المفكر الإقتصادي غازي أبو نحل يكتب: تضميد جراح الإقتصاد العالمي على قاعدة التضامن في مواجهة الكارثة

غازي أبو نحل* – الثلاثاء 5/1/2021 م …  




* رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D

والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية

أعود مرة جديدة للكتابة حول الأثار الإقتصادية المدمّرة لجائحة كوفيد-19، فيما يشبه جردة عامٍ مضى وآخر يطلّ حاملًا معه بشائر الحدّ من إنتشار هذا الوباء تمهيداً للقضاء عليه.

ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها العالم لهجمة وباء. الطاعون والإنفلونزا الإسبانية مثالان صارخان إلى قوة الأوبئة وضخامة الأرواح التي حصدت.

لكن الهجمات الكبرى السابقة كانت قبل أن يتسلّح الإنسان بهذا التقدم العلمي الذي حصَّنه وحسَّن ظروف معيشته، وقبل الثورات التكنولوجية المتعاقبة التي ضاعفت قدراته في وجه اعداء صحته: مستشفيات، مختبرات، أدوية وأمصال تروي تجارب نجاح في مسيرة رفاهية الإنسان وسلامته. ربما لهذا السبب أصيب العالم بما يشبه الذعر. الشهور الماضية ضُخَّت في عقول الناس أمواجٌ من الكآبة. بدا العالم عالقاً في فخ كورونا من دون وعد قريب بالخروج أو الإفلات.

الاقتصاد العالمي: آلامٌ وتحفيزات

لم يشهد الاقتصاد العالمي أزمة مثل تلك التي تسبب بها انتشار فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، حيث طالت التداعيات كافة مناحي الاقتصاد وقدرّت الخسائر جراء ذلك بنحو 28 تريليون دولار، حسبما ذكر صندوق النقد الدولي في آخر إحصاءاته في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فضلًا عن تباطؤ معدلات نموه وضرب مقومات العرض والطلب، بسبب فرض قيود الحجر الصحي وحالة الذعر لدى المستهلك، في ظل التوقعات باستمرار آثار تلك الأزمة لسنوات عديدة.

لكن المثير للقلق هو مخاوف استمرار تلك التداعيات لفترة ليست بالقليلة، وهو ما قالته المستشارة الاقتصادية في صندوق النقد، جيتا جوبيناث، حيث رجّحت استمرار الضغوطات لفترة طويلة وسط درجة مرتفعة من الشكوك في ظل وجود توقعات بحدوث موجات أخرى من العدوى بالفيروس، ما سيؤدي إلى زيادة الإنفاق على مكافحة الوباء وتقييد اسعار الفائدة والظروف المالية ما يجعل الديون العالمية تتفاقم أكثر وأكثر.

وتوقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أن تخسر أغلب اقتصادات العالم حوالي 2.4% من ناتجها المحلي على مدار 2020، ومن المرجح أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 4% هذا العام، كما تراجع حجم التجارة العالمي بنسبة 20% وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 40% وهبطت أحجام التحويلات بمقدار 100 مليار دولار.

وبسبب تلك الأزمة تأثّرت قطاعات كبرى كالسياحة والطاقة وقطاع النقل الجوي، والذي حذّر الاتحاد الدولي للنقل الجوي “اياتا” في تقرير من تفاقم الأضرار التي لحقت به بسبب الفيروس وتداعياته والمتمثلة في توقف الحركة الجوية، متوقعًا أن تخسر منطقة الشرق الأوسط نحو 1،7 مليون وظيفة في قطاع النقل الجوي والقطاعات المرتبطة به خلال عام 2020، ويمثل هذا الرقم نحو نصف عدد الوظائف المرتبطة بقطاع النقل الجوي في المنطقة والبالغ عددها 3،3 ملايين وظيفة.

في مقابل هذا الواقع، ساعدت التدابير المالية التي أعلنتها العديد من حكومات العالم والتي وصلت إلى 20 تريليون دولار على تخفيف التأثيرات السيئة التي تعرضت لها الشركات والعمّال بسبب الوباء الذي تسبب في إغلاق المصانع والشركات معظم الشهور الماضية وحظّر حركة الناس، ما أدى الى هبوط الطلب وضعف الحركة الشرائية، لكنها في الوقت نفسه سبّبت أضرارًا مضاعفة.

فقد دفعت الأزمة الى تفاقم المديونيات وعدم الثقة في عملات دول كبرى في العالم وهي الإشكالية التي ستظهر بصورة جلية خلال أعوام 2021 و2022 وسط لجوء جميع البنوك المركزية الى تخفيض نسب الفائدة لتحفيز الاقتصاد الذي يعاني تباطؤاً بسبب كورونا.

فالدول حتى لا تتوقف حركة اقتصاداتها ضخت مزيدًا من السيولة في الأسواق، وهو الأمر الذي سيخلق تضخمًا، وهذا التضخم الرأسمالي ستستطيع بعض الدول إدارته بصورة جيدة والبعض الآخر ربما تفلت الأمور من يديه بسبب إرتفاع نسبة الديون للناتج المحلي.

ودفعت نسبة الديون العالمية الناتج الاقتصادي العالمي الى اكثر من 100% لأول مرة كما جاء في تقرير النظرة المستقبلية الذي أصدره صندوق النقد الدولي مؤخرًا، حيث أكد فيه أن الزيادة في هذه النسبة اقتربت من 19 نقطة مئوية لتتجاوز بكثير ما حدث في عام 2009 اثناء الأزمة المالية العالمية.

مخاوف ومستويات قياسية

إن الاقتصاد العالمي لا يتحمل موجة ثانية لتفشي کورونا، وهناك توافق دولي على عدم تكرار سيناريو الإغلاق الكامل الا أنه قد يكون مطروحًا حسب قوة الموجة. إن عقارًا فعالًا هو الأمل الوحيد لاستمرار وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي وتعويض الخسائر التي تكبّدها.

في اعتقادنا أن سياسات البنوك المركزية للانقاذ ستستمر إذا لزم الأمر، والشيء الوحيد الذي من المتوقع أن يظل داعمًا للاقتصاد هو السياسة النقدية، فمن المهم أن نلاحظ أن احتمال حدوث الموجة الثانية يعتمد على مدى سرعة وفعالية اللقاحات المتوافرة حاليًا والمناعة التي تحققها للمجتمعات وضمن أية هوامش زمنية، وما إذا كانت أنظمة الرعاية الصحية حول العالم لديها القدرة على التعامل مع تدفّق المرضی بكثرة اذا لزم الأمر.

إن مخاطر موجة ثانية قد تعصف باستقرار أسواق النفط مع انكماش الطلب المتوقع، كما سيؤثر على أسواق الأسهم التي إستعادت عافيتها إلى حد ما في بعض الأوقات وبدأت تحقيق مستويات قياسية لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، فضلًا عن زيادة الإقبال على الملاذات الآمنة، الأمر الذي زاد من الطلب على الذهب، مما أنعش أسعاره لتجاوز مستويات 2000 دولار للأوقية ثم الى 2300 دولار.

لا يتحمل النظام المالي العالمي تقديم برامج تحفيز مالي مثل ما قدمته خلال الجائحة والتي فاقمت أوضاع الديون وزادت مستويات السيولة في الأسواق بشكل يهدد ظهور فقاعة من الديون إذا فشلت الشركات في سداد القروض مع موجة تفشّي ثانية.

طالت الخسائر غير المسبوقة على الاقتصاد العالمي جميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دولة الأخرى حسب ملاءتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكّنها من الانفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد ما بعد كورونا.

تأثيرات سلبية ومستفيدون

رغم الاتفاق على أهمية خطط التحفيز الضخمة التي رصدتها الحكومات حول العالم للتعافي من تداعيات الفيروس، الا أنها حملت معها تأثيرات سلبية تستمر بالضغط على الاقتصاد العالمي بعد إنقضاء الجائحة.

صحيح ان خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورة قصوى لتجنّب الدخول في كساد عظيم، إلا ان هذه الخطط أغرقت العالم بالسيولة والقروض الرخيصة التي أغرت المتعثرين وغير المتعثرين في الاقتراض بنحو لافت رغم ضبابية المشهد الاقتصادي.

وعلى أعتاب الخسائر التي أدّت إلى شلل في الاقتصاد العالمي، نتوقع أن تكون هناك دول غير قادرة على تخطي النتائج الفادحة التي خيّمت على نشاطها المالي والتجاري، وتبقی الدول القوية التي تمتلك الاحتياطيات الجيدة إضافة إلى الصناديق السيادية، هي المؤهلة لتخطي الركود المتوقع، كذلك بعض دول الخليج التي حافظت على أسس اقتصادية جيدة رغم الخسائر. إن دعم القطاع الخاص والعمل على إعادة برامج الإنفاق والتوجه نحو تنوّع الاقتصاد كل ذلك سوف يعزز من الاستقرار في الاقتصاد العالمي.

التحفيز سلاح ذو حدين، لأنه في حالة تعافي الاقتصادات بصورة سريعة ورجوع الاقتصادات العالمية إلى ما كانت عليه، سيكون ذلك بمثابة تمويل قصير الأجل، ساعد في تعافي الأسواق والحفاظ على عدم حدوث خلل في الاقتصاد العالمي. في المقابل، في حالة عدم التعافي السريع سوف يدخل السوق العالمي في موجة من التضخم أو الكساد التضخمي، أي زيادة الأسعار مع إنخفاض انعدام القدرة الشرائية لدى المستهلكين، مما يكون له أثر سلبي كبير على الاقتصاد.

أظهرت تقارير أن هناك عددًا من القطاعات سوف تتصدر المشهد الاقتصادي العالمي جرّاء إنتشار الفيروس، أولها: “الصيدلة والمعقّمات” والتي لمع بريقها مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث تسبب الانتشار في تهافت الناس من جميع أنحاء العالم على الصيدليات بقصد شراء المطهرات والمعقمات والفيتامينات والأقنعة “الكمامات” وغيرها من الأدوية بهدف الاحتفاط بكمية مناسبة منها للاستخدام الشخصي.

وجاء قطاع التجارة الالكترونية ثانيًا حيث ازدادت عمليات الشراء عبر الانترنت نتيجة تجنب الأماكن العامة، وشهدت عمليات التجارة الإلكترونية المرتبطة بقطاع التجزئة نموًا ملحوظًا بالإضافة إلى زيادة عدد زوار المواقع المخصصة بعرض المنتجات وزيادة اعداد الذين يقومون بعمليات الشراء.

احتلت التطبيقات الذكية ثالث القطاعات المتصدرة، ففي ظل الوضع الراهن ورغبة العديد من العملاء في تجنب الخروج من المنزل والاختلاط بالعامة قدر الإمكان، ارتفع الطلب على التطبيقات الذكية التي تساعد في تقديم الخدمة عن بعد.

وجاء قطاع التعليم عن بعد وكل مخرجاته الاقتصادية رابع القطاعات الأكثر نموًا على المستوى العالمي، حيث قامت معظم دول العالم مؤخرًا بتطبيق نظام التعليم عن بعد في مدارسها وجامعاتها.

وجاء قطاع تأسيس منصات الذكاء الاصطناعي خامس أهم القطاعات حيوية مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي على خط المواجهة ضد تفشي كورونا بشكل كبير وذلك من خلال استخدام البرامج التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإيجاد الحلول المباشرة في ظل التباعد الاجتماعي المفروض.

أما علی صعيد القطاعات الأكثر تضررًا من جرّاء انتشار الجائحة عالميًا، كان قطاع السياحة والسفر الأكثر تضررًا، حيث تشهد معدلات السياحة العالمية تراجعًا ملحوظًا بسبب انتشار الجائحة، ويمثل التراجع ما نسبته 1-3. %

وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام تراجعت حركة السياح الأجانب إلى الدول بأكثر من النصف وتمت خسارة نحو 320 مليار دولار من العائدات السياحية، وقد تصل الخسائر الإجمالية لعام 2020 الى اكثر من 900 مليار دولار، بحسب ارقام الأمم المتحدة.

واحتلّ قطاع “الطيران” ثاني القطاعات الأكثر تضررًا، حيث تأثرت شركات الطيران بشكل خاص بإنتشار فيروس كورونا بسبب تطبيق قيود السفر في معظم دول العالم، حيث قال الاتحاد الدولي للنقل الجوي “إیاتا” إن خسائر القطاع تبلغ 419 مليار دولار حتى الآن.

واحتل قطاع الفنادق وخدمات الضيافة ثالث القطاعات الأكثر تضررًا، ويشار إلى أن الأسعار المتعلقة بحجز الفنادق قد انخفضت بشكل كبير.

ويمثل قطاع “التصدير” رابع أكبر المتضررين، حيث انخفضت صادرات الصناعات التحويلية في جميع أنحاء العالم.

كما تضرر قطاع الخدمات اللوجيستية بسبب انتشار الفيروس. ويعد قطاع “التجارة والخدمات” أحد أهم المتضررين نتيجة الجائحة، كما أن قطاع السیارات يعتبر أحد أبرز القطاعات المتضررة عالميًا.

ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية، أن 200 مليون من الموظفين بدوام كامل فقدوا وظائفهم بسبب “كوفيد_19” بعد فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول، وما حمله ذلك من تأثير على نحو 2،7 مليار عامل، أي 4 من بين كل 5 من القوى العاملة في العالم.

أنهك الوباء العالم الذي توهّم أن الأوبئة القاتلة صارت جزءًا من الماضي. أنهك البشر وسجّل في القتل رقماً مخيفاً وفي الإصابات رقماً مقلقاً. أنهك الدول أيضا.ً هزّ الاقتصادات وشلّها وفكّك سلاسلها وعطّل مصانعها وأسكت الطائرات والقطارات. ضرب السياحة وترك الفنادق والمطاعم والأسواق في عهدة الفراغ والكآبة. دفع عشرات الملايين إلى البطالة وعدداً هائلاً من الشركات إلى الإفلاس.

أفقر الوباء الناس ووزّع عليهم أرغفة الخوف والقلق وأرغمهم على الإقامة وراء كماماتهم يتساءلون يومياً عن الأرقام القياسية الجديدة التي حققها هذا القاتل المتسلسل. قَصَمَ الوباء ظهر المستشفيات وأصاب الأطقم الطبية. ضرب المحاصيل وألحق ضرراً فادحاً بالتعليم.

كان العالم في أمسّ الحاجة إلى بارقة أمل. أملٌ في إكتشاف اللقاح ووصوله إلى الجميع وأملٌ في تضميد جراح الاقتصاد العالمي على قاعدة التضامن في مواجهة الكارثة ومساعدة الدول التي ترزح تحت أعباء الديون أو الفقر. من حسن الحظ أن قمة الرياض لمجموعة العشرين بعثت برسالة الأمل هذه، عبر التأكيد على “توزيع عادل ميسَّر للقاحات” والتشديد على “حشد طاقات الدول المشاركة لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي نجمت عن الجائحة”. وقد بدأ العالم يلمس جدية هذه التأكيدات، على رغم ملاحظة اللاعدالة الموصوفة والمعايير المزدوجة التي تطبّق وتميّز بين دول غنية وأخرى فقيرة.

ونحن نودع العام 2020، نرجو أن يحمل العام 2021 معه عودة الرجاء والأمل بإنتهاء مرحلة تُعتبر الأسوأ في التاريخ الحديث، والبدء في إعادة ترميم وإعمار ما دمّرته جائحة أثقلت كاهل البشرية وهي ستترك ندوباً عميقة في مختلف قطاعاته الاقتصادية لأعوام طويلة.

وكل عام وأنتم بخير.

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.