ليس البغل كالحصان وإن ولدته فرس! / د. نضال القطامين
في سياق استنباط الدلالات السياسية لمفهوم الحراثين وأبناء الحراثين، فإن قوما كثر، قد اختلط عليهم فهم هذه الدلالات لتختلّ تبعا لذلك، إسقاطاتها السياسية والأدبية، وتنحو مغازيهم معنىً مغاير لا قرينة بينه وبين الواقع.
يستكثرون على ابن الحراث أن يكون ذا تعليم عال، بل ويروا في دراسته في جامعات محلية أو غربية، وسماً يبتعد فيه عن الأرض والفلاحة، ويروا في استبدال المحراث بالتراكتور مثلا، خروجا سافرا على التقاليد.
الحراثة اصطلاح ينبغي إسقاطه على إعمال الأرض واستصلاحها وعلى قيادة العمل العام بالمفهوم الأوسع. لا يعيب الحراثين أبدا، أن يبدأوا حياتهم السياسية من تراب الحقول. أعرف فلاحا قايض بيت الشَّعر الذي يأويه من المطر في أعالي التلال ليشتري لولده تذكرة طيران للقاهرة في نهاية الأربعينات، فعاد الولد من مصر، قائدا عروبي الهوى والفكرة والمبدأ، لكنه بقي فلاحا في ثياب (مسؤول سابق في القطاع العام).
ماذا عن أحفاد الحراثين؟ ماذا عنهم وقد باتوا لا يروا المحراث سوى في متاحف الحياة الشعبية؟ هل عليهم أن يخلعوا ثياب التعليم والثقافة وأرواب الجامعات الغربية كي يستقيم الفهم السقيم؟ وكي نثبت التصاقهم بالأرض وحراثتها؟
والحراثة بمفهومها الوطني العارم لا يمكن اختزالها في صورة موظف عام. حيث يبدأ هذا الواجب الوطني وينتهي في ضمير كل المخلصين في كل القطاعات.
في تراث الحراثين، فإن الحراثة هي عملية إعداد التربة وتفكيكها وتهدف فيما تهدف، لطمر البذار في ثنايا الثرى، أو تهيئة الأرض لحرثة قادمة وهنا تسمى كراب.
البهائم واسطة العقد في الحراثة القديمة، حيث يجر الثور، أو البغل، والحمار، في حالات المساحات الصغيرة، المحراث، وهو قطعة معدن ضخمة لها رأس مدبب وأجنحة.
تمشي البهائم بانتظام مجبور في التلم، وهو خط الحراثة، حيث تسوقها السياط ويدفعها الطمع في العليقة المربوطة بخبث في مسافة لا تصلها أفواهها. فتمضي نهارها بين طمع لن تدركه وبين سوط يدمي أعلى أقدامها، فإذا شارفت الشمس على المغيب، مُنح الحمار وجبة شعير إضافية، كي يرفع عقيرته بالنهيق وقتما تصهل الخيول.
والبغل مهمٌ للعناية بالحقل. إنه أحد أدوات الحراثين وعليه يتكىء نجاح الموسم. لكنه حيوان عنيد، يتميز بأذنين طويلتين وعرف قصير، وذمة وسيعة. ربما أتته هذه الصفات القبيحة من الحقد والبلادة من ذاك التزاوج الهجين بين الفرس والحمار، لكنه في النهاية بغل ولا أحد يلتفت سوى لحمولاته التي تنوء الحمير بها.
لا تثريب على الحراثين من جروح الدواب النازفة. لا تَأْنِيب ولا تَوْبِيخ ولا لَوْم عليهم فيما يقترفه الطارئون على الفلاحة والحراثة، وهم يمارسوا طقس النهش القبيح ويتأرجحوا بين يأسين؛ مخالب القطط التي تظن أنها وسمت بياض جبهة الحصان بشيء من رجسها، وتذمر البهائم المربوطة أبدا خلف المحاريث.
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ..
وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني..
وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً..
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ.
التعليقات مغلقة.