إعصار كاترينا / د. ابراهيم صبيح
تم إنشاء نيو أورلينز عام 1719 فوق قطعة من الأرض محصورة بين بحيرة بونشارترين ونهر المسيسبي عند مصبه في خليج المكسيك. تم بناء حواجز ترابية و حديدية لمنع وصول الفيضانات إلى المدينة نظراً لوقوعها تحت سطح البحر. حكم المدينة الأسبان والفرنسيون قبل أن يبيعها نابليون إلى الرئيس الأمريكي جيفرسون. عرفت المدينة بأسماء عديدة: المدينة السهلة الكبيرة، مدينة الحب والسعادة، مدينة الحي الفرنسي، مدينة الكرنفالات، مدينة عربات الترام، مدينة مارلون براندو وڤيڤان لي في فلم “عربة اسمها الرغبة”، مدينة لويس ارمسترونج وموسيقى الجاز. يسكن البيض والأغنياء في الأماكن المرتفعة من المدينة بينما يسكن السود والفقراء في الأماكن المنخفضة في مشهد من التمييز العنصري والاجتماعي لم يغب عن ذهن الكثيرين. كان يسكن في نيو أورليانز أكثر من مليون ونصف المليون من الناس بقي منهم نصف مليون مواطن بعد صدور الإنذار الرسمي عن قرب موعد وصول الإعصار (كاترينا) وضرورة إخلاء المدينة. في الساعة الرابعة صباحاً من يوم 26 أب من عام 2005 وعلى جبهة عرضها 500كيلومتر وبسرعة ريح تزيد عن 300كيلو متر/الساعة، هاجم إعصار كاترينا الساحل الجنوبي للولايات المتحدة الأمريكية وكانت عين الإعصار فوق مدينة نيو أورليانز فحولها إلى ركام وحطام. التقاء الرياح التي تمر فوق المحيط الأطلسي الباردة مع الرياح التي تمر فوق مياه الخليج المكسيك الدافئة يحدث عادة ما يزيد عن عشرين إعصاراً سنوياً تختلف شدتها من الدرجة الأولى وحتى الدرجة الخامسة حسب مقياس ساڤير-سيمبسون للأعاصير.
اعتبر إعصار كاترينا وهو من الدرجة الخامسة الأسوأ خلال المائة عام المنصرمة. انهارت دفاعات المدينة فتساوى مستوى الماء في البحيرة والنهر مع مستوى الماء فوق مدينة نيو أورليانز فغرق ثمانون بالمائة من المدينة تحت سطح الماء مثل”اتلانتس”، دخلت مياه الفيضانات من كل شباك وباب ودمرت الجسور والطرق السريعة ومطاري المدينة.
انقطعت خطوط الطاقة والكهرباء والماء والهاتف فانعزلت المدينة عن العالم الخارجي. الإعصار أكل البيوت والبنايات ومضغها وبصقها ركاماً وحطاماً من أشلاء أدمية وقطع حديدية وإسمنتية وخشبية تطير في الهواء. تفاقم الوضع عندما غرقت معظم المستشفيات تحت الماء وأتلفت المحولات الكهربائية التي تستخدم في الطوارئ وكافح من تبقى من الأطباء والطواقم التمريض للحفاظ على حياة المرضى بدون جدوى فمات الأطفال الرضع في الحاضنات ومات المرضى الذين يعتمدون على أجهزة التنفس الاصطناعية وماتت النساء اللواتي جاءهن المخاض في تلك اللحظة. فاحت رائحة الموت والدمار من المدينة. أصبح الناس بدون ملجأ أو غطاء أو طعام أو شراب أو دواء مثل حجارة تتدحرج…مجهولة الاسم والعنوان…
بقي الإعصار فوق المنطقة لمدة أربع ساعات عاث فيها فساداً وتسمر الزمان عند مشاهد كارثية محزنة وأليمة:
ابنية وقوارب وسفن ومركبات طارت واستقرت فوق الشارع العام أو فوق بنايات أخرى… باصات المدارس الصفراء سحبها الفيضان مثل دمى صغيرة … أكفان طارت من مقابرها واستقرت في حوض سباحة أو في فناء منزل … إنفجارات وحرائق تشتعل في بيوت المدينة … عصابات المساجين من القتلة والخارجين على القانون هربوا من السجون التي طارت أسقفها ونزعت أبوابها وهرب حراسها … كلاب ضالة وفئران وأفاع ٍ وتماسيح سبحت في المياه التي غمرت المدينة والتي أصبحت آسنة ذات رائحة كريهة تنبعث من الجثث الطافية والحيوانات النافقة والقمامة والمواد الكيماوية والفضلات والآدمية. في الساعات والأيام الأسابيع التي تلت الإعصار ابتدأت عملية الإنقاذ فتسمر الزمان كذلك على مشاهد مؤلمة وحزينة ومثيرة: رجال إنقاذ في قوارب وحوامات يقودون إلى بر السلامة مجموعة من الناس لجأوا على أسطح منازلهم القرميدية … رجل عجوز على نقالة طبية يضع يده على خده ويغرق في صمت عميق … طفلة تحتضن يدي سيدة مسنة … سيدة تبكي زوجها وأطفال يبكون وفاة والدهم … رجل يجر كرسياً متحركاً مربوطاً عليه جثة والدته الميتة … دموع أم تم لم شملها على طفلها الرضيع … رجل يبكي التحف والنفائس التي قضى عمره وهو يجمعها في منزله الذي أغرقه الفيضان … شاب يجمع صحوناً من مطبخ جدته المهتدم … لوح من الورق المقوى الطافي يقف فوقه كلب صغير … طفل ناج ٍ يجلس على رصيف شارع مهجور وهو مذهول… سيدة عجوز مقعدة تطلب من أبنائها أن ينجوا بحياتهم وأن يتركوها فتموت في المياه الهادرة الباردة.
سيدة في التسعين من عمرها يتم إنقاذها من منزلها الغارق تحت الماء بعد ستة أيام من الإعصار لتموت في قارب الإنقاذ … جثث طائفة منتفخة متعفنة لا يسحبها أحد من المياه … تبرعات من طعام وملابس وأحذية بمقاسات وألوان مختلفة … مدارس تفتح أبوابها لطلاب نازحين … عائلات تستقبل المشردين … إغلاق الشوارع المؤدية من وإلى المدينة ومنع الناس من العودة إلى بيتهم لفترة ثلاثة شهور بعد الإعصار … المدينة تغرق في الإحباط والتوتر.
إعصار كاترينا أدى إلى إتلاف مائتا ألف مركبة وخمسة وسبعون ألف قارب وأربعماية سفينة وألف قاطرة ومائة وأربعون منصة حفر للبترول وأدى كذلك إلى مقتل ثلاثة آلاف شخص وتهجير مليون مواطن.
إعصار كاترينا لم يدمر مدينة نيو أورلينز فقط ولكنه حطم كبرياء أمريكا وجبروتها وعرى مؤسسات الدولة التي فشلت في الإستجابة لهذه الكارثة الطبيعية على كل مستوى من المستويات. كلف الإعصار أمريكا ما يزيد عن مائتي مليون دولار وأحرج الرئيس الأمريكي جورج بوش وحزبه الحاكم مما ساهم مساهمة مباشرة في فوز ممثل الحزب المنافس باراك أوباما بالرئاسة الأمريكية. زرت نيو أورلينز بعد مرور أربعة سنوات على اعصار كاترينا وذلك لحضور مؤتمر طبي فتجولت في مناطقها التي تأثرت بالإعصار وعشت لحظات الكارثة الأليمة. بعد تلك الجولة أحسست بجوع شديد ومررت على أربعة من مطاعم الوجبات السريعة قبل أن أدلف إلى شارع جانبي عند تقاطع شارع الكنال مع شارع الرويال لأجد مطعماً صغيراً يبيع الساندوتشات. كان في انتظاري مفاجأة سارة عندما علمت أن السيدة التي تدير المطعم أردنية تسكن في أمريكا مع أبنائها الشباب منذ ثمانية سنوات. لا أستطيع أن اصف لكم طعم الشاورما والفلافل الساخنة مع الحمص والمخللات والشاي بالنعناع الذي تناولته في مطعم السيدة نادية في نيو اورلينز وكعادة شعبنا الأردني المضياف والكريم رفضت السيدة نادية إلا أن تعتبرني ضيفاً عليها ورفضت أن تتقاضى أي نقود وقالت: “الله أكبر احنا أهل وأنت من ريحة البلاد” وأتبعت كل ما تقدم بتقديم فنجان ٍ من القهوة مع كثير من حب الهيل.
حماك الله أيتها السيدة الأردنية الشهمة النبيلة وحما أبنائك وحما الله أردننا من كل شر.
أ. د. إبراهيم صبيح
E – mail: [email protected]
التعليقات مغلقة.