإحتجاجات نمتْ، وأصبحت أحزابُ المعارضةِ (التي كانت خائفة) ترْفعُ شعار “تغيير النّظام”، وهو شعار حركة “25 فبراير”، وأسّست المعارضة هيكل تنسيق (يجمع الإخوان المسلمين والليبراليين و”اليسار”…) مكّنها من رفع سقف مطالبها، وانتظمت يوم 12 أيار/مايو 2012، في العاصمة “نواق الشّط” وفي المدن الكبرى ومراكز الولايات (المحافظات)، مسيرة أولى، ثم مسيرات عديدة أُخْرَى، طيلة السّنوات اللاحقة…  

كما نظّم الشباب المُعَطّل عن العمل عددًا من الإحتجاجات والإعتصامات الدّورية، للمطالبة بتوفير الوظائف والإستثمار في القطاعات التي تستوعب أعدادًا كبيرة من العاملين، بدل الإجراءات التي لا تلبي طموحات العاطلين، ولا يستفيد منها سوى أرباب العمل وأصحاب الشّركات، كما نَظّمت “رابطة الدّكاترة العِلْمِيِّين العاطلين عن العمل” مع حركة “كفانا بطالة”، تجمّعات واعتصامات في العاصمة “نواق الشّطّ” وفي المُدن الرئيسية.    

عينات من إضرابات العاملين:  

اضطر عمال المناجم لشن إضرابات عديدة، وكلما تمسّك العُمّال بمطالبهم، تظاهرت الحكومة والشركات المُستَغِلّة للمناجم، بتلبية مطالبهم، من خلال توقيع اتفاقيات مكتوبة، ووعود شفوية، لكن، وبعد إنهاء الإضراب، تتجاهل الحكومة وأرباب العمل هذه الإتفاقات ولا يطبقونها، ومن هذه الإضرابات الأخيرة، أضرب عُمّال منجم “قلب الغين” (الشركة الوطنية للصناعة والمناجم) يوم 23 تموز/يوليو 2019، احتجاجا على اقتطاع يوم من عملهم من طرف إدارة الشركة، وعَطّل العُمال المُضربون حركة القطارات التي تنقل الحديد الخام، على سكة يتجاوز طولها سبعمائة كيلومتر، من المنجم إلى ميناء التصدير بمدينة “نواذيبو”، وهدّدُوا  بتوسيع دائرة الإضراب لقطاعات أخرى في الشركة، إلى أن تراجعت  الشركة عن قرارها الظالم.   

نورد عينة أخرى من قطاع المناجم (أهم قطاع صناعي في البلاد)، فقد بدأ عمال الشركة الكَنَدِية “كينروس تازيازت موريتانيا”، رابع أكبر شركة لاستغلال مناجم الذهب في العالم، التي تستغل مناجم ذهب ولاية إنشيري، منذ سنة 2008 ( 250 كيلومترا شمال العاصمة نواق الشط)،  في الرابع من أيار/مايو 2020، إضرابًا شاملاً وطويلا، احتجاجا على ظروف العمل، خلال فترة الإجراءات الإحترازية، بسبب انتشار الفيروس التّاجِي (كورونا)، ويُعتبَر هذا الإضراب مُواصَلَة لإضراب تشرين الأول/اكتوبر 2019، الذي انتهى بتوقيع ممثلي العمال وممثلي الشركة اتفاقا مدته ثلاث سنوات، بهدف استمرار العمل وإنهاء الخلاف مع العمال، لكن الشركة لم تلتزم ببنود الاتفاق، واستغلت إجراءات الحَجْر الصّحي وحَظر التنقل بين المُدُن، فمنعت العمال الموجودين في المنجم من الراحة، ورفعت عدد ساعات العمل إلى 12 ساعة، دون أن تُقابلها زيادة في الرواتب، بحسب عدد ساعات العمل الإضافية، وطالب العُمال بالمُساواة في الوظائف، بحسب الخبرة والمؤهلات بين الأجانب الذين يتقاضَوْن رواتب مرتفعة، والموريتانيين (3700 عامل، إضافة إلى الإداريين) الذين يتقاضون رواتب منخفضة، وبتحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، والترفيع من علاوة الخطر وعلاوة السكن، وإلغاء ضريبة الراتب، وأدّى الإضراب الذي شمل 90% من العاملين، ودام أُسبوعَيْن إلى توقف العمل والإنتاج الذي تُقدر قيمته بنحو مليون دولارا يوميا، وسبق أن أعلنت الشركة، سنة 2016، أرباحًا صافية من منجم “تازيازت” بقيمة 180 مليون دولارا، مُعْلَنَة، ويتوقع أن يتجاوز إنتاجها 11 طنًّا سنة 2020.  

انحازت الحكومة (التي لا تتجاوز حصتها 4% من الإنتاج) إلى جانب الشركة الكَنَدِيّة وطلبت من العمال توقيف الإضراب، وسبق أن نشرت بعض الصحف الكندية والأوروبية تحقيقات مُطولة عن نشر هذه الشركة العالمية الفساد وامتناعها عن تطبيق القوانين المحلية (السيئة أصْلاً)، وتقديم الرشاوى للمسؤولين الحكوميين، كما أطلق القضاء الأمريكي تحقيقات بشأنها، وحظي إضراب عمال منجم “تازيازت” بدعم شعبي واسع، وطالبت بعض القوى بإعادة تأميم شركة الذهب…    

في قطاع التعليم:  

أطلق مُدرِّسو التعليم الثانوي والتقني سلسلة من الإحتجاجات، توجوها بإضراب أيام 10 و11 و 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 لمدة ثلاثة أيام، للمطالبة بتحسين الرواتب وظروف العمل، والعلاوات وتوفير السكن اللائق.  

 كما أضرب المُعلّمون، يوم الإثنين 03 شباط فبراير 2020 (مع التهديد بإضراب لمدة ثلاثة أيام، منتصف شهر آذار/مارس 2020، في حالة رفض الإستجابة لمطالبهم)، المتمثلة في زيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل، وشمل الإضراب جميع مدارس التعليم الأساسي بالبلاد، ونفذ المُعلّمون اعتصامات أمام مباني الوزارة وفُرُوعها…    

في قطاع الصحة:  

 يوجد حوالي ثمانمائة طبيب عام ومتخصص، أي ما يعادل طبيباً واحداً لنحو 4500 مواطن، زهي نسبة منخفضة، ويعاني  قطاع الصحة العمومية من نقص التجهيزات، ومن قِدَمِها.  

أضرب العاملون بمختلف أصنافهم (الطب العام والإختصاصيين) عدة مرات، خصوصًا سنوات 2018 و 2019 و 2020،  وأضرب أطباء الصحة العمومية من يوم السابع من أيار/مايو إلى يوم 17 حزيران/يونيو 2018، لفترة فاقت ستة أسابيع، باستثناء الحالات المُستعجَلَة، ونظموا اعتصامات أمام مبنى الوزارة، ووافقوا على تعليق الإضراب لفترة أسبوعَيْن بعد “التزام السّلطة بإطلاق مفاوضات رسمية، بهدف تحقيق المطالب” المتمثلة في مجانية الحالات المستعجلة في المستشفيات، ومواجهة تزوير الأدوية، وإشراك الاختصاصيين في شراء التجهيزات، إضافة لتحسين ظروف العاملين بقطاع الرعاية الصحية، ورفع رواتب الأطباء…   

بعد قرابة سنة من مماطلة الدولة (وزارة الصحة)، دعت نقابات الصحة العمومية بموريتانيا، إلى إضراب جديد، يوم الثلاثاء 23 نيسان/ابريل 2019، خلال اليوم الثاني من إضراب قطاع التعليم الثانوي في عموم البلاد، وتحتج نقابات الصحة العمومية على عدم التزام وزارة الصحة بتطبيق اتفاق موقع معها سنة 2018.   

في الثامن والعشرين من آذار/مارس 2020، أضرب أطباء ومجمل العاملين في قطاع الصحة العمومية مُجدّدًا، بسبب تراجع الحكومة (وزارة الصحة) عن التزاماتها…  

هذه عينات من نضالات العُمّال، والموظفين من متوسطي الدّخل، ومن الفئات التي تُعتبر “ذات امتيازات”، أي الأطباء، للتدليل على حيوية المجتمع، وكذلك على تدهور وضع الأُجَراء، بمختلف فئاتهم…    

خاتمة:   

يؤدي الفقر إلى استغلال الوضع من قِبَلِ السفارات والمراكز الثقافية الأجنبية والمنظمات الدّولية المسماة “غير حكومية”، وهي حكومية 100%، مثل الرابطة الألمانية للعمل الزراعي وكافة المنظمات الألمانية التابعة للأحزاب والتي تمولها الحكومة، وكافة المنظمات الأمريكية، وفي مقدمتها الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي، والمجلس الأمريكي للعمل الدّولي التطوعي، ومختلف “الأوقاف” الأمريكية “من أجل الديمقراطية”، وغيرها من مؤسسات “التعاون الدولي”، ومصارف ونَصّابِي “القُروض الصغيرة”، وتستغل جميعها وَضْعَ الدول الفقيرة والمُثْقَلَة بالدّيُون لِتُرَوّج الدّعايات والسّلع الرديئة، وتعمل على تقسيم المجتمع إلى فئات وطوائف وأجناس ومِلَل، باسم مُساعدة الفُقراء، وبما أن حُكّام هذه الدّول هم وُكلاء للإمبريالية، فإن حكومات الدول الفقيرة، مثل موريتانيا، لا تسطيع (إن كانت تمتلك الإرادة وسيادة القرار) حَظْرَ عمل هذه المنظمات التي تستوطن دعاياتها عُقُول جيل من الشباب المُتَحَمِّس الذي يعتقد جازمًا أنه يخدم مصلحة بلاده وشعبه، وانتشرت هذه المنظمات في موريتانيا، كما في البلدان العربية والإفريقية، باسم مُساعدة اللاجئين والفُقراء وصغار المُزارعين، والأطفال والنساء وغيرها من فئات المجتمع…   

لكن مجتمع موريتانيا حي، وتُقاوم الطبقة العاملة، وفئات الكادحين، استغلال الشركات الرأسمالية التي تدعمها الدّولة، فالدّولة لم تحترم لا التزاماتها، و لا الإتفاقيات التي توصّلت النقابات لإبرامها بفضل نضالات العاملين، كما احتجّ العاملون في قطاعات الصحة والتعليم وغيرها من القطاعات، وطالب العاملون بتحسين الرواتب وظروف العمل، وانتفض الشباب في شباط/فبراير 2011، بسبب ارتفاع حدة البطالة والفَقْر في المجتمع، ولدى فئة الشباب بشكل خاص، وتُمثل هذه النضالات أملا في تغيير الوضع لمصلحة العاملين والشباب والفقراء… 

***** 

ضرورة التكامل الاقتصادي المغاربي والعربي:

بعد قرابة عشر سنوات من انتفاضة تونس، ومحاولات الإنتفاض في الجزائر والمغرب، وانهيار نظام ليبيا، لم يتحسن وضع المواطنين في أي بلد مغاربي، من موريتانيا إلى ليبيا، بل ساءت حال الأغلبية من المواطنين والفُقراء، ورغم العوامل الدّاخلية المُساعِدة، واستعداد مواطني المغرب العربي لتطوير العلاقات بين البلدان الخمسة، لم تتطور المبادلات بين البلدان المغاربية، في أي مجال، لا الثقافي ولا الإقتصادي، باستثناء السياحة، حيث يُشكّل المواطنون الجزائريون والليبيون نصف عدد زائري تونس. أما العلاقات التجارية وتبادل الإنتاج المحلي، فإن قيمة التجارة البَيْنِيّة بين البلدان الخمسة، لا تتجاوز نسبة 5% من إجمالي التجارة الخارجية لهذه البلدان.

تكمن المشكلة الرئيسية في نمط النّمو وفي سياسة التّبَعِيّة السياسية والإقتصادية تجاه القوى الإمبريالية، والحواجز السياسية التي تُعرقل التكامل الإقتصادي المغاربي أو العربي أو الإفريقي

يدعو الإتحاد الأوروبي إلى التكامل الإقتصادي المغاربي، ليس من أجل مصلحة الشعوب أو البلدان في المغرب العربي، ولكن من أجل تخفيض جلسات التفاوض، مع أربعة أو خمسة حكومات إلى طرف واحد، ومن أجل خلق سوق كبيرة، يفوق عدد سُكّانها مائة مليون نسمة، لتُرَوّج أوروبا بضائعها، خصوصًا بعد الإمتيارات الكبيرة التي حصلت عليها أوروبا وشركاتها، من خلال اتفاقيات الشراكة، ولكن جوهر دعوة الإتحاد الأوروبي يختلف عن دعوة المواطنين المغاربيين والعرب لإنشاء سوق مغاربية، كخطوة لتأسيس تكامل اقتصادي شامل، وسوق عربية واحدة، قادرة على تحفيز النمو وخلق وظائف، وخفض حِدّة الفقر ( أما القضاء على الفَقْر فأَمْرٌ آخر)، شرط أن لا تُهيمنَ الشركات الإحتكارية والقوى الإمبريالية على هذه السوق الموحدة، التي يتجاوز عدد سُكانها في المغرب العربي مائة مليون نسمة، ويتجاوز سكان البلدان العربية نحو 340 مليون نسمة، ولكن نسبة التبادل التجاري بين هذه البلدان لا تتجاوز 3% بين بلدان المغرب العربي ونحو 5% بين الدول العربية، من إجمالي حجم مبادلاتها التجارية، وهي أقل منطقة تُمارس التكامل الإقتصادي فيما بينها، بعد تسع سنوات من الإنتفاضات العربية سنة 2011، “رغم التاريخ واللغة والإمتداد الجغرافي” بحسب “كريستين لاغارد”، المديرة التنفيذية السابقة لصندوق النقد الدّولي، منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أثناء تقويم نتائج إقامة طويلة (على حساب المواطنين) لوفد من صندوق النقد الدولي في المغرب والجزائر وتونس، خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2019.

لا يُمكن التّعويل على الحُكومات والأنظمة، لتحقيق التكامل المغاربي أو العربي، أو الإفريقي، بل يتطلب ذلك نقاشًا وتنسيقًا بين الأحزاب والنقابات والمنظمات الأهلية (المحلّية، ولا نعني بذلك المنظمات المُمَوّلَة أجنبيًّا)، وضَغْطًا شعبيا، عبر استخدام كافة الوسائل المُتاحة

يُعتَبَرُ المغرب وتونس نُمُوذَجَيْن متشابهَيْن لعلاقات التبعية والهيمنة، التي برزت نتائجها السّلبية بسرعة وبوضوح، وتُبَرِّرُ حُكومتا الإخوان المسلمين، منذ 2012، علاقات التبعية، وتتأقلم معها، وتطلب من المواطنين أن يُطيعوا “أولياء الأمر”، أي الحُكّام، مع إهمال “آيات الإنذار لمن يكنِزون الذّهَبَ والفِضّة”، وأطنَبُوا في ذِكْر الخليفة الثّري “عثمان بن عفان” (الذي يعتبره إخوان تركيا زعيمهم الرّوحي) وأهمَلُوا ذِكْر الصحابيّ الفقير “أبو ذَرّ الغَفارِي”، ما يُبَرِّرُ الثورة ضدّهم، وضد أنظمة التّبَعِيّة التي يُجسِّدُونها، وإرساء نظام يُطبّق مبدأ “من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته”.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.