الإرادة والإدارة .. النموذج البرازيلي! / د. مفضي المومني
تذكرت هذا المقال بعد لقاء الملك مع طلبة جامعة اليرموك العام الماضي، مركزاً على جزئية مما قاله وتصريحه بأن مشاريع ومبادرات الطلبة ستواجه بالضريبة والجمارك كمعطل للعمل والإستثمار، وهذا صحيح وواقع عمل على شلل وإغلاق الآف الإستثمارات ورحيلها، وتسبب بعجز إقتصادي وبطالة لن ينفع تجاهها كل جهود وزارة العمل، فالقضية وحدة متكاملة لعناصر دورة الإقتصاد، وما الحُزم التي اطلقتها الحكومة إلا كذر الرماد في العيون، فوضعنا بحاجة لخطة عمل ثورية لا تحتمل كل هذه النعومة والبهرجة لتجميل الحزم!نحن بحاجة لإدارة وإرادة فقط، وأراني مضطرا لتكرار ما كتبته لعل وعسى!.
قبل ايام كنت اشتري بعض الحاجيات البيتية من احد المحلات الصغيرة في اربد، ودار حديث بيني وبين البائع، وبدأ يشكوا بحرارة ان السوق (ميت) ولا في بيع ولا شراء…. يقول كنت ابيع بالف دينار واكثر….هذه الايام لا تصل مبيعاتي 30 دينار…. قال انا اعمل اجير في هذا المحل ولدي عائلة وابناء يدرسون ومتطلبات ومهدد باغلاق المحل وفقدان عملي، وكنت اخفف عليه بطريقتنا…( بتهون وربك بيرزق الى اخره….) الا انه فاجأني بقوله والله انني افكر جديا بالانتحار! فبادرته يا رجل وحد الله قال انا مؤمن ولكني انسان ووصلت الضغوط علي حد لا اطيقه واقترض لاسدد متطلبات ابنائي وطعامهم، ونعيش حالة تقشف ولكني مهدد بالسجن… ماذا اعمل؟
اسوق هذه المقدمة لاوضح الوضع الحالي للكثير من الأردنيين، وهنالك امثلة اسوء لمواطنين لا يعملون.. ويعيشون على الكفاف والجوع والعوز.. ما العمل؟.
منذ سنوات وبلدنا يعاني من الفقر وتدني المستوى الاقتصادي، والاجتماعي، ولم تستطيع الحكومات المتعاقبة فعل شيء ، بل ان الحال من سيء الى اسوأ.. ورغم جائحة كورونا وآثارها التي اتت على كل شيء ومع وجود خبراء واقتصاديين الا ان الدولة الاردنية وخبرائها لا يعرفون الا سياسة زيادة الضرائب والجباية والتضييق على المواطن وصاحب العمل والمستثمر، لدعم مالية الدولة، فاستسهال الحصول على الاموال لمالية الدولة بهذه الطريق، احدث شللا اقتصاديا وهبط بالسيولة النقدية لدى الناس، واضعف القوة الشرائية، وبدل ان نستقطب المستثمرين تم تهجيرهم، الى تركيا ومصر والى سوريا حتى مع وضعها غير المستقر، وتم اغلاق الآف المصانع والشركات والمحلات التجارية، الا ان صاحب القرار يغمض عينيه ويدفن راسه في التراب مثل النعامة، معروف عالميا زيادة الضرائب والجباية قتل للاقتصاد… وانا لست خبيرا في هذا المجال ولكن يتاح لنا ان نقرأ ما يكتبه الخبراء، وقصص النجاح لدول كانت اقتصاداتها تصل حد الافلاس، لكنها اتبعت سياسات اقتصادية صحيحة فنهضت، والامثلة كثيرة وقد سقنا المثال التركي سابقا واسوق اليوم النموذج البرازيلي، لعل وعسى ان ييسر الله لبلدنا من يقوده الى الطريق الصحيح وان لا نبقى نعيش حالة العجز والركود الإقتصادي الذي لا مثيل له هذه الايام، هذا جانب والجانب الآخر دعونا نعترف بالفساد الذي دمر كل شيء والفساد هو مالي واداري، وان لا نبقى نتسلى بقصص الفساد، والاشاعات التي ترافقها، يجب ان نصل حد الفعل والمحاسبة، في ظل الفساد لن يتم بناء الاوطان وسنبقى نراوح مكاننا، اما المثال البرازيلي والذي قرأت عنه هذا الصباح ما كتبه احدهم، فهو نموذج قد يصلح لنا، اذا وجد رئيس حكومة صاحب ولاية، يدعمه الملك والشعب، واقتبس:
فى الثمانينيات من القرن الماضي دخلت البرازيل في أزمة اقتصادية طاحنة .. فذهبت للاقتراض من صندوق النقد الدولى معتقده انه الحل لأزمتها الاقتصادية .. وطبعا طبقت حزمة الشروط المجحفة مما ادى الى تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين والغاء الدعم وانهار الاقتصاد البرازيلي، ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية.
ورغم استجابة البرازيل لكل الشروط.. تفاقمت الأزمة اكثر واكثر وأصبح 1% فقط من البرازيليين يحصلون على نصف الدخل القومي .. وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، معتقدين انه الطريق للخروج من الأزمة.. فتدهورت الامور اكثر واصبحت البرازيل الدولة الاكثر فسادا وطردا للمهاجرين والاكبر فى معدل الجريمة وتعاطي المخدرات والديون فى العالم (الدين العام تضاعف 9 مرات فى 12 سنة) حتى هدد صندوق النقد باعلان افلاس البرازيل لو لم تسدد فوائد القروض ورفض اقراضها اى مبلغ فى نهاية 2002.. وانهارت العملة (الدولار وصل الى 11 الف كروزيرو).. دولة كانت تحتضر بمعنى الكلمة.
حتى جاء عام 2003.. وانتخب البرازيليين رئيسهم (لولا دا سيلفا).. ولد فقير وعانى بنفسه من الجوع وظلم الاعتقال (كان يعمل ماسح احذية) … أول ما تقلد الحكم الكل خاف منه.. رجال الأعمال قالوا هذا سوف ياخد اموالنا ويأممنا، والفقراء قالوا هذا سوف يسرق كي يعوض الحرمان .. لكنه لم يفعل ذلك .. وانما؟؟
قال كلمته الشهيرة “التقشف ليس ان افقر الجميع بل هو إن الدولة تستغنى عن كتير من الرفاهيات لدعم الفقراء) .. وقال كلمته الشهيرة ايضا (لم ينجح ابدا صندوق النقد الدولي الا فى تدمير البلدان).. واعتمد على اهل بلده .. وضع بند في الموازنة العامة للدولة اسمه (الإعانات الاجتماعية المباشرة) وقيمته 0.5% من الناتج القومي للدولة.. يصرف بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة.. يعنى بدل الدعم العينى بدعم نقدي .. وهذا الدعم كان يدفع ل 11 مليون أسرة تشمل 64 مليون برازيلي.. هذا الدعم كان 735 دولارًا (حوالى 13 الف جنية لكل اسرة شهريا) طبعا السؤال من اين والبرازيل مفلسة ؟!!
لانه رفع الضرائب على الكل (ما عدا المدعومين ببرنامج الإعانات).. يعنى رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب .. والسؤال هل وافق رجال الأعمال على ذلك ببساطة ؟! تخيل انهم كانوا سعداء لأنه منحهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ومنح الاراضي مجانا وتسهيل التراخيص واعطاء قروض بفوائد صغيرة لمساعدتهم فى فتح اسواق جديدة (بالاضافة الى ان الفقراء دخلهم سوف يرتفع وتزيد عملية شراء منتجات رجال الاعمال فتضاعف حجم مبيعاتهم).. بذلك لم يشعروا انها جباية.. بل يدفعوا ضرائب مقابل تسهيلات اصبحوا يكسبوا اكتر منها ..
بعد 3 سنين فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل .. فى 4 سنوات سدد كل مديونية صندوق النقد.. بل ان الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار اثناء الازمة العالمية فى 2008 بعد 5 سنين فقط من حكم لولا دا سيلفا .. (هو نفس الصندوق الذي كان يريد أن يشهر افلاس البرازيل فى 2002 ورفض اقراضها لتسدد فوائد القروض)
بفضل تركيز دا سيلفا على 4 امور .. الصناعة.. التعدين .. والزراعة وطبعا التعليم.. البرازيل وصلت لسادس أغنى دولة في العالم فى اخر عام لحكمه.. واصبحت تصنع الطائرات (اسطول طائرات الامبريار برازيلية الصنع)..
بعد انتهاء ولايتين من حكم لولا فى 2011.. وبعد كل هذة الانجازات الحقيقية.. طلب منه الشعب ان يستمر ويعدلوا الدستور.. رفض بشده وقال كلمته الشهيرة “البرازيل ستنجنب مليون لولا.. ولكنها تملك دستورا واحدا ” وترك الحكم ..
للعلم البرازيل دشنت اول غواصة نووية منذ فترة… (فقط 5 دول فى العالم تصنع غواصات نووية امريكا – روسيا – الصين – بريطانيا – فرنسا).. اول غواصة كانت بالتعاون مع فرنسا .. ولكنها ستدشن الغواصة الثانية فى 2020 والثالثة فى 2022 بصناعة برازيلية خالصة …
النهوض من التخلف ليس مستحيلا .. انها إرادة وإدارة .. وفى سنوات معدوده فقط، والطريقة معروفة ومحددة، الصناعة، والزراعة، والاهتمام بالفئات الفقيرة، والتعليم، وتجفيف الفساد… لاشيء آخر..
وهذا ما عملته المانيا واليابان فى الستينات
هذا ما عملته دول شرق اسيا فى الثمانينات مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية، وهذا ما عملته الهند فى التسعينات
هذا ما عملته تركيا والبرازيل فى 2003 وهذا ما تعمله اثيوبيا ورواندا منذ 2015.
اذا هي الإرادة والإدارة… كفيلتان بصنع المستحيل، والتغيير ونقل الاردن الذي يمتلك موارد بشرية متعلمة ومدربة هائلة، تحتاج فقط للتفعيل، وتغيير النهج، لسنا بصدد التباكي على ما قد فات، ولا بجلد الذات، ولا القضاء على ما تم انجازه، وتبادل الإتهامات، الامور بحاجة لفعل والمثال البرازيلي وغيره كفيلة بوضعنا على المسار الصحيح، ندعوا ان نحقق لبلدنا التطور والنماء، وان لا نبقى ندور في حلقة مفرغة، اهلكت البلاد والعباد… حمى الله الاردن.
التعليقات مغلقة.