بين العرب وبريطانيا تاريخٌ ناطق “العراق نموذجاً” / موسى عباس
القوّات البريطانية تدخل “بغداد”11آذار 1917
موسى عبّاس ( لبنان ) – الثلاثاء 12/1/2021 م
واقعاً الأمّة العربية كانت موجودة قبل تقسيمها إلى دويلات وإمارات ومشيخات في اتفاقية سايكس_بيكو في 31 أيّار من العام 1916.
منذ تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى في صدر الإسلام وحتى سقوط بغداد على يد الجنرال الإنكليزي”فريدريك ستانلي مود“عام 1917, حتى ذلك التاريخ الذي سجّل بداية النهاية لزمن الإستعمار العثماني الذي انتهى عام 1918 كانت أرض العرب أو بلاد العرب يجوبها الأفراد والجماعات والقوافل من الأطلسي غرباً وحتى الخليج العربي شرقاً ومن البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس وكردستان شمالاً حتى شواطىء المحيط الهندي جنوباً دون أي عائق حدودي أو حاجز جمركي أو تأشيرات دخول :”كانت أمّة وبعد ذلك التاريخ أصبحت أُمَماً”بجميع المفاهيم السياسيّة والجغرافية والإجتماعية وحتى التاريخية والدينيّة .
سياسيّاً : كلٌّ بات يُغنّي على ليلاه يتآمرون ويتجسّسون على بعضهم البعض خدمةً لمصالح الغرب .
جغرافياً : حدود اصطُنِعت أقامها الإستعمار لمنع أيّ امكانية للتلاقي أو إعادة التوحيد.
اجتماعياً : تكريس القُطريّة وزرع التفرقة العنصرية.
تاريخيّاً : بات لكلّ بلدٍ تاريخه الخاص فيه ولم يَعُد هناك قضيّة تجمع بل قضايا تفرّق.
دينيّاً : أصبح الدين عند البعض أداةً إرهابية وحجّة لقتل البعض الآخر .
ولدى البحث عن الأسباب الجوهريّة للتمزّق والتشرذم تجد أن الدافع الأوّل والمحرّك هو الأستعمار البريطاني والفرنسي ، لكن الإنكليز من أكثر المحرضين والمشجّعين والداعمين
والعاملين على تجزئة العالم العرب
وتفتيته
بات حِلُم الوحدة مُجرّدُ شِعارٍ باهت حتى بين سوريّا والعراق اللذان رفعا نفس الشعار “أمّة عربيّة واحدة” منذ تولّي حزب البعث العربي الاشتراكى الحكم في كلا البلدين منذ ستينات القرن الماضي إلى أن أسقط الأمريكيون وحلفاءهم البريطانيين نظام البعث في العراق في نيسان2003
وعندما انحسر الدور البريطاني بعض الشيء تولّى الأمريكيون المَهَمّة.
في زمن العثمانيين جرت محاولات تمرّد على السلطة المركزية بعضها كان ينطلق من فكرة استقلالية محليّة لمناطق معيّنة كما في جبل لبنان زمن الأمير فخر الدين الثاني، كذلك من قبل الأمير بشير الشهابي،
الأوّل فرّ إلى إيطاليا قبل أن يعود مجدّداً والثاني فرّ على متن بارحة انكليزية مما يعني أنّ الغرب كان المحرّض .
حاكم ولاية مصر “محمّد علي باشا” الغير عربي بمفهوم النّسب سعى لتوحيد بعض مناطق العالم العربي تحت سلطته لغاية توسُعيِة ،تلك المحاولة وأدها الإستعمار البريطاني الذي أنقذت أساطيله جيوش السلطنة العثمانية من الهزيمة الكاملة أمام قوّات محمد علي باشا التي كان يقودها ابنه ابراهيم باشا في 21 كانون الأوّل من العام 1832 على حدود “الأستانة” عاصمة الدولة العثمانية.
—لماذا لم تكن بريطانيا ترغب في هزيمة العثمانيين ؟
لسببين اثنين:
1—الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف كان ينخرها سوس الفساد ليس فقط في ولاياتها الممتدة شرقاً وغرباً وإنّما أيضاً في مركزها في العاصمة ، الأمر الذي سهّل للأوروبيين التدخّل في شؤونها وعقد اتفاقيات غير متكافئة معها بذريعة حماية مصالحها وحماية الأقليات الدينية والإثنية الذين كانوا خاضعين للسلطنة ،وهذا أدّى لاحقاً إلى سهولة تفكيكها وإنهيارها وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
2-الأوروبيون بشكل عام وبريطانيا بشكل خاص ، يعرفون التاريخ العربي القديم درسوه جيّداً ولم ينسوا الفتوحات العربية الإسلامية التي وصلت إلى فرنسا غرباً وإلى الصين شرقاً، ولا هزيمة الصليبيين في معركة “حطّين”على يد “صلاح الدين الأيّوبي”.
لذا كانوا يدركون أنّ الإمبراطورية الضعيفة خيرٌ لهم من دولة عربيّة موحّدة ممتدة شرقاً وغرباً تمتلك ثروات هائلة وطاقة بشريّة ضخمة،قد تؤرّقهم مستقبلاً.
–دور الإستخبارات في إنشاء الدول وترسيم حدودها:
منذ عقود طويلة قبل الحرب العالمية الأولى والإستخبارات البريطانية تحوك المؤمرات ضد المنطقة العربية خاصّةً والشرق عامّةً، مجنّدَة كل من كان من مواطنيها له علاقة بتلك المناطق ذات المواقع الإستراتيجية والغنيّة بالثروات الطبيعية والتي تتحكّم بممرات ومضائق بحريّة هامّة .
وقصّة ضابط الإستخبارات البريطاني “توماس إدوارد لورنس”الذي عُرِفَ بإسم “لورنس العرب “معروفة والمَهمّة التي نفّذها في تحريض “الشريف حسين” شريف مكّة ًوأمير الحجاز للثورة ضد الأتراك والدور الذي لعبه لاحقاً في هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى .
الإستخبارات لم تُجنِّد فقط عسكريين وإنّما أيضاً تجّاراً ورجال أعمالٍ ومراسلين صحفيين وعلماء آثار وحتى الراقصات لتنفيذ مُخططاتها الإستعماريّة ليَسهُل عليها التحكّم بمصائر الشعوب والهيمنة عليها ولسلب ثرواتها .
من أهم الشخصيّات التي عملت لمصلحة الإستخبارات البريطانية “عالمة الآثار الإنكليزية غيرترود بيل” التي كان لها الدور الهام في تحديد حدود العراق في اتفاقيّة “سايكس بيكو ” كما في جعل العشائر العراقيّة توافق على اختيار “فيصل بن الحسين ” ملكاً على العراق في مؤتمر القاهرة الذي عُقد برئاسة وزير المستعمرات “ونستون تشرشل”، فكيف تمّ ذلك؟
تخرّجت “غيرترود بيل“وهي ابنة إحدى العائلات الثريّة من جامعة أوكسفورد حاملةً درجة إمتياز في إختصاص التاريخ وذلك في العام 1889.
بعد ثلاث سنوات فرّرت مغادرة لندن والقيام بأنشطة رياضية سياحية فسافرت إلى سويسرا وتسلقت احدى أعلى القمم في مقاطعة “بيرن” والتي يبلغ علوّها 2633 متراً وأصبحت تلك القمّة تُعرف باسم “قمّة غيرترود”، لكنّ قراءاتها التاريخية عن الشرق وعن الصحراء ألهبت خيالها وجذبتها في رحلة طويلة إلى بلاد فارس ومن ثمّة إلى الصحراء السوريّة العراقية عام 1892.
بدأت في دراسة اللغة العربية وعلوم الآثار وجالت بين المناطق الصحرواية وبين القبائل وفي الأرياف والمدن لسنوات وباتت متمرّسَة وخبيرة بالعلاقات بين قبائل المنطقة وتعرفهم جيّداً كما يعرفونها جيّداً، تنقلّت على ظهور الجمال وباتت في الخِيَم وأكلت مع شيوخ القبائل وتحدّثت معهم بلُغتِهم وتعرّفت على مواقفهم وطروحاتهم السياسية فباتوا يثقون بها ويعتبرونها عربيّة وليست غريبة عنهم ويصفونها “بالمرأة القويّة والشجاعة” وأطلقوا عليها لقب “ملكة الصحراء” .
—دور”بيل” في تشكيل العراق:
في أحد أيّام شهر تشرين الثاني من العام 1915 أي بعد سنة من إندلاع الحرب العالميّة الأولى وبعد هزيمة الأسطول البريطاني أمام العثمانيين في معركة “شبه جزيرة غاليبولي ” وفشل محاولة السيطرة الفعلية على مدينة “كوت العمارة” في العراق ، في ظل تلك الظروف الحرجة للإمبراطورية استلمت “غيرترود” برقية من “لندن “مفادها:
“إنّ الإمبراطوريّة بحاجة لكِ“.
غادرت العراق إلى بريطانيا حيث كانت الإستخبارات تبحث عن معلومات عن وضع القبائل في العراق ومدى تأييدهم للتعاون مع الإنكليز للتخلص من حكم العثمانيين.
طبعاً ، قدّمت “غيرترود بيل” كنز معلوماتها الذي جمعته طيلة سنوات خدمةً لدولتها، بعد ذلك انتقلت من لندن إلى القاهرة وبعد فترة عمل قصيرة أمضتها في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة تمّ انتدابها رسميّاً إلى العراق من قبل نائب الملك في المستعمرات الممتدة من الهند إلى البصرة.
في آذار من العام 1916 وصلت إلى ميناء البصرة العراقي سفينة حربية انكليزية قادمة من مصر نزلت منها “ الماجور بيل ” أوّل إمرأة تحمل رتبة عسكرية كضابط مخابرات .
بعد وصولها مباشرةً بدأت العمل على رسم الخرائط التي ستُسهّل على الجيش الإنكليزي الوصول إلى بغداد، كذلك بدأت بعملٍ آخر برعَتْ فيه جدّاً وهو وضع ملفّات عن القبائل وعن زعمائها ، من منهم مستعدٌ للتعاون مع الإنكليز ومن يرفض ذلك.
وباشرت بتحريض أبناء القبائل ضدّ من لا يرغب من شيوخهم بالتعاون مع الإنكليز ، كما عملت على تأليب تلك القبائل ضدّ بعضها عَبْرَ إثارة النعرات العرقية والطائفية والمذهبية والعنصريّة بينهم منفّذَةً السياسة التي اشتهر بها البريطانيون :
“فرّق تَسُدْ”.
في العام 1917 أصبحت سكرتيرة الشؤون الشرقية وساهمت بفعالية في وضع الإطار السياسي للدولة العراقية المُقبلة التي ستنشأ برعاية بريطانيا ، وكانت تعمل على تجميع الولايات المتفرّقة”البصرة وبغداد والموصل ” وضمّها إلى باقي المناطق لتشكيل دولة جديدة موّحدة ، تنفيذاً لما كانت وعدت به العراقيين بإنشاء حكومة عربية وحكم ذاتي لهم ،هذا العمل كان محلّ اعتراض من العديد من السياسيين الإنكليز المعنيين بشؤون المنطقة الذين كانوا يرفضون فكرة أن يصبح العراق دولة ذات كيان مستقِل ولو تحت إسم الحكم الذاتي.
في شهر أيّار من العام 1920 اندلعت ثورة العشرين ضد الإحتلال الإنكليزي وضد سياسة تهنيد العراق والسّعي لإعلان ضمّه لبريطانيا.
—دور ” غيرترود بيل”في تتويج فيصل ملكاً على العراق:
فشلت القوات البريطانية في قمع الثورة واستُدعيَت “غيرترود بيل”للمشاركة في مؤتمر القاهرة عام (1921)الذي حضره أربعون شخصيّة إداريّة سياسية وعسكريّة والذي يعتبر من أهم المؤتمرات التي تحدّد فيها مصير العرب في مصر والعراق وفلسطين والأردن وشبه الجزيرة العربية بعد سقوط الامبراطورية العثمانية واحتلال بريطانيا للمنطقة في الحرب العالمية الاولى. واستطاعت “المايجور بيل”اقناع وزير المستعمرات “وينستون تشرشل” والمجتمعين بضرورة اعطاء حكم ذاتي للعراق وإنشاء حكومة ودستور وإجراء انتخابات لتعيين حاكم للعراق، معتبِرةً أن الملك فيصل الذي طرده الفرنسيون من مُلك سوريا هو الأجدر لحكم العراق وسيبقى وفيّاً لبريطانيا العُظمى ،وتكفّلت بإقناع الزعماء العراقيين بتأييد انتخابه ، وهذا ما حدث حيث جابت أرجاء العراق وعقدت عشرات الإجتماعات مع زعماء القبائل لتحقيق تلك الغاية ونجحت في إيصال مُرشّحها فيصل لحكم العراق الذي تُوِّجَ في 23 آب من العام 1921.
في اليوم التالي أعلنت المايجور “غيرترود بيل ” التصريح الأخير لها:
“قضيت صباحاً مفيداً في المكتب لرسم الحدود الصحراوية الجنوبية للعراق”.
في الثاني عشر من شهر تمّوز 1926 توفّيت “ملكة الصحراء ضابط الإستخبارات غيرترود بيل” ودُفِنت في العراق.
هكذا ومنذ قرنين من الزمن والإستخبارات البريطانية خاصّة تتحكّم حيث استطاعت
بمصير أمّة بأسرِها كانت خيرَ أمّةٍ أُخرِجتْ للنّاس، والسبب الرئيس الخيانة.
ألم يَقُلُ رئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرشل” يوماً :
“إذا مات العرب ماتت الخيانة“.
ليس عبثاً أن يرى رئيس وزراء وكاتب ومفكر بريطاني، في القرن العشرين أن العرب هم الخيانة بعينها، ونحن اليوم بعد مائة عام عن ذاك الزمن نعيش أقصى درجات خيانتهم لدينهم ومقدساتهم، ولعروبتهم وتآمرهم مع غاصبٍ محتل ضدّ إخوانهم في الدين والعِرقْ.
التعليقات مغلقة.