تحقيق من الأردن … “متحف آرمات عمان” .. حُلم عاشق .. يُنعش قلبها ويُحيي ذاكرتها




مدارات عربية – الأحد 7/2/2021 م …
من إيمان مرزوق …
مدفوعا بالفضول.. تجدُ نفسك تصعد تلك الأدراج الملساء المتآكلة.. لتُضافَ خطواتك لخطى العابرين من هنا عبر 100 عام!.. على مهلٍ تتنفس خيط العطر الزمني الممتد، يُقابلك مدخل مقهى السنترال الذي يعود لعام 1930.. بضعة درجات أخرى نحو اليسار وتنفتح أمامك بوابة الزمن!

تتروى عُنوة وأنت تقف على عتبة المكان.. حيث تنكشف لك (حديقة ذكريات عمان) هنا تجد نفسك وسط الزحام.. كتفا لكتف مع أطيافٍ لا حصر لها، فخلف كل “آرمة” ألف حكاية وحكاية.. حكاية مَن خَطّ، ومَن طَلَب! من مرَ من هنا طفلا وكهلا.. باع واشترى، وكيف بقي أثر الرصاصة في “جسدها” شاهدا على “أيلول” مضى! وولد صالح يفرح بآرمة تحمل اسم أبيه.. وتروي حنينه إليه.

وكيف لضربة فرشاة أن تفسخ شراكة، وتُفسدُ ودا بين إخوة ورثة!

للآرمات أرواح لا تفنى.. ولسان أخرجه غازي خطاب عن صمته ليروي تاريخ عمان بطريقة لم تخطر قبله لإنسان.

يروي لنا غازي خطاب صاحب فكرة “متحف آرمات عمان” بذاكرة من حديد تفاصيل عشقه لعالم الخط والآرمات الذي امتزج مع حبه لعمان مذ كان طفلا في مخيم الوحدات، حيث كان تمييز الآرمات ومعرفة أسماء من خَطّوها ومكانها في وسط البلد التحدي الذي يفوز به دائما دون منافس بين أقرانه، ومن المواقف الطريفة التي يرويها عن قدرته في تمييز الخطوط؛ رهانا ضربه بينه وبين أحد الخطاطين الذي لم يستطع التعرف على اللوحة التي كتبها بيده! ليكون قادرا على تمييز الآرمات أكثر من أصحابها الأصليين!

صرصور

وعن أول آرمة حصل عليها يقول
“في يوم الخميس 19/6/1980 انتهيت من تقديم امتحان “الدين” آخر امتحانات التوجيهي حينها، في اليوم التالي مباشرة نزلت إلى وسط البلد، كنت قد سمعت عن آرمة جديدة تم تعليقها في شارع بسمان للخطاط تيسير السادات، في ذلك الزمن كان المصورون ينتشرون عند مطعم السلام في شارع الملك فيصل يحملون كاميراتهم “البولارويد” للتصوير الفوري، وكانت أجرة الصورة التي تلتقطها مع مجسمات نجوم السينما حينها تكلفك نصف دينار، طلبت من المصور مرافقتي لشارع بسمان ليصورني تحت آرمة محل الخياط “صرصور”! وطلب دينارا ثمنا للصورة!

أعجبني “التكنيك” المستخدم في كتابة هذه الآرمة بالخط الكوفي الحديث المرسوم بأبعاده الثلاثة.. وأدركت فيما بعد كيف تعكس طريقة كتابتها الثقة الكبيرة التي يتمتع بها صاحب المحل ليكتفي بكلمة واحدة فيها!

سافرتُ بعد ذلك إلى ألمانيا حيث درستُ “غرافيك ديزاين” وفن تصنيع اللوحات الإعلانية، وعدتُ إلى عمان مجددا بعد أن تحول الشغف إلى دراسة ثم إلى عمل.. وفي عام 1986 حصلتُ على آرمة “صرصور” حيث أحضرها لي مجموعة من الأصدقاء العارفين بشغفي بهذه اللوحة بالذات.. وبقيت أحتفظ بها في غرفتي لسنتين”.

أبو “شَمبور”

وعن دخوله لعالم صناعة الإعلانات يقول:في عام 1988 أنشأتُ أنا وأخي محمد مؤسسة خطاب أخوان لصناعة اللوحات الإعلانية، وأدخلتُ إلى السوق تقنية الأحرف الإعلانية الجاهزة، وقوبلت حينها بالانتقاد، لكني كنت أعرف أن الاستمرار في استخدام الطريقة اليدوية لن يطول شئنا أم أبينا، وكنا نُفضل استخدام نوع معين من الخطوط اسمه “شَمبور” وارتبط اسمي به حتى أُطلق علي لقب “أبو شَمبور”، ورغم استخدامي للطرق الحديثة لكنني كنت مفتونا بآرمات عمان القديمة المكتوبة بالخط اليدوي، وكنتُ طوال الوقت حريصا على حمايتها والحفاظ عليها باعتبارها قيمة فنية وتاريخية، حتى أصبح لدي مجموعة كبيرة منها حصلت عليها من خلال المبادلة والشراء والإهداء، وفي عام 2017 كانت معظم لوحات المتحف المعروضة الآن بحوزتي، حيث كنت أعرضها في شركتنا وكان الأصدقاء من الخطاطين والمهتمين يأتون لزيارتي خصيصا لمشاهدتها، لكنني رغبت أن تكون هذه الآرمات متاحة لأكبر قدر من الناس، ففكرت بإقامة معرض خاص لها لكنني فضّلتُ أن أجد طريقة أخرى تُمكّن الناس من مشاهدتها في أي وقت وليس في معرض لأيام معدودة، أردت أن أصنع “حديقة ذكريات لعمان”، فبدأت بالبحث عن مكان في وسط البلد لهذا الغرض، في شهر تشرين الثاني 2019 وبالصدفة وجدت آرمة “للإيجار” فوق مقهى السنترال؛ أعجبني المكان جدا.. موقعه عند نقطة التقاء شارع الملك الحسين بشارع الملك فيصل، وفوق مقهى السنترال العريق جعلني أتمسك به وأقرر استئجاره فورا من مُلاكِه (آل تحموقة)، وقد حظيت بتشجيع كبير من عائلتي وأصدقائي لإتمام الأمر، “دارة خطاب للفنون” كانت التسمية الأولى التي فكرت بها، لكنني قررت أخيرا أن أسميه “متحف آرمات عمان” ليكون متاحا لكل الناس، وبدأنا فورا بتجهيز المكان حيث تولى ابن عمتي المهندس معتز خطاب “بكل حماس” التصميم الداخلي للمتحف ورسم مسار التجول فيه بطريقة تُشعرك أنك فعلا تمشي في شوارع عمان قبل عشرات السنوات. وفي مطلع شهر شباط 2020 أصبح المتحف مفتوحا للزيارة دون مقابل يوميا من العاشرة وحتى السابعة مساء ماعدا يوم الجمعة.

“المخزن الملكي الهاشمي”

تبلغ مساحة المتحف 160م ويحتوي على مئات الآرمات التي يعود أقدمها إلى عام 1949 وهي آرمة “المخزن الملكي الهاشمي” للخطاط الأرمني ألبيرت، وتعود اللوحة لمخزن التاجر الأرمني الشهير روبين كتشجيان الذي كان من من أوائل التجار المستوردين في الأردن عام 1936، وحصل على وكالة شركة كوداك العالمية عام 1946، بالإضافة الى وكالات ساعات “دوكسا” و”روتاري” السويسرية. وقد حصل كتشجيان على إرادة ملكية من جلالة المغفور له الملك عبدالله الأول عام 1949 بتسمية محله في عمان باسم “المخزن الملكي الهاشمي” مع الشعار بعد أن شَهِد نزاهته وإخلاصه في تعاملاته وأمانته في مواقف عدة، حيث كان يورد للقصور الملكية أدوات تصوير وساعات وغيرها، وتقديرا له دعاه جلالة المغفور له الملك عبدالله الأول وأكرمه بهذا الاسم العريق بموجب إرادة ملكية نصها:
“حضرة السيد روبين كتشجيان المحترم، أرجو أن أبلغكم صدور إرادة صاحب الجلالة مولاي الملك المعظم بالسماح لكم بوضع لافتة على مخزنكم في عمان باسم المخزن الملكي الهاشمي مع الشعار وتخويلكم حق استعمال هذا الاسم لكم ولأولادكم بالنظر لإخلاصكم في خدمة جلالة الملك المعظم 6 تشرين الثاني 1949.. رئيس الديوان الملكي عبد الرحمن خليفة”.

عشرون عاما من الصبر للحصول على آرمة!
تفاصيل كثيرة وذكريات وصبر وعشق خلف كل قطعة في المتحف؛ يذكر لنا خطاب بعضها قائلا “منذ أكثر من عشرين عاما وأنا أحاول الحصول على الآرمة الأصلية لأحد المحلات في شارع الأمير محمد، وكان صاحب المحل في كل مرة يقول لي ارجع نهاية العام عندما ننتهي من الجرد حتى نعثر لك على اللوحة، وكان في كل مرة يتلكأ ويؤجل ويتهرب، ومرت الأعوام ولم أيأس، توفي صاحب المحل وعدتُ لمحاولاتي مع ابنه هذه المرة لشراء الآرمة لكنه بدأ بمساومتي وطلب مبلغا كبيرا جدا مقابل حصولي على اللوحة التي لم تَكُن معروضة أصلا! وعندما وجدت أنني سأقع فريسة للاستغلال؛ تخليت عن رغبتي في اقتنائها!. وفي المقابل هناك من أصحاب الآرمات وورثتهم من يأتون إلي مُبدين امتنانهم وفخرهم بأن لوحاتهم عادت لتنبض بالحياة من جديد حاملة ذكرى آبائهم وأجدادهم في هذا المكان المفتوح لكل الناس”.
يحتفظ خطاب بأرشيف كبير من الصور لجميع آرمات عمان القديمة، التي كانت -بحسب تعبيره- تُصنع بحب وإتقان شديدين؛ وهو ما يفسر كيف صمدت عشرات الأعوام دون أن تفقد هويتها وجمالها!

“سدر” كنافة لجمع الأهرام!

ومن القصص الطريفة الكثيرة التي عاشها خطاب بشغفه العارم.. يذكر كيف طلب “سدر كنافة” من محلات حبيبة لكنها لم تكن ناعمة ولا خشنة!، لأنه ببساطة قد طلب “السدر فارغا.

ليجمع فيه الكِسر الزجاجية لآرمة محل أهرام المحطمة!، والتي جمع “أشلاءها” وأعاد ترميمها بعناية وحب، لتعود للحياة من جديد.

ويذكر أيضا كيف أنه افتقد آرمة المستودعات العامة لوزارة الزراعة.. والموقعة باسم الخطاط إيليا كيال ليتعرف عليها من إطارها و”تباشيمها” بعد أن وجدها على قارعة الطريق وقد غُطِّيت بالكامل وكُتب عليها “تصوير فوري”! وكيف قام بعملية “إخلاء” للوحة وإنقاذها وإعادتها لسابق عهدها. ومن اللوحات الهامة أيضا آرمة “فندق حيفا” أحد أقدم فنادق عمان في شارع الملك فيصل (ديوان الدوق حاليا) والتي حصل عليها من خلال الدوق ممدوح بشارات الذي أبدى دعمه وتشجيعه الكبير للفكرة.

آرمات عَمّانية نادرة

يمتلك حارس ذاكرة عمان غازي خطاب اليوم مجموعة نادرة من صور آرمات وسط البلد فترة الخمسينات من القرن الماضي وقد خصّ “عمون” بمجموعة حصرية تُعرض لأول مرة ومنها:

صورة لآرمة “مطعم دار السرور  لتقديم جميع أصناف البوظة والمأكولات والحلويات تقدم بواسطة الآنسات في شارع الملك فيصل”، وأخرى  لـ “مقهى وبركة الفردوس للسباحة- طريق رأس العين-عمان”، ولوحة محل “بقالة مصلح وتميمي” وهي جميعها بتوقيع الخطاطين الشركاء (فضل، وكرد علي، وأردكاني) وكانت اللوحات التي ينفذونها ممهورة بتوقيع مكون من ثلاث دوائر تحتوي أسماءهم على التوالي بشكل هرمي رأسه فضل، كما في لوحة محل “أهرام” المعروضة في المتحف.

ومن الصور النادرة أيضا صورة لإعلان صدور كتاب المملكة الأردنية الهاشمية باللغتين العربية والإنجليزية لمؤلفه صبحي طوقان وهي كتابة الخطاط فضل، وصورة لآرمة “البار والمطعم اليوناني” وهي أيضا من أعمال (فضل، كردعلي، أردكاني). وصورة قائمة أسعار “معجنات مطعم وحلويات السلام للخطاط ياسين الجوخي. وتكمن أهمية هذه الآرمات وغيرها في ما تعكسه من بعض ملامح الحياة العمانية في تلك الفترة الزمنية فضلا عن قيمتها الفنية العالية.

أكثر من مجرد متحف!

لقد أنشأ خطاب هذا المتحف ليكون كتابا مفتوحا يروي تاريخ عمان بطريقة مبتكرة، وموئلا لمحبي الفنون ففي “ركن الضاد” كما يسميه؛ تقام ورشات الخط العربي، كما يتيح المكان لاجتماعات بعض الهيئات الثقافية، وهناك مساحة لاستضافة المعارض المؤقتة، وأخرى يعرض فيها صورا لأشهر وأقدم الخطاطين في عمان وبعض أدواتهم التي كانوا يستخدمونها في تنفيذ أعمالهم ومنهم يذكر: نقولا سبانخ، وإيليا كيال، وفضل مطوبسي، وأنطون السلكاوي، وحمدي بوجه، وتيسير السادات، ورياض طبال، ومحمد هندي، وشحادة هارون الذي واكب جيلين من الخطاطين، وعبد جوخي، وياسين الجوخي الذي أبدى تقديره لفكرة المتحف وأهداه مجموعة من الصور النادرة لبعض أعماله، وأخرى للوحات الخطاط الشهير فضل مطوبسي التي نفذها أيام الخمسينات من القرن الماضي قبل أن يغادر للعمل في الكويت.

وأما في المكتبة فيستضيف الطلاب الذين يتدربون على الموسيقى، بينما يسمح للزوار بالجلوس على الشرفة وتناول المأكولات والمشروبات التي يشترونها من وسط البلد، بعد أن يلتقطوا الصور التذكارية وهم يركبون “سرفيس العبدلي”!

يطمح خطاب أن يكون المتحف أحد المعالم الراسخة على خريطة عمان السياحية لزيادة أعداد الزوار. ويعمل حاليا على توثيق حكايات أهم الآرمات وذلك عن طريق مواد مكتوبة، وأخرى “صوتية” سيتم العمل على تفعيلها في المتحف المتجدد بكل ما هو قديم!

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.