الأردنيون ما بين خطاب المواطنة”المغيب” وخطابات “الهويات” الحاضرة / عمر الرداد
تفتح مقاربات اللسانيات الحديثة، بما فيها من عناوين ومفاتيح واتجاهات انتقلت بالنصوص من كونها “بنيات لسانية ولغوية الى الخطابات والتخاطب” مساحات أمام الباحث لقراءة النصوص والبحث في معنى خطاباتها الكبرى، في إطار مفاهيم جديدة جوهرها تداوليتها وما تحققه من تواصلية، بعد ان غادرت سجون “الخبر والمعنى” وذهبت للحفر في انساق مضمرة، تختفي خلف ما هو معلن،وهو ما يعني تجسير”الفجوة” بين تلك النصوص وفهمها من قبل مستويات التلقي، والكشف عن مدلولات الخطابات،خارج بنياتها “المعيارية”:النحوية والصرفية والصوتية، وبمرجعيات ذات طابع قداسي وكهنوتي.
ذاك المهاد والمفتتح كان ضرورة للولوج في تفكيك النصوص التي يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تجاه قضية، تتنازعها “خطابات” متخندقة،تجري على قاعدة “من ليس معي فهو ضدي”وهي الأعياد والاحتفالات المسيحية” بميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية”، وليس مبتغى هذه المقالة مناقشة القضية وفق المرجعيات الفقهية الدينية، التي تتعدد فيها الآراء والفتاوى، بتعدد مرجعيات مصادر الفتوى،بقدر ما تروم الكشف عن خطاباتها من مرجعية اللسانيات وتحليل الخطاب.
ولعل التساؤل الذي يطرح قبلا حول أهمية القضية في السياقات العامة، والراجح أنها قضية ليست ذات أهمية “ملحاحية” في ضوء قائمة أولويات ضاغطة” اقتصادية واجتماعية،عند مستويات التلقي والتفاعل معها،تحتاج لفتاوي من خارج “الرسمي”فهل يعني إثارتها حرفا للأنظار عن قضايا أخرى،ومن يقوم بذلك ومن المستفيد من كل هذا؟
وربما تكتسب المقاربات التي تدعي أن إثارة القضية تقع في باب الكشف عن المسكوت عنه مشروعية،خاصة مع ما وفرته مواقع التواصل الاجتماعي من مساحة واسعة للإبانة عنه وفضحه،الا انه ووفقا لتقنيات تحليل الخطابات، فان الخطابات التي عالجت القضية،بما فيها من “عنف لغوي” كشفت “ازدواجية” في الخطاب، ووجود خطابين ،الأول رسمي” والرسمي هنا لا يقتصر على السلطة السياسية ،بل يشمل السلطة الدينية الرسمية وغير الرسمية وسلطة المجتمع واللغة” مفردات قاموسه” التعايش،الوحدة،الإخوة..الخ” والثاني خطاب غير رسمي مفردات قاموسه” التكفير والتحريم والخيانة،ومخالفة الشرع وموالاة الكافر” لمن يبادر من المسلمين بتقديم “التهنئة والتبريك للإخوة المسيحيين بهذه المناسبة، ودون تمييز بين المسيحي العربي والأجنبي “الكافر”، ودون النظر الى ان هذا المسيحي العربي له جذور ضاربة في هذه الأرض والتاريخ والنهضة والشهادة.
الخطابان الرسمي وغير الرسمي يضمران مغالطة قاسمها المشترك التعامل مع المسيحي والمناسبة، بوصفه من “كتلة بشرية” غير منضوية في النسيج العام للمجتمع ،لا على قاعدة التنوع الديني ولا الاجتماعي، او انه الآخر المختلف، فالتعايش لا يكون الا بين غير المتجانسين، والوحدة لا تكون الا بين كتل مختلفة ومثلها الإخوة،فيما “التكفير والتخوين وموالاة المشرك” إضافة لكونها تستند الى افتراض وجود دولة الخلافة الإسلامية وتنتمي للتاريخ المقدس، فإنها تبني على الخطابات الرسمية الكبرى بتأكيد الآخر المختلف، وتنفي مفهوم “المواطنة”.
تمظهرات الخطابين الرسمي وغير الرسمي صحيح أنها “مناسباتية” تنتهي بانتهاء توقيتاتها، إلا أنها تجد ترجماتها “الاجتماعية” بحالة من الديمومة،في تطبيقات مختلفة تشكل صدى للخطاب غير الرسمي، في محطات من بينها على سبيل المثال عند زواج مسيحية من مسلم، او تقديم واجبات العزاء او المباركة لصديق مسيحي،ولعل اللافت هنا ان كل تلك الخطابات لا يتم ترجمتها عند زواج مسلم من مسيحية “أجنبية” على سبيل المثال، اذ لا تثار القضية بوصفها إشكالية تجاه حالات الزواج من أوروبيات وأمريكيا” وهن على الأغلب مسيحيات” ولا حتى تجاه”الأسيويات والإفريقيات” اللواتي ربما يكون بعضهن وثنيات او لادينيات.
صحيح انه لم يعد بالإمكان ان تمارس السلطة السياسية دورا رقابيا على كل ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها تمتلك الأدوات والإمكانيات والتشريعات لضبط أية حوارات تذهب بعيدا “لإثارة الفتنة” وربما تكون الخطوة الأولى بالتوقف عن إصدار الفتاوى الرسمية التي “تساير” الفتاوى” غير الرسمية بهذه القضية بكل تفاصيلها، فلا يحتاج ابو محمد في الكرك وعجلون والحصن والسلط والعقبة لفتوى تجيز له او تمنعه من أن يقول لجاره ابو يعقوب “كل عام وانتم بخير” ولا يحتاج أبو يعقوب لفتوى مماثلة،وليكن ما يجمع بين الأردنيين خطاب “المواطنة” الذي يجري تغييبه لحساب خطاب “الهويات” رغم ما يحيط بالخطابين من حديث باتجاهات تطول وتقصر، ربما آن أوانها وحان قطافها.
التعليقات مغلقة.