لم يعد السؤال حول سقوط الجزائر وإنما عن لحظة الارتطام / اسماعيل القاسمي الحسني
اسماعيل القاسمي الحسني ( الجزائر ) الأربعاء 2/12/2015 م …
لقد تفاديت جهدي الحديث عن الجزائر وأوضاعها وواقعها المأساوي، وكنت قد اكتفيت بمقال مطول أوائل عام 2011 في صحيفة القدس العربي، عرضت فيه تفصيلا بدايات السقوط الشاقولي للجزائر عام 1999، وسبق ذلكم المقال مقلات عديدة بين 2009 -2011 كلها تحذر من مخاطر السياسات العبثية التي درج عليها النظام، وتقترح معالجات لمكامن الأدوية وإصلاحات لكثير من الاعوجاج فضلا عن ضرورة استئصال الفساد؛ وأذكر من بينها مقال بعنوان تسونامي الشعوب؛ كانت حينها محاولة متواضعة من مواطن بسيط، لا يدعي تخصصا في قراءة المستقبل، ولا قطعا يرجم بالغيب، وإنما يعبر بصدق عن حالة الاحتقان “المتفجر الصامت المكتوم” التي تعيشها شرائح واسعة من الشعب، بعد انكماش ثم انحدار الطبقة المتوسطة (التي تشكل واحدا من أهم صمامات الاستقرار) الى الطبقة الفقيرة الهشة، فبات كيان الدولة قائما على قاعدة بركان عريضة وعميقة، ما ينذر طبيعة بانفجار يأتي على اليابس، ولا نقول الأخضر، ذلك أنه قد تم إعدامه قبل وقوع الكارثة المحتم.
مع بدايات ما يسمى بالربيع العربي، التي أعربت عن استشعاري بمقدماتها من قبل، آليت على نفسي ألا أتعرض لوضع الجزائر الداخلي إلا نادرا، وذلك لثلاثة أسباب، أولها أن القيادة في الجزائر لا تعير أدنى اهتمام للنصح، ولا يتأتى لعاقل أن يفكر في إسماع أصم ولى مدبرا، وثانيها شفقة على القارئ العربي الذي تقيّح قلبه من حالات تداعي الدول العربية، الواحدة تلوالأخرى، في حالة تدمير ذاتية غير مسبوقة، وثالثها أن أي كاتب مهما برئت ذمته ومهما ارتقى فوق الشبهات، متى تناول بالنقد أحوال بلد متهالك، صوبت اليه مباشرة من كل جهة شتى الاتهامات التي تبلغ أحيانا اتهامه بالخيانة العظمى، وأقلها اتهامه بالسعي لصب الزيت على النار.
واليوم إذ أتحدث عن الوضع الداخلي للجزائر، ليس كردة فعل عن مصادقة البرلمان لقانون المالية لعام 2016، الذي عرف زيادات في الطاقة والكهرباء وما يترتب عن ذلك بالضرورة، نهبا فاحشا وحقيرا للمواطن الجزائري، لأنني ومنذ زمن بعيد أعتبر نواب البرلمان ليسوا أكثر من عبيد أجراء لدى السلطة الحاكمة، وحين أقول السلطة فلست أستثني المعارضة من أقصى يسارها لأقصى شمالها ( نظرا لعدم وجود يمين)، أغلب النواب حتى لا نقول الكل، مجرد علق لصيق بجدران الحكم، لا هم له إلا امتصاص ما أمكنه من المال، واستغلال وجاهة الكرسي لقضاء مصالحه الشخصية؛ المصيبة هنا أن هذا ليس رأي الكاتب، يعلم القارئ الجزائري المنصف والمتجرد للحقيقة، أن هذا رأي الشارع الجزائري بأعضاء ما يسمى البرلمان، وحقّ له ذلك لما يشاهد بعيني رأسه من بعض الكائنات المسبوقة قضائيا، الفقيرة لأدنى معايير الفرد الواعي، على المستوى التعليمي والتربوي والأخلاقي.
ولا هورد فعل على الزوبعة الغبية، سليبة الوعي السياسي، عديمة الفهم لمصطلح “الدولة”، التي يثيرها البعض ارتجالا بسفه عقل منقطع النظير، على وسائل الاعلام حول صحة الرئيس ومستقبل البلد؛ من العمى السياسي فعلا أن يرهن أحد مستقبل وطن في مفهومه، وهو”المعارض” او”فائض الوطنية” بشخص رئيس مُغيّب أصلا عن الحكم منذ سنوات، ويغفل من فرط جهله، عما هوأهم وأخطر، ليس شلل الرئيس ولا غيابه، وإنما شلل كل ما يوصف بالمؤسسات التشريعية التي اشبه ما تكون بزريبة لعلف البهائم ونومهم، والمؤسسات التنفيذية التي تعكس فجورا غير مسبوق في نهب الخزينة العامة بعشرات مليارات الدولارات، فضلا عن مشاريع أنجزت تذكرك عند مشاهدتها بنييراجونجوبالكونغوحيث كما يقال أكبر فوهة بركان في العالم، فوهة فساد وإفساد، فمن قصة الطريق السيار الذي تبخرت على إثره أربعة عشر مليار دولار، ومعالي الوزير المسؤول يتجول سائحا بين المناصب الرفيعة (من المعارضة الاسلماوية)، الى اسطورة شركة “سوناطراك” وريد المال الجزائري وعصبه الرئيسي، التي ضيع وزيرها (صديق الرئيس) ما يزيد عن واحد وعشرين مليار دولار، ويصدر القضاء مذكرة توقيف ثم يصدر قرار براءة، ويفتتح السارق أكبر مكتب استشارات في لندن، لتحال اليه مرة اخرى ملفات صفقات الوزارة التي نهبها ليسدي لها النصح، الى آخر كارثة وهي اعلان الحكومة عن تبخر ثمانين مليار دولار، نعم 80 مليار دولار خلال العامين الماضيين، من أصل 280 كانت مودعة في البنك الامريكي وعلى شكل سندات في بنوك اخرى، نتيجة هبوط قيمة الدولار وغيرها؛ هنا لم أعتمد ما سمعته اومعلوماتي الشخصية، وإنما ما صرح به المسؤولون الرسميون أنفسهم.
أما المؤسسة القضائية، فيمكن اختصار الوصف بأن سجناءها من المجرمين فعلا، أطهر يدا وأرفع شرفا وأنبل خلقا، من القائمين عليها بمراحل فلكية تعدم منطق القياس أصلا؛ هذا توصيف واقع وليس غير ذلك، فمن قضاة مرتشين الى وكلاء الجمهورية، مرورا بمدراء السجون والاختلاسات المروعة.
أما المؤسسة العسكرية والأمنية، فلعل صورة واقعها الماثل في رؤوسها، الذين تخطوا جميعهم العقد الثامن، في حين قد مضى على استقلال الجزائر أكثر من نصف قرن، لا أعتقد أن هناك دليل على إفلاس في إنتاج الرجال المؤهلين لقيادة المؤسسة العسكرية مثل هذا الدليل، ومن المضحكات المبكيات والرسوم الكاريكاتورية لهذا المشهد المقرف، أن هناك من أبناء الاستقلال من التحق بالمؤسسة العسكرية عام 1980 أي وهوابن 18 عاما، وأنهى خدمته وأحيل على التقاعد عام 2000، ومازال قادة المؤسسة العسكرية يتربعون على عرشها، وهي بالمناسبة دولة داخل وخارج الدولة في آن، داخل الدولة بغطاء الدولة الجزائرية، وخارج الدولة لكونها لا تخضع لمراقبة ولا محاسبة أحد، يتربعون على عرشها ومنهم من يقارب القرن من العمر؛ فوق ذلك يتابع الشارع الجزائري تلكم الأخبار العفنة، التي تتصدر الصحافة بمتابعة كبار قادة المؤسسة الأمنية، بعد أن أمضوا ثلاثة عقود أوأكثر في أخطر مؤسسة وأكثرها حساسية، باعتبارهم مجرمين ومرتزقة، شخصيا لا أعترض على هذا، بل أعتبره إقرارا بالإفلاس التام متأخرا جدا، وغير بريء بالمرة، لم يكن انتصارا لأمن الدولة والشعب، وإنما تصفية حسابات بين عصابات الحكم.
لقد منح الله بمقاديره الجزائر فرصة ثانية بعد فرصة سبعينيات القرن الماضي، التي ذهبت أدراج أوهام ونفخ في مفاهيم مستوردة رُكّبت جهلا على الدين، لا لشيء إلا لتسويق اشتراكية مفلسة منطلقا، وخرجت الجزائر من تلكم الفرصة بديون تقارب 30 مليار دولار (1979)، وطاشت الطفرة المالية نتيجة سفه القادة وعفن بطانة السوء؛ ودخلت الجزائر تجربة قاسية جدا في العقد الأخير من القرن الماضي، كان من أهم مفاعيلها ومقدماتها أمران متزامنان:
الأول إغراق السعودية ودول الخليج سوق النفط في الثمانينيات، كأداة حرب على ايران تحديدا، ما انعكس سلبا على الخزينة الجزائرية، فأسهم بقوة في رفع مستوى الاحتقان لدى الشارع،
العامل الثاني: هوالفساد الذي استشرى في مفاصل الإدارة المحلية حينها على وجه الخصوص.
من المحزن حد الألم القاتل، ألا تتعظ الطبقة الحاكمة في الجزائر بتجاربها؛ وأعاد الله عليها الفرصة الثانية بداية هذا القرن، ولم ينتهي العقد الأول إلا ولديها احتياطي ذكرت سابقا بناء على مصادري أنه تخطى 380 مليار دولار، لكن دعونا نعتمد ما صرحت به السلطة نفسها وهو280 مليار؛ يحضرني هنا رد ممثل رئيس الجمهورية وكان حينها الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، حين سئل عن سبب عدم استثمار ذلكم الاحتياطي الضخم في الجزائر، وعوض ذلك يترك في الولايات المتحدة ليستفيد منه غيرنا؛ كان جواب الرجل صادما وأنقله حرفيا:” لم نستثمر هذا المال في الجزائر خوفا من سرقته”، من سيسرقه يا هذا؟
هل الشعب الجزائري؟ حتى وإن أخذه الشعب الجزائري نقدا لا يمكن وصف ذلك بالسرقة لأنه ملك له؛ السارق إذن لن يكون سوى موزع هذا المال نفسه، بالعربي الفصيح من كان يمثله صاحب هذا التصريح الأرعن، نعم القيادة هي المسؤولة عن السرقة وبطانة السوء التي تطوقها، ومجاميع العلق في الغرفتين، والفطريات القائمة على سيقان سلطة نخرها الفساد.
وعودا على بدء، عادت دول الخليج لحربها ضد ايران، وأغرقت سوق البترول ثانية لتهوي أسعاره بشكل مروع، ويتبخر احتياطي العملة الجزائرية، وتلوح منذ بداية 2011 نذر الخطر على الجزائر، لكن الفساد يستفحل بشكل مضطرد، وتشرع السلطة مضطرة لخنق الشعب ثانية، ليس فقط برفع اسعار المواد الغذائية الرئيسية ومواد الطاقة، بل تزيد من ابتداع انواع من الضرائب المجحفة، وقطعا كل هذا لن يزيد الشارع الجزائري الا احتقانا، فضلا عن استغلال السلطات الامنية، وهنا أعني مؤسسة الشرطة والدرك الوطني، للصلاحيات الموكلة الى عناصرها، لقطع الطريق على المواطنين، لجمع الجبايات ظلما وتعسفا، يزيد عنه سوء المعاملة حد امتهان كرامة المواطن، استغلال متعسف وحقير لوعي الشعب بخطر الانتفاض.
تعول السلطة من غبائها اوحماقتها، وكما تزين لها بطانة السوء ومجاميع العلق والفطريات، على خوف الشعب الجزائري مما يجري في عالمنا العربي من نهايات مأساوية، وعلى ذلك تراهن بأنه لن ينتفض في وجهها، لكونه يعرف بتجربته الذاتية التي مر بها في تسعينيات القرن الماضي، ولأنه يعاين يوميا في هذه المرحلة الدقيقة مشاهد مروعة لانهيار بلدان عربية، يعرف أن اي حركة احتجاج قد تنتهي به هونفسه لما يراه لدى غيره من الشعوب العربية.
هذا ما تعول عليه السلطة في الجزائر “الخوف”، بدل أن تعول على تعزيز الجبهة الداخلية ببناء اقتصاد قوي، وقد كان لديها المال والوقت الكافيين، وبسط عدالة اجتماعية، وفرض القانون على الجميع، هنا لابد من الاشارة بأن قانون العقوبات في الجزائر لا يطبق إلا على غير المنتسبين للسلطة، بمعنى من وضعوا قوانين العقوبات سواء العلق في الغرفتين، أوالمكلفين بتنفيذه من رجال الامن، أورجال القضاء الذي يبنون عليه أحكامهم، جميع هؤلاء لديهم حصانة من السلطة، تعفيهم من التعرض لذات العقوبات لوقام أحدهم بنفس المخالفة.
من يتصور أن سقوط الجزائر عام 1992 في ذلكم الصراع الدموي المروع، كان وليد لحظته أوحدثه فهولا شك لا يعرف شيئا عن حركة التطور سلبا اوإيجابا لدى الدول والشعوب، نحن نعتبر ما حدث عام 1992 هولحظة الارتطام، وأما السقوط فقد كانت بداياته الظاهرة لأهل العلم عام 72/1974 تحديدا؛ واليوم نقول من يجادل في سقوط الجزائر من عدمه لا شك أنه مكابر أوجاهل حقا، ذلك أن بدايات السقوط الثاني كانت عام 1999، وإن كان الفصل الزمني في التجربة الأولى 72-92 عشرون عاما، فبحكم أن الشأن الاجتماعي لا يضبط بالمسطرة، ولا بالدقيقة والثانية، نعتقد لكل ما سبق ذكره وغيره مما لم يتسع له المقال، أن لحظة الارتطام بات بين عشية أوضحاها، ولا علاقة لها بحياة الرئيس اوعلته.
طبعا كمواطن جزائري ليس هذا ما أتمناه، ولكن ما نيل المطالب بالتمني، لست معارضا سياسيا، ولا أنتمي لأي حزب ولا لأي جمعية، بل راي مستقل صحيحا كان أم مخطئ، غير أنه مبني عن علم وتجربة وواقع نعيشه بين الناس يوميا، ولا أعتقد أن هناك جدوى من الدعاء ليجنب الله الجزائر كارثة أخرى قد تكون هذه المرة حالقه، ذلك أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كل ما يمكنني قوله، هوأن نسأل الله العفووالعافية؛ ودون أن أعتذر للقارئ فقد كان واجبا أن نعرض المشهد على حقيقته وواقعه، ونوثق لمن يأتي بعدنا، بأنه كان في الجزائر أصوات نصحت وأبلت، ولا تكون للسلطة وعلقها وفطرياتها حجة علينا يوم غد….. والله المستعان.
فلاح جزائري.
التعليقات مغلقة.