الأفاعي ( قصة قصيرة ) / د. اسعد العزّوني
د. اسعد العزوني ( الأردن ) – الخميس 18/2/2021 م
ذات صباح ربيعي دافئ أسرّت زوجتي في أذني خبراً مفاده أنها رأت فرخ أفعى صغيرا في أرضنا وأنه اختفى بين الصخور، ولم آخذ الأمر على محمل الجد فقلت لها دعيه وشأنه، ولكـن احذري من ذهاب الأولاد بمفردهم بين الصخور.
لم تمض أشهر معدودات حتى كثرت الأفاعي وإحتلت أقنان الدجاج والأرانب، وحتـى زريبة المواشي، فأخذت أضرب أخماساً في أسداس وأيقنت أنه أسقط في يدي، ولكني آثرت عرض الأمر على أقاربي علهم يساعدونني في وضع حد لهذه الورطة.
وعندمـا عرضت الأمر عليهم أفادوا مجتمعين، الأعمام، والأخوال، وحتى أصدقاء العائلة أن لا أحرك ساكناً وأن يبقى الأمرعلـى حاله إلى أن يفرجها رب العالمين، ولم يكتفوا بذلك، بل حذروني كثيراً من التعرض للأفاعي.
بداية كنت أظهر أنهم يخافون عليّ، إلا أنني وبعد أن اكتشفت أنهم يحضرون إليها قطع اللحم والأرانب الحية، فهمت الحقيقة، ولكن لم يكن بيدي حيلة، فأنا واقع بين نارين، نار الأفاعي ونار الأقارب.
قررت القيام بشيء ما، وصممت على ذلك، وأعلنت نيتي أمام الجميع، سأقاوم هذه الأفاعي، لأنني لست من النوع الذي يرضخ للأمر الواقـع، ونتيجة لهذا الموقف الرجولي، كـان الثمن غالياً، فقدت ولدي الأكبر، مع أنني لم أعرف حتى هذه اللحظة كيف قتل، لكنهم أخبروني أن الأفاعي قتلته، وعند تفتيش جسده جيداً، لم أجد أية آثار للسعات الأفاعي، بل وجدت آثار أصابع على عنقه.
فاتحتهم بالأمر، فاشتد غضبهم، وثاروا عليّ، بحجة أنني سأثير الأفاعي لتلتـهم أولادهم، فقلت لهم متهكماً: والله ما عدت أدري هل أنتـم الأفاعي أم الأفاعي المقيمة تحت الصخور وتعتاش على لحمكم الذي تقدمونه لها؟
أعترف أنه لم يكن من السهل عليّ ففقدان ولدي الأكبر وبهذه الصورة، ولهذا، أخذت أعصر ما تبقى لدي من مخ مع أن الحكيم في مثل هذه الظروف يصبح مجنوناً.
كانت زوجتي معـي، وكانت متحمسة للعمل، مع أن النساء عنـ فقدان أولادهن يصبحن كمن به مسّ.
– اسمع، لقد استرد الله أمانته، فلا تحزن وأنا هذه الأيام مهيئة للحمل، فقم علّ الله يعوضنا بخير منه، قالت زوجتي بحماس.
لا أدري ما الذي حصل معي، إذ شعـرت أن قوتي تلك الليلة تفوق العشرين حصاناً، ولبيت الطلب، وفـي الشهر الثاني زفت زوجتي البشرى:
– أنا حامل، وسأنجب لك اثنين بإذن الله.
استمرت المعارك بيني وبين الأفاعي، وكنت أقتل منها، وفي الحقيقة لم يكن خوفي من هذه المخلوقات، بل كان جل خوفي وقرفي من الأقارب الذين كانوا لي بالمرصاد، فما كنت أقتل أفعى سراً أحياناً، حتى يأتيني أحدهم محذراً بالثبور وعظائم الأمور لأنني تعديت على القدر الذي ساق هذه الأفاعي كـي تخلصنا من الفئران التي كانت تلحق الضرر بالمزروعات والأرانب.
ذات ليلة وقبيل بزوغ الفجـر، حيث مر على زوجتي الحامل تسعة أشهر وخمسة أيام، أيقظتني بهدوء، وطلبت مني الذهاب لإحضار الحاجة (عيشة الغنّام) من بيتها.
لم أتردد، ونهضت من نومي كالفارس الذي اقترب موعده مع المعركة، وغسلت وجهي، وارتديت هندامي على عجل، وتسللت إلى منزل الحاجة عيشة، وبينما أنا في الطريق لمحت مجموعة من الرجال يحملـون كيساً ،لم أعرهم إهتماما لأن مهمتي كبيـرة ، فهي بالنسبة لي مسألة حياة أو موت، ولأن الظلام ما يزال مخيماً لم يروني، لكن الذي ساعدني هو كونهم في الجانب الآخر الذي ما يزال يتقبل انعكاس ضوء القمر قليلاً، ولهذا أكمل كل منا مسيرته، ووصلت إلى بيت الحاجة عيشة.
عندما وصلت إلى منزل الحاجة عيشة ، قرعت الباب فإذا بها ترد علي: أنا قادمة.
لم استغرب من عدم نومها في هذه الساعة لأني أعرف أنها دائمة الصلاة، وخاصة في الثلث الأخير من الليل.
خرجت الحاجة عيشة مسرعة وسألتني: هل ظهرت العلامات؟
فأجبتها: نعم، فقالت: إن شاء الله توم.
وأثناء عودتنا إلى البيـت، أذن لصلاة الفجر، وانقشع بعض الظلام، الأمر الذي سهل عليّ الرؤية من بعيد.
ولهذا، وقبل أن نصل إلى البيت، لمحت نفس الرجال الذين صادفتهم فـي الطريق يفرغون ما بداخل الكيس، وأن رائحة اللحم تفوح في المكان، وطلبت من الحاجة عيشة أن تدخل البيت، لأنني أريد قضاء حاجة.
وبعد ذلك تسللـت إلى المجموعة للتأكد مما يفعلونـه ، وكم كانت المفاجأة، كانوا يفرغون قطع اللحم من الكيس ويرمونها بين الصخور بينما الأفاعي الرقطاء تلتهمها التهاماً، لم أتمالـك نفسي فصرخت بأعلى صوتي:
– الله أكبر، تطعمون الأفاعي لتقويتها؟ لم ينبسوا ببنـت شفة، وكأن الطير حط على رؤوسهم، ومع هذا لم أهدأ وأخذت اشتمهم بشتائم لم تنزل في قاموس، وما أن زال ذهولهم حتى قال أحدهم بوقاحة:
– نعم نريد تقويتها عليك.
– لماذا؟ سألته:
– لأننا لا نحبك! أجاب.
– ما الذي فعلته لكم؟ سألته.
– إن أرضك أفضل من أرضنا، وأولادك متفوقون في المدارس بينما نحن غير ذلك.
ولم أدعه يكمل، فهجمت عليه، وهـرب البقية، وبعد ذلك دفعته إلى حيث الأفاعي التي تنتظر قطع اللحم، وما هي إلا لحظات حتى هجمت عليه أفعى رقطاء، ولسعته في رقبته فمات على الفور، وبعد ذلك وبحركة غريبة من هذه الأفعى تجمعت حوله عدة أفاعي بأجراس وأخذن يرقصن حوله.
اكتفيت بنتائج هذه الجولة، وذهبت إلى البيت وإذ بالصراخ يعلو، شعرت بالفرح لأن المولود حي ، ولكن خوفي على زوجتي ما يزال قائماً! وما أن دخلت البيت حتى أخبرتني أن هناك اثنان!
– وأمهم؟ سألتها…
– اطمأن إنها بخير… قالت الحاجة عيشة.
حمدت الله كثيراً، وتوضأت لصلاة الفجر، وصليت قبلها اثنتي عشرة ركعة، وبعد صلاة الفجر تناولت المصحف وأخذت أتلو القرآن حتى طلوع الشمس.
كانت هذه هي المرة الأولى التي فاتتني صلاة الفجر في المسجد، ولذلك، خرجت إلى القرية لسماع الأخبار فوجدت الدنيا مقلوبة إذ أن خبر موت أبي العارف شاع بين الناس وأحدث ضجة كبرى.
– تصور أنه ذهب لإطعام الأفاعي فقتلته؟ قال أحدهم.
– ما الذي تتوقعونه من الأفاعي؟ هه! رد آخر.
– بالأمس قتلن ابن الحاج سالم، واليوم قتلن أبي العارف… قال ثالث.
– وهل الأفاعي هي التي قتلت ابن الحاج سالم؟ زفر أحدهم…
وما أن وصلت إليهم حتى انقطع الحديث وخيم السكون.
– ما بكم يا جماعة؟ سألت بخبث.
– مات الحاج عارف، ردوا عليّ بصوت رجل واحد.
– وكيف مات لقد كان مثل الحصان؟ سألتهم.
– قتلته الأفاعي قبيل طلوع الفجر. أجاب أحدهم.
– ومن الذي يتواجد هناك في مثل هذه الساعة؟
– ……!
– لقد رأيت كمية من اللحم المقطع هناك، قلت بخبث.
– ……!
– انتهى أجله، قلت لهم، ونهضت عائداً إلى البيـت، كان المولودان يشبهان أخاهما الراحل، فحمدت الله وشكرته كثيراً لأنه عوضني باثنين بدلاً منه.
– ألم أقل لك أن الله معنا! قالت زوجتي.
– حمـداً لله على سلامتك وألـف مبروك، قلت لها وأخذت أتحسس الطفلين.
مـرت الأيام، وكبر الطفلان، وأخذا يذهبان مع إخوتهما العشرة إلى الصخور لمراقبة الأفاعي، وكانت زوجتي بفضل من الله، تلد كل عام توأماً وكأن الله يريد أن يمن علينا بفضلها ويعوضنا عن قاسم الذي فقدناه، ولم تمض خمس سنوات حتى أصبح لدينا عشرين ولداً وخمس بنات.
وذات ليلة من ليالي الصيف المقمرة، كنت جالساً مع زوجتي على البيدر نتجاذب أطراف الحديث، حين قالت بلهجة المرأة التي تريد التمهيد لأمر في نفسها:
– لقد من الله علينا بالمال والعيـال ولذلك أريد تزويج الأولاد الذين بلغوا السادسة عشرة من أعمارهم.
وبدون تفكير قلت لها:
– على بركة الله، ولكن أين العرائس؟
– ثلاث من بنات إخواني، واثنتان من بنات أختي عسلية!
– لا أمانع توكلي على الله!
ولم تمض أيام معدودات حتى عم الفرح البيت واستمر أسبوعاً كاملاً من الغناء والطبخ والدبكة والسهر.
بعد شهر أخذت زوجتي وكنائنها الخمس بتجميع الحطب من سفوح الجبال القريبة ووضعه في الطرف الغربي حتى بلغ أكداساً مكدسة تكفي حملة سفربر لك شهراً كاملاً.
وفي إحدى الليالي هبت رياح شرقية كما هي العادة في مثل هذا الموسم، واستيقظت وإذا بزوجتي تشعل النار في أكداس الحطب والحشائش الجافة، لتعانق السنة اللهب عنان السماء بمساعدة الرياح، وتتوجه إلى حيث الأفاعي التي خرجت من جحورها مذهولة لا تدري ماذا عليها أن تفعل.
وكانت المفاجأة المذهلة، أن مياها غزيرة تدفقت من الشرق لتطفئ النار المشتعلة، فتسللت خفية لاكتشاف السر، فإذا بأقاربي يحملون خراطيم المياه الضخمة، ويضخون المياه من آبارهم لإطفاء النار وحماية الأفاعي من الموت المؤكد.
من مجموعتي القصصية”الأرض لنا“
التعليقات مغلقة.