مقال نظري هام … لينين والحزب الثوري / توني كليف

توني كليف – الإثنين 22/2/2021 م …




  • المقال مترجم …
  • تقديم

منذ السنوات الأولى لانتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917 وحتى وقتنا هذا، أعدت الكثير من الدراسات التي تتناول قيادة الحزب البلشفي الطبقة العاملة للنصر في ثورة أكتوبر. وبالرغم من تنوع هذه الدراسات بين ما يسعى لتمجيد لينين والقادة البلاشفة وبين ما يدرس العلاقة المركبة بين الحزب الثوري والطبقة العاملة، إلا أن هذه المقالة، التي أعدها الاشتراكي الثوري البريطاني توني كليف، تعد واحدة من أهم تلك الدراسات على الإطلاق.

إذ أنها تتناول إسهام لينين في بناء أنجح الأحزاب الاشتراكية الثورية حتى الأن: الحزب البلشفي. وتعود أهميتها في أنها تسلط الضوء على مناطق جديدة تماماً في هذه المسألة، فهي لا تتناول فقط نظرية لينين ولكن أيضاً ممارسته في إدارة الحزب داخلياً. وهو الجانب الذي لم ينل قسطاً وفيراً من الدراسة والتحليل، وإن كان تم تناوله، فقد كان ذلك على سبيل تمجيد تراث لينين باعتباره خالي من الأخطاء أو السقطات، وليس كتراث من التجربة والخطأ، والفشل وإعادة التقييم والتصويب المستمر، حيث يمكن تطوير النظرية فقط من خلال صقلها بالممارسة العملية.

(المترجم)

مقدمة

من أجل إنجاز الثورة الاشتراكية، نحن بالتأكيد نحتاج حزباً ثورياً، وذلك بسبب التفاوت في الوعي بين القطاعات المختلفة داخل الطبقة العاملة. فإذا كانت الطبقة العاملة متجانسة أيديولوجياً، لن يكون هناك حاجة لقيادة. لكن الثورة لن تتنظر حتى يصبح جميع العمال على مستوى وعي ثوري واحد، وحده الحزب الثوري هو الذي يستطيع تقدير اللحظة الثورية والتحرك فيها سريعاً لينبه الطبقة العاملة، جزئياً، بمهامها الثورية.

إلا أن التفاوت في الوعي ليس أمراً ثابتاً، فأحياناً تتحرك أكثر القطاعات تأخراً في الطبقة العاملة بسرعة شديدة إلى الأمام. والمجموعات المختلفة من الطبقة العاملة تتأثر، بدرجات مختلفة، بأفكار وتأثيرات الطبقات الأخرى، وأعضاء الحزب الثوري لا يشكلوا استثناءاً في ذلك. أما القيادة الحزبية للطبقة العاملة فهي نتاج النضال ضد تلك التأثيرات المختلفة. وداخل الحزب نفسه، تحصن القيادة الثورية نفسها بالكفاح والنضال من أجل إرساء السياسات الصحيحة. وبنفس المنطق ينبغي على حزب الطليعة العمالية أن يحفز مبادرة واستقلالية جماهير العمال، ومن خلال المركزية الديمقراطية عليه أن يطور مبادرة واستقلالية أعضاء الحزب أنفسهم. كان هذا بشكل عام هو تصور لينين عن الحزب الثوري وعلاقته بالطبقة العاملة، وشكل منظمة الحزب وفقاً لهذه العلاقة.

لكن الصورة العامة لمنظمة الحزب، في شكلها المثالي، لا تتحقق دائماً على أرض الواقع. ففي الصورة المثالية، يجب أن يكون مركز الحزب –الذي يضم أفضل عناصر الحزب- متقدماً عن الهيئات المحلية واللجان الفرعية للحزب. والأشكال التنظيمية الأخيرة يجب أن تؤثر في وتتأثر بالقيادة المركزية للحزب.

بينما في الواقع العملي، أحياناً ما يصبح الأمر مختلفاً بشكل كامل. فالقيادة المركزية للحزب قد تتقدم عن الأشكال التنظيمية المحلية والفرعية داخل الحزب من خلال اتباعها لروتين ثابت. لكن ذلك الروتين ذاته قد يولد لدى القيادة الحزبية ميول شديدة المحافظة، وحين تحدث تحولات أو تغيرات سياسية حادة تطرح مهام جديدة في الصراع الطبقي، قد تتخذ القيادة الحزبية -في حالة عزلتها عن النضالات القاعدية- مواضع أكثر تأخراً بكثير عن كثير من عضوية الحزب القاعدية. في حين تستطيع قطاعات معينة في الحزب أن تتفاعل سريعاً مع المهام المطروحة وفق التغيرات الجديدة في الصراع. لذا فكلما كان هيكل الحزب جامداً كلما كان تفاعله مع المهام المتجددة في الصراع الطبقي بطيئاً.

وهنا يمكننا تلخيص أفكار وممارسة لينين في عدد من العناصر الأساسية:

1) صحة النظرية أو خطأها يتحدد عن طريق تطبيقها.

2) النظرية لا تتطور إلا من خلال خوض الممارسة العملية على أرضية النضال الطبقي.

3) إن تطور توجهات مختلفة للنضال يجعل من الضروري البحث فيما يربط تلك التوجهات بما يحدث في الواقع العملي.

4) المنظمة الثورية محددة تاريخياً، لكن ليس فقط وفقاً للنظرية العامة، بل أيضاً يجب عليها أن تتمتع بالمرونة التي تؤهلها للاستجابة المستمرة للمتغيرات الكبرى في الصراع الطبقي.

5) القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها الحزب الثوري في ممارسته العملية هي المركزية الديمقراطية، لكن في بعض الأحيان يصبح كسر القواعد ضروري لصالح الثورة ذاتها.

6) القواعد التنظيمية في الحزب هي الوسيلة التي من خلالها يمكن السيطرة على الميول الفوضوية لدى بعض الأعضاء أو المجموعات الصغيرة (التي غالباً ما تنتمي للطبقات الوسطى)، لكن تلك القواعد يجب ألا تمنع أو تحد من مرونة الحزب التاكتيكية. وفي فترات الاحتدام في الصراع الطبقي، يكون من واجب الأعضاء الأكثر إخلاصاً في الحزب كسر الانضباط بتلك القواعد ذاتها.

7) من الضروري تجنب النشاطوية والغرق في الممارسة والاستهتار الانتهازي، بدون الوقوع في فخ الالتزام بالقواعد بشكل دوجمائي أعمى.

إن الإسهام الحقيقي للينين في كيفية عمل وممارسة الحزب الثوري تتجلى في تاريخ نشاطه وممارسته الثورية، وليس في النظريات المجردة. وتقدم هذه المقالة بعض الأمثلة التي تشرح هذه النقاط، كما المقالة أن تتعاطى مع مسألة في غاية الأهمية، ألا وهي: القواعد والانضباط الحزبي. وبالرغم من أن تناول موضوع محدود مثل هذا يقود عادةً إلى نظرة ضيقة، إلا أنه لا يمكن فهم العمل الداخلي للحزب الثوري دون النظر إلى العلاقة بين هذا الحزب ونضالات الطبقة العاملة.

ما العمل؟

إن الأفكار المبكرة للينين حول التنظيم الثوري قد تبلورت في كتابه “ما العمل؟”، الذي كتبه في 1902، حيث جادل أنه.. “لا يمكن أن يتطور وعي اشتراكي ديمقراطي بين العمال بشكل تلقائي. هذا الوعي يمكن فقط أن يأتي لهم من الخارج.. بينما تستطيع الطبقة العاملة، في طريق نضالها، أن تطور وعي نقابي: أي الاقتناع بضرورة تأسيس والانضمام إلى نقابات، وشن النضال ضد أصحاب العمل، والكفاح لإرغام الحكومة على سن تشريعات عمالية”.

وقد استرسل لينين ليؤكد أن.. “حركة الطبقة العاملة العفوية تتلخص في النقابوية. والنقابوية تعني استعباد البرجوازية أيديولوجياً للعمال. لذا فإن مهمتنا تكمن في تحويل العمال عن الكفاح العفوي النقابوي”.

لكن لماذا تؤدي “الحركة العفوية” إلى سيطرة أيديولوجية البرجوازية؟ لسبب بسيط وهو أن الأيديولوجيا البرجوازية أقدم بكثير من الأيديولوجيا الاشتراكية، كما أنها قد اكتمل تطورها وتملك وتتحكم في وسائل أكبر وأقوى بكثير للهيمنة والسيطرة على أفكار الجماهير.

أما الأشكال التنظيمية التي تحتاجها الاشتراكية الثورية، فهي بالتأكيد مستمدة من المهام السياسية التي تطرح نفسها عليها: “في ظل الدولة الأوتوقراطية، كلما كان تحديد الأعضاء دقيقاً، بأنهم أولئك الأشخاص المرتبطين بالنشاط الثوري بشكل محترف والمتدربين باحترافية على فن مراوغة البوليس السياسي، كلما كان من الصعب الإجهاز على المنظمة”. هكذا كتب لينين في “ما العمل؟”.

تبلورت فكرة لينين بشكل أكثر اكتمالاً في إحدى وثائق عام 1904، حيث كتب أن أسفل اللجنة المركزية يجب أن يكون هناك نوعين من المجموعات: محلية وصناعية. “اللجان المحلية يجب أن تضم اشتراكيين ديمقراطيين ذوي قناعة كاملة بالأفكار، ويسخرون أنفسهم بالكامل للنشاط الاشتراكي الديمقراطي”، على أن تكون اللجان صغيرة العدد. “أما كافة الهيئات الأخرى، فيجب أن تتبع اللجنة المركزية، ويجب أن يكون لديها مجموعات في الأحياء والمقاطعات في المدن الكبرى، ومجموعات مصنعية دائمة وفي كل مكان”. “ومن حق مجموعات الأحياء أن تعمل باستقلالية فقط فيما يخص مسائل النقل والتوزيع”. أما حلقات المصانع فهي “شديدة الأهمية بالنسبة لنا… ويجب أن يصبح كل مصنع قلعة للاشتراكية الديمقراطية”.

كيف كان الحزب يعمل على أرض الواقع؟

إلا أن الأمور بدت مختلفة تماماً على أرض الواقع، فقد امتلئت خطابات لينين التي كان يرسلها من المنفى للجان الحزب في روسيا، بالكثير من الشكاوى عن نقص المعرفة وقلة التثقيف وقلة أعداد المتعاطفين والمتعاونين حول تلك اللجان. هكذا كان، على سبيل المثال، يسأل لجنة الحزب في أوديسا.. “هل تضمون عمالاً إلى لجنة الحزب؟ هذا الأمر غاية في الأهمية. لماذا لا تجعلوا الحزب في علاقة مباشرة مع العمال. ليس هناك عامل واحد يكتب لجريدة فبريود.. هذه فضيحة بكل المقاييس. نحن نحتاج، تحت أي ظرف، عشرات العمال ليراسلوا الجريدة”. وفي أحيان أخرى، كان لينين يكتب بيأس بالغ.. “نحن نتحدث عن المنظمة وعن المركزية، لكن في الواقع هناك حالة من عدم الوحدة والهواية في الأداء، حتى بين الأعضاء شديدي القرب من مركز الحزب، وكأنكم تخليتم عن الأمر كله باشمئزاز”.

في بداية عام 1905، كتبت كروبسكايا، زوجة لينين، من جينيف إلى لجنة الحزب في بطرسبورج، ما يلي: “لقد علمنا من الجرائد الأجنبية أن ثمة إضراب وقع في مصنع بوتيلوف. هل لدينا أية صلات هناك؟ هل الحصول على معلومات عن الإضراب مستحيل إلى هذه الدرجة؟”. وقد علّق نفيسكي على هذا الخطاب قائلاً أن “لقد بدأت رأس حربة الحركة البروليتارية، عمال مصنع بوتيلوف(1)، في النضال ضد الرأسماليين، لكن قيادة الحزب في الخارج علمت عن الأمر من الجرائد الأجنبية، ولم تستطع إدراك أن الإضراب كان في ارتباط قوي بحركة الإضرابات الهائلة للبروليتاريا في بطرسبورج”.

وفي المؤتمر الثالث للحزب البلشفي، اعترفت لجنة الحزب في بطرسبورج أن “أحداث يناير 1905 قد جعلت لجنة الحزب في وضع مؤسف للغاية، فالروابط بين اللجنة والجماهير العمالية كانت غير منظمة بالمرةً.. ولم يكن هناك أي عامل في اللجنة. وإضراب مصنع بوتيلوف قد جعل اللجنة في ارتباك هائل”. وكنتيجة مباشرة لضعف وقلة خبرة أعضاء لجنة بطرسبورج، وانعزالها عن نضالات الطبقة العاملة، وقعت لجنة الحزب البلشفي في 1905 فريسة سهلة للتطرف اليساري والعصبوية، ويجدر الإشارة هنا إلى رفض اللجنة الاشتراك في السوفييت عندما تأسس في نهاية العام نفسه.

وفي الحقيقة، فإن موقفاً عصبوياً مشابه جداً قد اتخذته قيادة الحزب داخل روسيا تجاه النقابات الصاعدة في ذلك الوقت. وكما كان الوضع بشأن سوفييت بطرسبورج، وقف لينين في صف القواعد الحزبية وأخذ يناضل ضد القيادة المركزية الديمقراطية التي كان ينتمي إليها، فقد أثبتت ثورة 1905 بوضوح أن الحزب الثوري لا يتقدم عن الطبقة العاملة بشكل أوتوماتيكي، ولا اللجنة المركزية -التي تقود الحزب- تتقدم عنه أوتوماتيكياً أيضاً.

التحولات التاكتيكية

قبل ثورة 1905، كانت كوادر الحزب البلشفي متقدمين، على مستوى الوعي والنشاط، حتى على القطاعات المتقدمة من الطبقة العاملة. لكن أثناء الثورة كانت طليعة الطبقة العاملة أكثر تقدماً من كوادر الحزب الذين قد خلقوا، خلال سنوات من العمل السري والغير شرعي وظروف القمع الرهيبة التي عملوا في ظلها، روتيناً ثابتاً في العمل التنظيمي يكبح الحزب عن الطبقة العاملة في الوقت الذي اندلعت فيه الثورة.

وفي ذلك الوقت، تركزت جدالات لينين على نقطة أساسية وهي: فتح أبواب الحزب على مصراعيها للقوى الجديدة، حيث كتب أن: “أحياناً أفكر في أن تسعة أعشار البلاشفة هم في الحقيقة من المثقفين.. نحتاج قوى شابة جديدة في الحزب. من غير المقبول تماماً أن يقول أحدنا أنه لا يوجد أحد يمكن ضمه للحزب.. الناس في روسيا الآن يثورون، وكل ما نحتاج عمله هو تجنيدهم للحزب دون أن نخاف منهم”.

“قوموا بمضاعفة حجم اللجان الحزبية ثلاثة أضعاف بقبول أعضاء شباب فيها.. قوموا بإنشاء عشرات اللجان الفرعية.. جندوا كل شخص أمين ونشيط، واسمحوا للجان الفرعية والخلايا بكتابة نشرات بدون قيود (لا ضرر إذا وقعوا في بعض الأخطاء).. لا تخافوا من قلة تدريبهم، أو من قلة خبرتهم وتطورهم”.

كان لينين يكرر أيضاً أن “إذا فشلنا في المبادرة الجريئة لبناء منظمات جديدة، لن يكون لدينا أي أساس نستند إليه، وسنكون قد تخلينا عن كل ذرائع حكم طليعة الطبقة العاملة.. هناك آلاف الحلقات التي تنشأ في كل مكان تحت ضغط الأحداث، بدون مساعدتنا، وبدون أي أهداف مرسومة ومحددة”.

“دعوا كل هذه الحلقات تنضم للحزب، فيما عدا الحلقات غير الاشتراكية الديمقراطية. في الأحداث الحالية يجب ألا نطلب منهم أن يتبنوا برنامجنا بالكامل، أو أن يدخلوا في علاقات تنظيمية مباشرة معنا”.

إلا أن قيادات وكوادر الحزب البلشفي عارضوا تصورات لينين. وفي المؤتمر الثالث للحزب في ربيع 1905، استطاعوا التغلب عليه في هذه القضية. سنلقي نظرة الآن على جزء من مناقشات المؤتمر:

جادل أحد مندوبي المؤتمر بأن “العلاقة بين العمال والمثقفين في منظمات الحزب، هذه القضية غير موجودة بالأساس (لينين يقاطع: بل موجودة)، لا ليست موجودة إلا في إطار التساؤل الديماجوجي، وهذا كل شيء”.

كان هناك الكثير من المندوبين الذين أدلوا بتقارير حول قلة عدد العمال بين عضوية لجان الحزب. كان هناك عامل واحد فقط في لجنة بطرسبورج، وعامل واحد أيضاً في لجنة باكو، في حين لم يكن هناك أي عامل في اللجنة الشمالية أو في لجنة كوتايس. وحينها علق لينين بكلمة واحدة: “شيء شنيع”. بينما ذكر أحد المندوبين أن “هناك العديد من العمال في اللجنة التي أنتمي إليها، لكن هناك درجة عالية من التخوف والريبة تجاه هؤلاء العمال”.

وفي هذه اللحظة، وقد أصبحت جلسة المؤتمر أكثر صخباً، تدخل لينين قائلاً: “سوف تكون أحد المهام الأساسية في المستقبل أن نعيد تنظيم اللجان الحزبية: يجب أن نتجاوز سيطرة المثقفين على تلك اللجان. إن مهمة ضم عمال إلى اللجان الحزبية هي مهمة سياسية أساسية بالنسبة لنا.. العمال لديهم غريزة طبقية، ومن خلال اكتسابهم بعض الخبرة السياسية، سيصبحون اشتراكيون ثوريون أوفياء. إني أؤيد بقوة أن يكون كل عضوين مثقفين في لجنة الحزب يقابلهما ثمانية عمال”.

لم تكن تلك هي المرة الأخيرة التي وجد لينين نفسه فيها في موضع الأقلية بين القادة البلاشفة، أو أن يتم التشويش على مداخلاته في مؤتمر الحزب. وبالرغم من ذلك، كان يجادل بقوة في النقطة السابقة في نهاية نفس العام، حيث قال: “في المؤتمر الثالث للحزب كنت قد اقترحت أن أن يكون كل عضوين مثقفين يقابلهما ثمانية عمال في لجنة الحزب، لكن هذا الاقتراح يبدو غير واقعي اليوم. لذا علينا اليوم أن نعمل من أجل أن تكون النسبة هي مثقف اشتراكي ديمقراطي مقابل مئات من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين”.

وبعد ذلك بعام: “الأمر يبدو غير طبيعي عندما نعلم أن لدينا 6 آلاف عضو في بطرسبورج، بينما يوجد 150 ألف عامل هناك.. يجب أن نتعلم كيف نجند العمال للحزب 5 أو 10 مرات أكثر”.

لقد كان على لينين أن يقي أتباعه من الولاء الأعمى للأطروحات التي قدمها في “ما العمل؟”، حيث أن العلاقة بين العفوية والتنظيم مرتبكة، وكان يمكن أن تربك بدورها الحركة الاشتراكية الديمقراطية في هذا الوقت، إلى أن صحح لينين تلك الأطروحات على ضوء أحداث 1905 الثورية. حيث كتب إلى أعضاء الحزب أن “الطبقة العاملة هي طبقة اشتراكية ديمقراطية بالغريزة.. لذا اعملوا على توسيع قواعدكم، اجعلوا العمال يلتفوا حولكم، ضموهم إلى قواعد منظمات الحزب بالمئات والآلاف”.

يجب أن نتذكر في النهاية أن التحولات التاكتيكية للينين كان يمكن أن تدمر الحزب نفسه، لولا إصرار لينين منذ البداية على أن ضوابط الحزب والقواعد التي يسير وفقها لابد أن تكون قليلة العدد وذات طابع يتسم بالمرونة.

لينين يتحدى الخطوط الحمراء

كان لينين يتعامل مع القواعد والضوابط الحزبية ببساطة، وليس باعتبارها أمور تحتاج الكثير من الوقت والتفكير والجهد للالتزام بها، هكذا كتب مثلاً أن: “ما نحتاجه ليس القواعد في حدا ذاتها، لكن المعلومات عن منظمات الحزب. كل منظمة في الحزب تقضي على الأقل عدد من الليالي لنقاش القواعد التنظيمية. سيكون الأمر مفيداً للحزب مائة مرة إذا استغل الأعضاء هذا الوقت في كتابة تقارير جيدة ومفصلة عن نشاطهم لبقية الحزب”.

عندما أرسى لينين قواعد الحزب في 1903، كانت تلك القواعد قليلة للغاية: 12 قاعدة في 421 كلمة. إلا أن لينين نفسه كان يجد في بعض الأحيان أنه من الضروري خرق تلك القواعد من أجل الحفاظ على الحزب نفسه. وسأضرب بعض الأمثلة الهامة على ذلك.

بعد 1903، كانت اللجنة المركزية للبلاشفة، على عكس ما تمناه لينين، تسعى للتصالح مع المناشفة. وبعد شهور من المراسلات حادة النقد التي كان يرسلها لينين للجنة المركزية، تم طرده منها، وحينها كانت اللجنة المركزية على اتصال وثيق بهيئة تحرير جريدة الإيسكرا (2) بعدما سيطر عليها المناشفة. كما استنكرت اللجنة المركزية دعوات لينين المستمرة لعقد مؤتمر حزبي، وحرمته من منصبه فيها كممثل “للمكتب الجنوبي”(3)، كما أن كتاباته لم يُنشر منها الكثير في هذا الوقت.

وهكذا فإن لينين، من خلال إنشاء هذه المنظمة الجديدة (المكتب الجنوبي) التي ضمت أعضاء منضبطين للحزب، قد خرق القاعدة رقم 6 في لائحة الحزب البلشفي، والتي قضت بأن تشكيل لجان ومنظمات الحزب هو من صلاحيات اللجنة المركزية فقط. ومن خلال هذه المنظمة، كان لينين يدعو إلى عقد مؤتمر حزبي جديد، في خرق مباشر للقواعد التنظيمية التي أرساها بنفسه للحزب.

لنأخذ مثال آخر: في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ستوكهلم عام 1906، لإعادة التوحيد بين المناشفة والبلاشفة، حصل المناشفة على أغلبية الأصوات لتشكيل اللجنة المركزية. هل قبل لينين أن تكون الفروع واللجان المحلية للحزب الاشتراكي الديمقراطي تحت قيادة اللجنة المركزية المنشفية؟ في الحقيقة لم يقبل لينين ذلك مطلقاً، وفي هذا الوقت دعا لإتاحة مزيداً من الصلاحيات التنظيمية للفروع واللجان الحزبية في تقرير الخط السياسي الخاص بهم بحسب النشاط الذي يقوم به الأعضاء.

وفي المؤتمر الثالث للحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي عُقد في يوليو 1907، والذي حضره مندوبين من كل من المناشفة والبلاشفة، جميع المندوبين البلاشفة، فقط باستثناء لينين، صوتوا في صالح مقاطعة انتخابات الدوما، وقد صوت لينين مع المناشفة لصالح خوض الانتخابات والتقدم بمرشحين من الحزب.

سيتضح لنا الأمر أكثر عندما نتناول الطريقة التي تعامل بها لينين حيال التكتل الذي أنشأه عضو اللجنة المركزية، بوجدانوف، الذي تزعم تكتل “البلاشفة اليساريين”. في 1909، كان هناك انشقاق حقيقي في الحزب البلشفي، وفي هذا الوقت كانت أي دعوة لمؤتمر حزبي سوف يؤدي إلى دمار الحزب كله، وفي نفس الوقت كانت الحركة العمالية في تراجع شديد، أثناء سنوات الردة التي أعقبت هزيمة ثورة 1905. وقتها، رأى لينين أن عزل بوجدانوف -الذي قد انتُخب كعضو في اللجنة المركزية البلشفية في مؤتمر لندن 1906- كان شيء ضروري للغاية حفاظاً على الحزب نفسه. لذا فقد اجتمع لينين بمجلس تحرير الجريدة البلشفية “بروليتاري”، ذلك المجلس الذي لم يكن له أي صلاحيات تنظيمية قوية في الحزب، وقام بعزل بوجدانوف.

لم يقم لينين في هذه الحالة بالاستناد إلى العمال النشطين في الحزب في مواجهة بوجدانوف، لكنه استخدم أحد الأجهزة غير ذات الصلاحية في الحزب لعزل زعيم التكتل، حتى أن العديد من القياديين البلاشفة المؤيدين للينين –بما فيهم ستالين- قد انتقدوا تصرف لينين ووصفوه بالتعسف تجاه بوجدانوف. بالطبع كان لينين مخطئاً من الناحية الرسمية، لكنه أنقذ البلشفية من الانزلاق في فخ اليسارية المتطرفة التي كان يروجها بوجدانوف.

إن اليسارية المتطرفة تطفو على السطح عندما يكون الثوريون في عزلة عن دعم الطبقة العاملة. وصحيح أن الأفكار اليسارية المتطرفة شكلية للغاية وبعيدة عن الواقع، لكن كيف يمكن إثبات ذلك من دون حركة جماهيرية؟ لذا فقد قام لينين بحل الأزمة عن طريق كسر القواعد والمبادئ التنظيمية، التي كان يعتبرها دوماً أقل مرتبةً من المهام والأولويات السياسية التي تطرحها اللحظة، كما اعتبر المبادئ التنظيمية لا تعدو سوى أن تكون مجرد وسائل لتحقيق تلك المهام والأولويات.

كيف أدار لينين الصراع ضد مؤيديه؟

لن أتعرض هنا إلى الخلفيات السياسية للأحداث، ولا طبيعة عمل ونشاط بقية البلاشفة البارزين، لكن بشكل عام، من المدهش أن ندرك أن لينين قد استطاع أن يبقى القائد الأبرز للحزب البلشفي على الإطلاق، بالرغم من كل الخلافات والصراعات الداخلية في الحزب. ويرجع ذلك إلى 5 أسباب رئيسية:

1) التركيب البروليتاري للحزب:

في 1905، شكّل العمال أغلبية الحزب البلشفي (62% من عضوية الحزب) (4). وفي فترة الردة الرجعية، بعد هزيمة الثورة، كانت جموع هائلة من الأعضاء المثقفين في الحزب من غير العمال، تترك الحزب، والكثير منهم عاد إلى الحزب مرة أخرى في الفترة بين 1912- 1914 التي شهدت إعادة إحياء للكثير من النضالات. بينما شهد الحزب نزوح جماعي مرة أخرى في خلال سنوات الحرب، لذا فإن الحزب البلشفي ظل عمالياً في تركيبه.

2) الشباب في الحزب البلشفي:

في عام 1907، كان متوسط عمر 22% من عضوية الحزب أقل من 20 عاماً، و37% بين 20 و24 عاماً، بينما 16% من 25 إلى 29 عام. أما القائمين على أعمال الدعاية والتحريض والخطابة، فنادراً ما كانوا أكبر سناً (17% منهم تحت الـ 20، و42% بين 20 و24، و24% بين بين 25 و29 عاماً). ويُذكر أن مندوبي المؤتمر الخامس للحزب البلشفي قد ضم أعضاءاً بلغ متوسط عمرهم 27 عاماً فقط، بينما بلغ متوسط أعمار الأعضاء التسعة في اللجنة المركزية 34 عاماً، ومتوسط عمر أكبر ثلاثة أعضاء سناً، وهم كراسين ولينين وكراسيكوف، كان 37 عاماً.

كان الأعضاء الشباب في الحزب البلشفي هم الأكثر إبداعاً وابتكاراً ونشاطاً واستعداداً للتضحية بالنفس. وقد سهّل ذلك على لينين عملية مقاومة وتجاوز الميول المحافظة داخل الحزب البلشفي.

3) اعتماد لينين على القطاعات المتقدمة في الطبقة العاملة:

أدرك لينين بعمق أن هناك علاقة جدلية بين الحزب الثوري ذو الهيكل التنظيمي المتماسك وبين التفاوت في الوعي والنضالية في الحركة الثورية وداخل الحزب ذاته. كما أدرك بالتالي أن بعض الذين يلعبون دور الطليعة المتقدمة في الحزب في مرحلة معينة، يمكن أن يتراجعوا إلى الوراء في مرحلة أخرى. لذلك كان لينين ينظر إلى الطليعة المتقدمة من العمال داخل الحزب كسند له ضد المحافظين داخل نفس الحزب.

في ثورة فبراير 1917، عندما أسقطت الجماهير القيصر في روسيا وأنشأ العمال السوفيتات، كانت اللجنة التنفيذية لسوفييت بتروجراد، والتي تشكلت من 39 عضو، تضم 11 بلشفي(5)، إلا أنه لم يعارض أي منهم إقامة الحكومة البرجوازية. وعندما عاد ستالين وكامينيف من المنفى في سيبريا، أيدوا هم أيضاً الحكومة المؤقتة البرجوازية، كما وضعوا نهاية لسياسة الحزب البلشفي المعادية للحرب. أما في منطقة فيبورج، (التي ضمت مصانع هندسية ومصانع نسيج، والتي كان بها قاعدة بلشفية متماسكة ومنظمة)، عارض العمال البلاشفة قرارات القادة ودعوا إلى سلطة السوفييت، حيث دعوا إلى استيلاء السوفيتات بشكل فوري على السلطة السياسية بدلاً من الجمعية التأسيسية البرجوازية. إلا أنه، وبالرغم من ذلك، أرغمت لجنة الحزب في بطرسبورج الأعضاء البلاشفة على التخلي عن ذلك.

وعندما عاد لينين إلى روسيا من منفاه في سويسرا، كان الدعم الذي أظهره البلاشفة في فيبورج والكثير من الأعضاء البلاشفة الآخرين، هو ما سهّل عليه أن يكسب دعم الحزب كله في جانب أفكاره الثورية التي قدمها في “أطروحات نيسان”. وفي هذا الكتيب أوضح لينين أن أطروحاته لا تلقى أي قبول من القادة البلاشفة، حيث كتب أنه “لا يوجد ولا منظمة ولا مجموعة ولا عضو واحد في الحزب كله يوافق على هذه الأطروحات”. أو كما كُتب في جريدة البرافدا أنه “بالنسبة للخطة العامة التي يضعها لينين، فإن الأمر ليس مقبولاً على الإطلاق، خاصةً أن أطروحات لينين تنطلق من فرضية أن الثورة البرجوازية الديمقراطية قد انتهت، وقد آن الأوان لتحول هذه الثورة فوراً إلى ثورة اشتراكية”. ويُذكر أن كامينيف قد كتب في جريدة البرافدا أن الجريدة واللجنة المركزية للحزب البلشفي يرفضان أطروحات لينين بشكل حاسم.

إلا أن الأمور سارت في اتجاه عكسي في خلال أسبوعين فقط؛ حيث صدّق مؤتمر مدينة بطرسبورج بالكامل على رفض لينين للحكومة المؤقتة، وبعدها انعقد مؤتمر الحزب البلشفي الذي فعل الشيء نفسه.

من جانب، فإن بطرسبورج التي بلغ عدد سكانها حوالي 2 مليون، وبداخلها مقاطعة فيبورج بسكانها الـ 170 ألف، يمكن اعتبارها بمثابة أقلية صغيرة في روسيا التي بلغ عدد سكانها في ذلك الوقت حوالي 100 مليون نسمة. لكن من جانب آخر، فإنه دائماً ما يوجد قطاعات معينة من الجماهير التي قد تلعب أدواراً أكبر بكثير من حجمها، وقد تغير مسار التاريخ. لقد تقبل البلاشفة في العاصمة “أطروحات نيسان” بعد فترة قصيرة للغاية، لكن البلاشفة في العديد من المناطق، مثل خاركوف أو أوديسا، قد استكملوا عملهم في تحالف مع المناشفة حتى يوليو أو أغسطس 1917.

4) هيكل الحزب:

في الحزب البلشفي، كانت المؤتمرات الحزبية واللجان المركزية ذات سلطات سيادية، بالرغم من أنها كانت تضم أعداد قليلة من أعضاء الحزب. على سبيل المثال، فقد ضم مؤتمر عام 1903 57 مندوباً، وفي 1907 ضم مؤتمر الحزب 336 مندوباً عن 46 ألف عضو. وفي أبريل 1917، ضم المؤتمر 149 مندوب عن 200 ألف عضو بالحزب البلشفي. وفي السنوات التي سبقت عام 1917، كانت اللجنة المركزية تضم من 3 إلى 12 عضو، فيما ضمت 22 عضو في أكتوبر 1917، عشية الثورة، في حين كان الحزب البلشفي ككل يضم 270 ألف عضو.

كانت مؤتمرات الحزب تستغرق وقتاً طويلاً للغاية، ففي المؤتمر الثاني للحزب في 1903 استغرق المؤتمر 25 يوماً، بينما استغرق المؤتمر الثالث في 1905، 16 يوماً. والرابع (1906) 16 يوماً، والخامس (1907) 20 يوماً، أما المؤتمر السادس (1917) 9 أيام. وقد ساعد قلة عدد مندوبي كل مؤتمر –مقارنةً بإجمالي عدد اعضاء الحزب- والفترة الزمنية الطويلة التي استغرقها كل مؤتمر، على ضمان تقوية الديمقراطية الداخلية في الحزب البلشفي، حيث كانت تُجرى مناقشات شديدة الكثافة وطويلة المدة حول القضايا التي تواجه الحزب. وذلك بالرغم من أن عقد مؤتمر قصير المدة بعدد أكبر من المندوبين يُعد أمراً أسهل بكثير مما كان يفعله البلاشفة.

لم تكن التكتلات والفئات المختلفة تستمر لفترة طويلة داخل الحزب البلشفي، ولم يكن ذلك فقط بسبب التركيب البروليتاري للحزب، لكن أيضاً بسبب الطبيعة المؤسسية للحزب البلشفي ومؤتمراته. ويجدر الإشارة هنا إلى أن التكتل الأطول عمراً هو تكتل بوجدانوف، الذي استمر في العمل حوالي ثلاث سنوات، لكن ذلك كان بسبب الانعزال النسبي للحزب عن نضالات الطبقة العاملة.

5) إلمام لينين بأدق تفاصيل الحزب:

كان لينين فريداً بين القادة الثوريين في اعتنائه الدقيق بأدق التفاصيل الإدارية والتنفيذية. ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح إذا ما وضعنا لينين في مقارنة بسيطة مع الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين مثلاً:

فقد كان كل ثوري من النخبة المثقفة يتصرف في الواقع العملي تحت تأثير عاداته وميوله الشخصية، أما الالتزام بالضوابط والثوابت أو الأوامر، فقد كان نادراً إلا في حالات استثنائية. وهذه العشوائية في الأداء كانت أحياناً تتم بشكل متعمّد. كثير من القادة لم يرغبوا في التعامل مع الأمور المالية أو التنظيمية أو الروتين الداخلي للحزب، بحجة أن تلك الأمور تصرفهم عن الكتابة والعمل النظري. الأمر نفسه ينطبق على الثورية البولندية/ الألمانية روزا لكسمبرج نفسها.

وبالمثل كان ليون تروتسكي أيضاً، لكن لأسباب مختلفة؛ ففي الفترة بين 1904 إلى 1917، أي الفترة منذ أن قطع بشكل تام مع المناشفة إلى انضمامه للبلاشفة، لم ينضم تروتسكي ولم يشارك في قيادة أي حزب قوي(6).

أما في الحزب البلشفي، فقد كان الأمر مختلفاً تماماً؛ حيث كان المركز الإداري للحزب بدائياً جداً وصغير الحجم، وقد ضمت السكرتارية العامة للحزب ثلاثة أعضاء فقط. كان الهيكل الحزبي شديد الدقة، ووضع الحزب كحزب غير شرعي، والظروف السرية التي عمل خلالها، بالإضافة إلى التركيب البروليتاري له، ساعدت كل تلك العوامل على تقليص فرصة نمو تكتلات برجوازية صغيرة داخل الحزب. كان كل عضو يشارك في تحديد الخط السياسي العام للحزب، ويعرف جيداً الدور المنوط به تنفيذه، ولم يكن في مثل هذا الحزب مجال للثرثرة والسفسطة التي لا تجدي نفعاً.

مفهوم لينين عن المركزية

لا يمكن للحزب الثوري أن يشتبك بشكل مؤثر في نضالات الطبقة العاملة إلا إذا كان حزباً مركزياً يعمل كجسم واحد وبشكل منضبط. ولا يمكن لهذا الحزب أيضاً أن يتفاعل إيجابياً مع احتياجات العمال المتقدمين أثناء النضال إلا إذا كان حزباً ديمقراطياً.

وبين المركزية والديمقراطية، كما بين الحزب الثوري والطبقة العاملة، علاقة جدلية. إذا طغت المركزية عن الديمقراطية فسوف يغرق الحزب في الاستبداد. وإذا حدث العكس، فسوف يعاني الحزب حالة من العجز والشلل. كان لينين يعمد دائماً إلى تقوية الأجهزة المركزية في الحزب البلشفي، لكن دون إغفال أن المبادرة النضالية تقع بين أيدي الجماهير أنفسهم، ومهمة الحزب ليست في خنق تلك المبادرة لكن في تنميتها وتطويرها.

لقد أدرك لينين أن المنظمة الثورية يجب أن تستجيب بشكل مباشر لكل المتسجدات والمتغيرات السياسية، وعبقريته في الممارسة الثورية، في الاستراتيجية والتاكتيك، مثلت عاملاً أساسياً في هيمنته داخل الحزب البلشفي.

كان الفهم العلمي لدى لينين للحركة العامة التي يسير وفقها التاريخ، محصناً بتطلعات حركة الطبقة العاملة، وقد أعطى ذلك ثقة هائلة للينين في صحة ما كان يطرحه. ووفقاً لذلك، كانت القواعد والضوابط التنظيمية والعمل الروتيني داخل الحزب ذي أهمية ثانوية بالنسبة للممارسة السياسية العملية. وفي المسار الضيق بين الدوجامئية والإمبريقية، طور لينين النظرية الماركسية بشكل عملي، بما في ذلك نظرية الحزب الثوري، لأعلى درجة من الصحة تم التوصل إليها.

هوامش المُترجم:

(1) يذكر مارسيل ليبمان في كتابه “اللينينية في ظل لينين”، الجزء الأول “الاستيلاء على السلطة”، أن عضوية الحزب البلشفي في عام 1905 كانت تُقدر بـ 8,400 عضو، منهم 5,200 عامل و400 فلاح، و2,300 من المثقفين، و500 آخرين. والأرقام نفسها تكررت في كتاب “The Roots of Russian Communism”: David Lane

(2) الإيسكرا –وتعني باللغة العربية الشرارة- هي أول جريدة ماركسية غير شرعية في روسيا. تم تأسيس الجريدة في الخارج بجهد أساسي من لينين في عام 1900. وبعد المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، استولى الجناح المنشفي على الجريدة وشكلوا هيئة تحريرها.

(3) أنشأ لينين المكتب الجنوبي، كمنظمة في الحزب البلشفي، من غير علم اللجنة المركزية. وكان يهدف أن يكون المكتب الجنوبي هو لسان حاله في الدعوة إلى مؤتمر حزبي جديد.

(4) كان مصنع بوتيلوف للنسيج، والذي يقع في حي فيبورج في العاصمة بطرسبورج، يضم 40 ألف عامل، وكان هو المصنع الأضخم في العالم كله في ذلك الوقت. وبالرغم من انعدام صلات الحزب البلشفي بعمال المصنع في 1905، إلا أن المصنع قد أصبح، منذ يوليو 1917، “قلعة للبلاشفة”، على حد وصف ليون تروتسكي في الجزء الأول من كلاسيكيته “تاريخ الثورة الروسية”.

(5) في الحقيقة، كان سوفييت بطرسبورج ككل يضم 40 مندوباً بلشفياً، في فبراير 1917، من أصل 1600 مندوب في السوفييت (أي 2.5% فقط من إجمالي عدد المندوبين). وكان إجمالي عدد المندوبين الذين عارضوا، في نفس الشهر، إقامة الحكومة البرجوازية 15 عضو فقط.

(6) يجب أن نشير هنا أن ليون تروتسكي كان ينتمي طيلة تلك الفترة (1904 إلى 1917) إلى تنظيم صغير يضم حوالي 3 آلاف عامل، عُرف باسم “ميجرا يونتسي”، والكلمة تعني “ما بين المناطق” أو “الإقليمية”، إلى أن انضم تروتسكي هو وكل أعضاء منظمته إلى الحزب البلشفي في أواخر أغسطس 1917، وأصبح منذ ذلك الحين عضو في اللجنة المركزية البلشفية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.