في ذكرى اغتيال “باتريس لومومبا” 17 كانون الثاني/يناير 1961 – 2021م / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 20/1/2021 م …
** للمزيد عن المناضل الأممي يمكن الدخول إلى الرابط التالي:
كانت بلجيكا تستعمر ثلاث بلدان إفريقية، بين سنتَيْ 1901 و 1962 (رواندا وبوروندي والكونغو)، وكانت تتقاسم الكونغو مع فرنسا، وتفوق مساحة مستعمرتها (الكونغو “البلجيكي) 76 ضعف مساحة بلجيكا، بالإضافة إلى بعض المناطق الصغيرة، ذات الأهمية الإستراتيجية في المُحيطات، منذ 1843، وتعتبر الكونغو من أكبر المناطق كثافةً سُكّانية وثراءً في إفريقيا الغربية آنذاك، ولا تزال الكنغو الديمقراطية (الجزء الذي كانت تحتله بلجيكا) تُعاني من الحُرُوب التي تُشعلها الشركات الأجنبية، من أجل السيطرة على ثرواتها، فهي تُنتج حوالي 75% من الماس الصناعي العالمي و15 من الماس الطبيعي، و 69 من الكوبالت، و9 من البلاتين و 8 من النحاس و 3 من الزنك و 2 من الإنتاج العالمي للذهب، وتبذل شركات أوروبا وأمريكا الشمالية ما في وسعها، باستخدام كافة الوسائل للسيطرة على هذه المعادن…
أسّس ملك بلجيكا “ليوبولد الأول” شركة ضخمة في الكونغو، واعتبر البلاد مِلْكيّة خاصّة له، منذ سنة 1885، إثر مؤتمر برلين (من 15/11/1884 إلى 28/02/1885) وانتقلت “مِلْكِيّة” هذا البلد الإفريقي إلى دولة (مملكة) بلجيكا سنة 1908، “لنَشْر الحضارة والتّقدّم” كما ادّعَت كل القوى الإستعمارية.
نشطت الحركات المُطالِبَة بالإستقلال، منذ السنوات التي تَلت الحرب العالمية الأولى، ومن أشهرها احتجاجات سنة 1928 (بحسب التّاريخ المكتوب والمُوَثّق)، ونجحت سُلُطات الإستعمار في تقسيم السّكّان، وشجعتهم على تبجيل الإنتماء إلى أثنيات وقبائل، بدل الإنتماء الوطني، إلى غاية الفترة التي تَلَت الحرب العالمية الثانية، حيث نظم السّكّان المَحلّيّون، خصوصًا سنتَيْ 1958 و 1959، احتجاجات وتجمّعات ضخمة (بمعدّل عشرة آلاف متظاهر، في كل احتجاج) تُطالب باستقلال البلاد، وتأسست، إثر تلك الإحتجاجات، حركات وطنية، غير قائمة على أُسُس قَبَلِيّة، ويُعدّ حزب “الحركة الوطنية الكونغولية”، الذي وقع الإعلان عنه رسميا، في تشرين الأول/اكتوبر سنة 1958، أهم الأحزاب الوطنية، ويدعو إلى تأسيس دولة مركزية مستقلة عن القوى الإستعماري، وانتُخِبَ “باتريس لومومبا” ( 02 تموز/يوليو 1925 – 17 كانون الثاني/يناير 1961) أمينًا عامًّا، وبعد أقل من سنة واحدة، اعتقلته سلطات الإستعمار البلجيكي، في تشرين الأول/اكتوبر 1959، وخلق الإستعمار انقسامًا داخل الحزب، ودعم جناحًا يمينيّا داخله، وقاد الجناح اليساري للحزب نضالات استمرت منذ اعتقال “باتريس لومومبا” حتى نهاية سنة 1959، ووافقت بلجيكا على استقلال البلاد، بداية من يوم الثلاثين من حزيران/يونيو 1960، وكان تعداد الكنغوليين حوالي 13 مليون نسمة، لم يكن بينهم سوى 16 متخرجًا جامعيا (عن “والتر رودني”، مؤلف كتاب “التخلف في إفريقيا” )، وحصل حزب الحركة الوطنية على أغلبية المقاعد، خلال الإنتخابات التي أشرفت عليها بلجيكا، ليصبح “لومومبا” رئيسًا للحكومة، لفترة لا تزيد عن عشرة أسابيع، قبل أن تعتقله السلطات البلجيكية، التي لا تزال تُشرف على إدارة شؤون البلاد، خلال “المرحلة الإنتقالية”، في أيلول/سبتمبر 1960، لأنه استنجد بالإتحاد السوفييتي ليساعده على إنجاز برنامج تنمية، ونَصّبت بلجيكا مكانه أحد عملائها (موسى تشومبي)، الذي قاد (بإشراف بلجيكا) حركة انفصالية تُطالب باستقلال إقليم “كاتنغا” الغني بالمعادن، كالنّحاس واليورانيوم، ويضم حوالي 60% من ثروات البلاد، ثم أعلنت مقاطعة “كاساي” انفصالها، بدعم من بلجيكا أيضًا، والقوى الإستعمارية الأخرى، وجنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، ووقع اغتيال “باتريس لومومبا” يوم السابع عشر من كانون الثاني/يناير 1961، بإشراف ستة من عناصر الجيش والشرطة البلجيكية، بحسب ما ورد في تقرير لجنة برلمانية بلجيكية، درست، سَنَتَيْ 2001 و 2002، ظروف استعمار الكونغو، وظروف اغتيال “باتريس لومومبا”، وحَمّلت مسؤولية الإغتيال للدّولة المُسْتَعْمِرَة، كما اعترف رئيس وزراء بلجيكا، سنة 2019، بمسؤولية دولة بلجيكا الإستعمارية عن اختطاف ما لا يقل عن عشرين ألف طفل، وُلدوا من آباء بلجيكيين وأُمّهات إفريقيات، في مُستعمرات إفريقيا (الكونغو ورواندا وبوروندي)، وتكفلت مؤسسات مسيحية كاثوليكية برعاية هؤلاء الأطفال الذي بقي بعضهم بدون جنسية، وأظهرت وثائق تاريخية، منها بحوث جامعية، أن ظروف الإستعمار والعمل المجاني (نظام السّخرَة) أدّى إلى قتل ما لا يقل عن عشرة ملايين كونغولي (أي أقل بقليل من عدد سكان بلجيكا حاليا، الذي لا يصل إلى 12 مليون نسمة)، وكان الملك “ليوبولد الأول” يملك شركةً لاستخراج المطاط في الكونغو، منذ 1885، وسجّل البلاد باسمه، كما ذَكَرْنا، وأجبر السّكّان المَحَلِّيِّين على العمل، وإنتاج قدر يُحَدّدُهُ الملك، أو من يُمثله، ويتم قطع أيْدِي من لا يكون إنتاجه كافيا، كما وقع إقرار نظام الفصل العنصري التّام، بين البيض الأوروبيين والسكان المحليين، ولذلك رفض الآباء (والسلطات الإستعمارية) الإعتراف بالأطفال المولودين من علاقة مختلطة، بحسب الباحث “رومان لاندميترز” (جامعة سانت لويس – بروكسل)، وللتذكير فإن بلجيكا ورثت عن ألمانيا مُسْتَعْمَرَتَيْ “بوروندي” و “رواندا”، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية…
كان “باتريس لومومبا” من القلائل الذين تمكنوا من الدّراسة في مدارس الكنيسة الكاثوليكية، وأصبح موظفًا بالبريد، في سن التاسعة عشر، ولما احتج على المَيْز العُنصري، اتّهم بالسرقة، ووقع فَصْلُهُ من العمل وسجنه، ما اضطره، بعد خروجه من السّجن لممارسة عدّة مهن، ومتابعة الدّراسة في ظروف صعبة، قبل تأسيس حزب الحركة الوطنية الكونغولية، وصحيفة “الإستقلال” التي كان يرأس هيئة تحريرها، وتمكّن من الإحتكاك مع زعماء تقدّميين من إفريقيا، كجمال عبد الناصر وكوامي نكرومه، وشارك في المؤتمر التحضيري لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية (كانون الأول/ديسمبر 1958)، واستلهم من تجاربهم شعارات الوحدة الوطنية والإستقلال التّام، وأشارت تقارير السلطات الإستعمارية إلى “مُيُوله الإشتراكية”، وإلى خُطَبِهِ ومقالاته الحَماسِيّة، واستشهاده بالتقارير والبحوث البلجيكية، لاستخدامها (ضد المُسْتَعْمِر)، بلغة مُبَسّطة”، وكان يستخدم الإحصاءات البلجيكية ليُندِّدَ بتهريب الأموال والثروات من الكونغو نحو بلجيكا، ما جعله يحظى بشعبية كبيرة، ولذلك حصل حزبه على أغلبية ساحقة، بحوالي 90% من الأصوات في أول انتخابات عامة، أشرفت عليها بلجيكا، بمشاركة حوالي مائة قائمة…
قُتِلَ “باتريس لومومبا”، مع رئيس مجلس الشيوخ (جوزيف أوكيتو)، ووزير الإعلام (موريس موبولو)، بحولي نصف كيلوغرام من الرّصاص، وأصدر الإتحاد السوفييتي طابعًا بريديا، سنة 1961، تكريمًا له وتخليدًا لذكراه، فيما تكفّلت البعثة المصرية التابعة للأمم المتحدة بالكونغو، برئاسة “سعد الدين الشاذلي”، و”عبد العزيز إسحاق”، صديق لومومبا، بحماية أُسْرة لومومبا، وتهريب أفرادها، ثم تمتعت بحماية الدّولة المصرية…
ملاحظة: بعد الإفراج عن وثائق رسمية بلجيكية، خاصة بين سنتَيْ 2013 و 2018، نُشرت بعض الكُتب في بلجيكا وهولندا وإفريقيا الفرنكفونية عن وقائع استعمار الكونغو وعن اعتقال واغتيال “باتريس لومومبا”، وعن دَوْر الدّولة البلجيكية…
التعليقات مغلقة.