ثقافة الالتزام / د. بثينة شعبان
د. بثينة شعبان ( سورية ) – الربعاء 20/1/2021 م …
حين كنّا طلاب جامعيين في سبعينيّات القرن الماضي، كان ينطبق علينا المثل القائل: “قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت”. وكان أوّل سؤالٍ يسأله الطالب لزميله ما هي الكتب التي يقرؤها فيكون الجواب كافٍ ليصدر الحكم الفوري ما إذا كان هذا الطالب شيوعياً أم بعثياً أم رجعياً.
كان الانقسام حاداً بين من يؤمن أنّ الأدب والفنّ والمسرح فنونٌ ملتزمة تعبّر عن وجدان وقضايا منتجيها، وبين من يؤمن أنّ الالتزام بالقضايا المحليّة والوطنية يحدّ من قيمة العمل الأدبي والفنيّ ويقف حائلاً بينه وبين وصوله إلى العالمية.
مما لا شك فيه أنّ الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، والأحزاب الوطنية الناشئة بعد فترات الاستقلال، كانت تؤيد الالتزام بالقضايا الوطنية في الأدب والفنّ، ولم ترَ أن هذا الالتزام يُضعف من ألق وتميّز العمل الأدبي المقدّم.
وبعد أن درسنا في الغرب واطّلعنا على ما تيسّر لنا من أدبه وتاريخه وفنونه، كما اطلعنا على ما أُتيح لنا معرفته من ثقافاتٍ وكتابات أدباء القارات الأخرى كأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وجدنا أنّ المحليّة والالتزام قد شكّلا رافعةً لمعظم الأدباء والكتّاب الذين وصلوا بكتاباتهم إلى العالمية الحقيقية وليس العالمية التي تشير إلى الدول الغربية فقط.
واكتشفنا أنّ التّهم التي كانت تُوجَّه لكثيرٍ من الكتّاب وخاصةً النساء، بأنّهم يرتكزون في كتاباتهم على قصصهم الشخصية أو على معارفهم المحليّة، هي تُهمٌ تنطبق على كبار الكتّاب العالميين من تولستوي إلى تشيخوف وماركيز وبيرسي بيش شيلي وجون ستيوارت ميل وماري ولستون كرافت وغيرهم الكثير. بمعنى آخر، المحليّة والالتزام لم يكونا عائقاً أبداً في الوصول إلى العالمية بل كانا العاملين الأكثر أهميةً في اعتلاء سلّمها.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد على مقدّرات وإعلام وناصية الفنون الأدبية والسينمائية والمسرحية في الغرب، اختفى هذا الجدل ليحلّ مكانه جدلٌ أكثر خطورة، وهو أنّ التميّز والإبداع حكرٌ على المؤسسات الغربية؛ فهي التي تمنح جائزة نوبل وجوائز الأوسكار، وهي الوحيدة التي لها القول الفصل في تحديد من يحتلّ الصدارة في أعلى قائمة المبدعين من كل أنحاء العالم.
وكون الغرب بأجهزته السياسية والمخابراتية هو الذي يُنفق على هذه المؤسسات والجوائز، وهو الذي يشكّل لجان التحكيم، فقد أصبح له القول الفصل بغض النظر عن أيّ قرارٍ آخر في تحديد مستوى الإبداع وأسماء المبدعين.
وصل هذا الأمر إلى مرحلةٍ خطيرة لأنّ عدداً من الكتّاب والفنّانين والمبدعين من أبناء الدول التي استعمرها هذا الغرب لعقودٍ طويلة، أخذوا يتنافسون بالكتابة وفق معايير وقيم الغرب، ناهيك بالكتابة بلغته، والتي هي أمرٌ مفهوم لإيصال الرسالة، ولكنّ فحوى الرسالة هو المهمّ، ومضمونها منوطٌ بالقيم الوطنية والحضارية للكاتب نفسه لا بتقمّصها لقيم المستعمر وأخلاقه أملاً في إرضائه والفوز بقبوله وتقييمه الإيجابي.
ومن هذا المنطلق، أخذ بعض الكتّاب من المغرب العربي والمشرق يتنافسون على ودّ الغرب وقبوله والكتابة وفق ما يرضيه، من خلال تكريس كل الهنات والعيوب المجتمعية التي يتّهمنا الغرب بها وتضخيمها والتركيز عليها، وكأنّ الغرب لا شائبة فيه، بل والادّعاء بأنها هي علّة العلل في مجتمعاتنا كي تلقى أعمالهم الرّواج المطلوب في الغرب، وكي يتمّ تبنّيهم في المؤسسات الغربية واعتماد إنتاجهم الفكري.
ويحضرني في هذا المضمار، رواية الطاهر بن جلون على سبيل المثال لا الحصر “ابنة الرمال”، والتي كُرّس فيها مفهوم توق العربي لأن يُرزق بالصبي بدلاً من البنت، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه كي يحقّق في عائلته الذّكورة، وهي حلمُ ورغبةُ كلّ رجلٍ عربيٍّ كما صوّرها. وطبعا،ً صدرت الرواية بالفرنسية ولاقت رواجاً هائلاً، ونال الطاهر بن جلون كلّ الأهمية التي يسعى إليها في أعين الفرنسيين، ومثلُه كُثُر طبعاً.
ومن هنا، أصبح الطريق إلى العالمية مشروطاً بتبنّي وجهة نظر الغرب عن أنفسنا والتركيز على عيوبنا كما يراها الغرب، والتشهير بمجتمعاتنا وتراثنا بما ينسجم مع آراء المستشرقين الذين شكّلوا الفكرة السلبية الأساسية للغرب عن العرب، وتناولوا مثالب تاريخهم وعيوب حضارتهم ومشاكل مجتمعاتهم.
ومن هنا أيضاً، بدأ الغرب يحارب حكومات الدول المتحرّرة حديثاً، فيطلب أعمالاً أدبيةً تعكس الأوضاع السياسية وتضخّم فيه عيوب مجتمعه وأخطائه، كما عملت الصومالية المسلمة (أليفة علي) حين قدّمت صورةً مشوّهةً عن بلادها وشعبها ودينها كي يتمّ قبولها في المراكز البحثية الغربية.
وفي المقابل، امتنع الغرب عن نشر المنتجات الفكرية التي تتحدث بواقعيةٍ وصدقٍ عن العرب، وإذا ما حصل وتمّ نشر بعضها في ساعة غفلةٍ منه، حرص على عدم الترويج لها أو حال دون وصولها إلى مراكز الشهرة التي تروّج للواقع الحقيقي لأخلاقيات هذه المجتمعات العربية.
هي كتاباتٌ بعيدةٌ كلّ البعد عن التشويه المتعمّد الذي ألحقه الغرب بهذه المجتمعات بعد أن نهب ثرواتها واستعبد أهلها لعقودٍ من الزمن. وهكذا، أصبح الغرب يبحث عن مثقّفين يُعادون حكوماتهم التي تقف في وجه الأطماع الغربية، ويروّجون لأعمالهم، ويطلبون منهم الانشقاق واللجوء إلى الغرب لتصحيح مكانتهم ودورهم.
التعليقات مغلقة.