إسلام السلطة الجديد / محمود منير

 

محمود منير ( الأردن ) الإثنين 30/11/2015 م …

تتسابق الفضائيات العربية، حكومية وخاصةً، لعرْض برامج دينية تهدف إلى مواجهة التطرف، لكن متابعة دقيقة تكشف أن “دعاة التلفزيون” ينهلون من الموروث نفسه الذي تقتات عليه داعش، إذ يُحرّمون أموراً عدة تقرّها دساتير بلادهم وقوانينها، مكرسين حالةً من الفصام بدعوتهم “المبطنة” لقيام “دولة الخلافة”، ودفاعهم في الوقت نفسه عن قيادة دولهم!

إن أكبر عملية خداع يتعرض لها المواطن العربي، اليوم، تتلخص في إلهائه عن طرح العوامل الحقيقية وراء انتشار الإرهاب، باعتباره نتيجة حتميةً لتغول السلطة على المجتمعات التي حكمتها منذ الاستقلال، بقمع كل القوى المدنية فيها من نقاباتٍ وأحزابٍ وجمعياتٍ ونوادٍ اجتماعية، ولم يعد بالإمكان تمثيل المجتمع -الذي تفتت إلى مجاميع البشرية- إلاّ عبر التيارات الدينية، التي دعمها الحكْم وحدها طوال العقود الماضية.

قامت جميع الأنظمة العربية منذ سبعينات القرن الماضي –المرحلة التي تكرس فيها الفساد والاستبداد- بنقل الدين بكونه معتقداً شخصياً يؤمن به معظم الأفراد إلى جعله مؤسسة من مؤسسات الدولة تمتلك خطاباً مركزياً موحداً همّها تثبيت أركان الحكْم، واختار كل نظامٍ بحسب ظروف نشأته دعْم جماعة دينية معينة، ومنحها نفوذاً واسعاً، وأنفق عليها من جيوب شعبه طوعاً وبالإكراه.

تمتعت المؤسسة الدينية الرسمية بمزايا لا تحصى، وبنيت آلاف المساجد، وأنشئت عشرات كليات الشريعة ومراكز تحفيظ القرآن، وثبتت صفحة دينية في كل الجرائد، وعلى المنوال ذاته، تأسست إذاعات وفضائيات، لاحقاً، وحرصت التلفزيونات الحكومية على استضافة ثابتة لرجال الدين، وتكريس حضورهم في الحياة العامة، في وقت تراجع فيه التعليم والصحة والطاقة والمواصلات وبقية الخدمات.

وتبنت هذه الطبقة المستحدثة المواقف السياسية التي كانت تطلب منها، والكل يعلم أنها أيدت التنظيمات المتطرفة في أفغانستان، ولم تعترض يوماً على تشددها، رغم أن هذه التنظيمات لا غيرها هي من أسست لفكْر القاعدة.

استمر تزاوج الدين والحكْم، لكن موجة التصحيح الاقتصادي التي ابتدأت مطلع التسعينيات، أثرت على هذه المؤسسة أيضاً فخصخصتها، بمعرفة السلطة نفسها، فأنشئت جمعيات ومراكز دينية –ترخصها وزارة الثقافة في الأردن مثلاً- وحصل أغلبها على تمويل خليجي، إضافة إلى ظهور دعاة بصفتهم الشخصية، وأسفر هذا المشهد عن تغلب التيار الوهابي القادم من الخليج على سواه من التيارات خلال أقل من عقدٍ من الزمان.

هذه البيئة الجديدة أنتجت مزيداً من التشدد، وهي مسؤولة عن ولادة الجيلين الثاني والثالث من القاعدة، حيث يحارب بعضهم اليوم مع داعش، وبقيتهم لم تغادر مواقعها في دولنا العربية، لذلك تفشل جميع شعارات “تجديد الخطاب الديني” التي ترفع هنا وهناك.

تكمن العلة الأساسية لدى معظم رجال الدين في اعتقادهم الخاطئ أنهم مؤهلون للإفتاء في جميع مناحي الحياة، رغم أن ما درسوه من مساقات في كليات الشريعة المنتشرة، في الوطن العربي، يؤكد على فقرهم المعرفي واللغوي وتغييبهم النهج العلمي في البحث والنقاش، وأن أعداداً كبيرة من “الإرهابيين”، بحسب قوائم دول المنشأ، تخرجوا من جامعات: أم القرى، والأزهر، والأردنية ودمشق وبغداد وغيرها، كما أشرنا سابقاً.

“استستهال الفتوى” مرض يشترك فيه إسلام السلطة مع قوى التطرف، التي يدعي محاربتها، غير أن الأخطر من ذلك كلّه هو إصرار السلطة على إعادة توحيد الأفراد تحت سلطة خطاب ديني مركزي، كما فعلت في سبعينات القرن الماضي، لكن هذه المرة باسم الإسلام “المعتدل”، وكأنه يمكن لـ 100 ألف عالم، بحسب أرقام اتحاد علماء المسلمين، من الأشاعرة والسلفيين والشيعة والمتصوفة المتناحرين الخروج من حالة الجمود التي يعيشونها منذ ألف عام تقريباً!

التشديد على حصرية تمثيل ما يسمى الإسلام “المعتدل”، في ظل وجود مناهج دراسية متخلفة، وخطباء جوامع أميين، وإعلام يكرس الجهل والابتذال باسم الدين، يعني بالضرورة أن إسلامهم المعتدل يحتوي كل هذا الانحطاط الذي نعيشه.

لسنا بحاجة إلى تجديد وإصلاح ديني ولا ما يحزنون، إنما علينا مواجهة أنظمة تمارس سلطة أبوية لتسرق ثرواتنا وتقيد عقولنا، وتعطل التنمية، بكل مستوياتها، فخلقت مواطناً عديم الفاعلية يخاف المستقبل، ويعاني كبْتاً عاطفياً/ جنسياً أوصلنا إلى مجتمع يبالغ بإدعاء الشرف والأخلاق، لتفضحه الوقائع المتزايدة التي تنتهك “العفة” من دون أن تمنح أفراده ما يأملونه من الحب.

تجديد الخطاب الديني مسألة تخص الباحثين لا عامة الناس، وقد قامت محاولات عديدة في هذا الشأن على يد أركون، وشريعتي، والعلايلي، وجدعان، ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، لكن جرت محاربتها جميعاً من قِبل هؤلاء المشايخ، الذين تحركهم السلطة، هذه الأيام، لإعادة إنتاج إسلام جديد توظفه في صراعاتها الداخلية والخارجية.

أعيدوا الدين ليكون شأناً فردياً، لا وصاية عليه لسلطة أو حزب أو عصابة، ودعونا نبني أوطاناً حديثة قبل أن تتحول كلها إلى مقابر جماعية أو ملاجئ للعاجزين.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.