الكاكائيون… أقلية دينية تطالب باعتراف الدستور العراقي بها
يمكن التعرّف على الرجل الكاكائي بسهولة، فرجال هذه الأقلية الدينية يتميّزون بشواربهم الكثة، إذ يطلقونها وبعضهم لا يحلقها أبداً، كإرث ثقافي، بالإضافة إلى ارتدائهم زياً مميزاً مكوّناً من رداء يشبه العباءة لكنه أقصر بقليل ويُعرف بـ”الصاية”، وربطة رأس.
أما المرأة الكاكائية، فمن الصعب التعرّف عليها من مظهرها. لا تتميّز النساء الكاكائيات بزيّ معيّن، بل يندمجن مع ثقافة المنطقة التي يعيشون فيها، ولا تفرض عليهن ديانتهنّ أي رداء محدد أو غطاءً للرأس.
تتفاوت الأرقام المعلنة عن عدد الكاكائيين في العراق. وفق إحصائية أعدّتها منظمة ميثرا للثقافة اليارسانية، يبلغ عددهم أكثر من 120 ألف نسمة، حسبما كشف رئيس المنظمة رجب عاصي لرصيف22. أما أستاذة اللغة الإنكليزية والمشرفة التربوية في إحدى مدارس السليمانية والناشطة في الدفاع عن حقوق الكاكائيين ليلى طاهر كاكائي فتردد لرصيف22 رقماً آخر متداولاً في أوساط الكاكائيين وهو 200 ألف شخص.
يتوزّع أتباع هذه الديانة على قری سهل نينوی ومدينة الموصل في محافظة نينوی وقضاء خبات ومركز مدينة أربيل وقری تابعة لقضاء داقوق ومركز مدينة كركوك ومدينة السليمانية وقضاء كلار وقضاء كفري ومدينة حلبجة وقری تابعة لمدينة حلبجة وقضاء طوز خورماتو في محافظة صلاح الدين وقری تابعة لقضاء خانقين ومركز قضاء خانقين وقضاء مقدادية (شهربان) وناحية مندلي وناحية قزانية في محافظة ديالی، فيما يسكن عدد قليل منهم في العاصمة بغداد.
كاكائيون أم يارسانيون؟
حسب رجب عاصي، يُطلَق مصطلح الكاكائية على أتباع الديانة الموجودين في العراق فقط، أما التسمية الرسمية للديانة فهي “اليارسانية”، وهي كلمة مركّبة من كلمتي “يار” التي تعني المحبوب أو المتصوف أو الصديق، و”سان” ويُقصَد بها السلطان أو الشاه. وبحسب اللهجة الكردية، المراد من الكلمة هو “أتباع الله الحق”، أما كلمة الكاكائية فتعني الأخوية، نسبةً إلى كلمة “كاكه ية” التي تعني “الأخ الأكبر”.
عن أصل هذه الديانة، يقول المؤرخ الكردي الدكتور مهدي كاكائي لرصيف22، إنها “إحدى فروع الديانة اليزدانية”، ويشرح: “أصل الكاكائية هي اليزدانية التي تُعَدّ من أقدم الديانات، وترتكز على: النظافة والصدق والابتعاد عن الأنانية وحب الذات، والانتصار على الرغبات الدنيوية، وعدم إيذاء أو الإضرار بالنار والهواء والماء والتربة والطبيعة والإنسان والحيوانات”، ويضيف: “أيضاً لا وجود للموت، إذ يؤمن معتنقوها بتناسخ الأرواح، أي أنه عند موت الإنسان تنتقل روحه إلى جسد إنسان أو حيوان آخر. كما أن هذا الدين ليس له نبي أو رسول مُرسَل من الخالق”.
ويتحدث أيضاً عن عقيدة أساسية في الكاكائية وهي التكتم وعدم الإفصاح عن الأسرار، خاصة أن الكاكائية دين غير تبشيري، أي أن لا دعوه له ولا يمكن الانضمام إليه.
ويشير إلى أن قضية عدم كشف الكاكائيين لأسرارهم الدينية وراءها إرث يعود إلى العهد العثماني حين كان الدين الرسمي للحُكم إسلامياً سُنّياً، ولم يكن يُسمح للكاكائيين بممارسة طقوسهم الدينية والاحتفاء بمناسباتهم وأعيادهم، لذلك اضطروا لممارسة طقوسهم الدينية بصورة سرّية والادّعاء الكاذب بأنهم مسلمون، حفاظاً على حياتهم ودينهم.
يُطلَق مصطلح الكاكائية على أتباع الديانة الموجودين في العراق فقط، أما التسمية الرسمية للديانة فهي “اليارسانية”، وهي كلمة مركّبة من كلمتي “يار” التي تعني المحبوب أو المتصوف أو الصديق، و”سان” ويُقصَد بها السلطان أو الشاه
أما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الدولة العراقية، خفّت الضغوط بعض الشيء عن معتنقي الديانة اليارسانية، إلا أنهم عاشوا في مجتمع يهيمن فيه المسلمون وتُشرَّع قوانينه استناداً إلى الشريعة الإسلامية، فاستمروا في التكتم على دينهم وطقوسهم الدينية والادّعاء بأنهم مسلمون للتخلص من القتل والإهانة والمضايقات، حتى أنهم يُسجَّلون في السجلات والوثائق الرسمية على أنهم مسلمون، يتابع كاكائي.
ويذكر رجب عاصي أن للكاكائيين كتاب مقدس يسمى “سه ر ئه نجام (سنچنار)”، وهو كتاب باللغة الكردية، معنى اسمه بالعربية “النتيجة العظمى”.
ويضيف أن الكاكائية ظهرت كديانة مستقلة على يد مؤسس ومجدد هذه الطريقة، وهو فخر العاشقين سلطان إسحق البرزنجي المولود عام 1273م، وهو الدور رقم أربعة في التجسدات.
ويعتقد أبناء هذه الديانة أن الله يتجلّى بنفسه في سلسلة من المظاهر تُسمَى أدواراً يدير عن طريقها شؤون البلاد وتكتمل بالرقم سبعة.
وعن الأدوار/ التجسدات الثلاثة الأولى، يروي المؤرخ الكردي د. مهدي كاكائي أن أولها كان ظهور الإله باسم (يا) وإيجاده دين يارسان، وهذا كان قبل خلق الكون والبشر، ثم كان دور عمرو بن لهب، الملقب بـ”بهلول” (767 – 836م)، وهو أول مّن أسس الـ”جم” أو الجمع، وفيه يجتمع المریدون لقراءة الأشعار الدینیة والعزف علی الطنبور (نوع من البزق) وسُمّي مکان اجتماعهم بـ”جمخانة”، أي مکان التجمع الذي تقام فیه الطقوس الدینیة ويُذکر فیه “يزدان” (الله)، وبعده أتى دور شاخوشين أو الشاه خوشين (1016 – 1076م) الذي انتشرت في عهده اليارسانية في مناطق أكراد العراق، واعتمد على سبعة مرافقين في نشر تعاليمه كان من بينهم الشاعر المشهور بين الأكراد بابا طاهر الهمداني المعروف بـ”العريان” (ت. 1058م).
ويتحدث رجب عاصي عن تجليات أخرى هي تجليات علي بن أبي طالب والمسيح وعن انتظار تجلٍّ سابع هو المهدي المنتظر الذي تتم معه الأدوار السبعة. لكن بحسب مهدي كاكائي، هذه غير صحيحة واختُلقت في العهد الصفوي-الشيعي خوفاً من المحيط وإنقاذاً لليارسانيين، أما الحقيقيون فهم بابا سرهنك وبابا جليل وبابا ناوس.
ما بين محرّم ومُباح
تتحدث ليلى كاكائي عن أن اليارسانية أو الكاكائية تحرّم شرب الخمر وتعدُّد الزوجات، وترفض الطلاق بشكل قطعي إلا في حالات خاصة كالمرض المزمن أو الزنى، كما أن الزواج يخضع لشروط القانون المدني في العراق، وهم ملتزمون به، ولا يختلف كثيراً في شروطه وإجراءاته وطقوسه عن الزواج في الإسلام، كما وأنهم ملزمون بعدم احتقار أي دين أو التنديد بأية عقيدة.
“أصل الكاكائية هي اليزدانية التي تُعَدّ من أقدم الديانات، وترتكز على: النظافة والصدق والابتعاد عن الأنانية وحب الذات، والانتصار على الرغبات الدنيوية، وعدم إيذاء أو الإضرار بالنار والهواء والماء والتربة والطبيعة والإنسان والحيوانات”
ويحتفل الكاكائيون، حسب رجب عاصي، سنوياً بثلاثة أعياد: عيد خاوندكار، ويأتي في الشتاء ويُعرف بـ”عيد الخليقة”؛ وعيد الصيام، ويأتي أيضاً في الشتاء (يتبدّل تاريخه لأنه يعتمد على التقويم القمري)، بعد صيام مدّته ثلاثة أيام، مثل صيام المسلمين؛ وعيد نوروز في 21 آذار/ مارس.
ويقول عاصي إن “الدين اليارساني مغلَق علی معتنقيه، أي لا يمكن لغير المولود من عائلة يارسانية أن يكون من الكاكائية، كون هذه الديانة لا تقوم بالدعوة والتبشير، بل تحترم جميع الأديان بنظرة متساوية وتعتبر الجهور بالمراسم والطقوس نوعاً من الدعوة والتبشير ولذلك لا تقبل بتصوير مراسمها وطقوسها وتمنع رجال دينها من التصريح للصحافة أو إعطاء أية معلومات عنها”.
وللكاكائيين مزارات دينية تصل إلى 18 مزاراً مقدساً في العراق، أبرزها مرقد “سلطان إسحق”، مؤسس الطائفة، ويقع في جبل هاورمان شمال شرق العراق، كما ويوجد بجانب بوابة سور بغداد مرقد “سيد إبراهيم”، ومزار “دكان داود” الذي يقع في كهف جبل عالٍ بالقرب من مدينة سربيل على الحدود الغربية مع إيران، وداود هو أحد أجلِّ رجالهم وهو خليفة المُؤسِّس سلطان إسحق، كما يقدّسون مرقدي الحاج السيد أحمد (ابن السيد إبراهيم) و”يراني سلطان” في مدينة النجف. وليس للكاكائية يوم معيّن لزيارة هذه المقامات.
المرأة الكاكائية
يقول عاصي إن للمراة مكانة دينية واجتماعية مهمة في مجتمع الكاكائية ولا يوجد تمييز في الحقوق والواجبات بين الجنسين كالميراث”. وإنْ كانوا يتبعون في أحوالهم الشخصية القانون الإسلامي، ما يعني أن للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا أنهم يحرصون في ممارستهم العملية على تحقيق المساواة.
لا يكشف الكاكائيون أسرارهم الدينية وهذا إرث يعود إلى العهد العثماني حين كان الدين الرسمي للحُكم إسلامياً سُنّياً، ولم يكن يُسمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية، لذلك اضطروا إلى ممارستها سرّاً والادّعاء بأنهم مسلمون، حفاظاً على حياتهم ودينهم
وتلفت ليلى طاهر كاكائي إلى أن للمرأة مكانة مميزة في هذه الديانة ويمكن أن تتقلد منصب “سيد”، وهو المنصب الديني للشخص الذي يقود الطقوس الدينية للكاكائية، وهي تستطيع الدخول إلى “الجمخانة” (مكان مخصص لإقامة الشعائر اليارسانية، يقصده المؤمنون كل فترة ويعقدون فيه اجتماعاً يُسمّى “الجام”)، كما أنها لا تفقد هويتها الدينية بزواجها من شخص غير كاكائي إلا إذا قررت هي التنازل عنها أو أُجبرت على ذلك بالقوة.
لا تمثيل سياسي ولا حقوق
حول أبرز مطالب أصحاب الديانة حالياً، يتحدث غازي كاكائي، عضو الاتحاد الوطني الكردستاني، لرصيف22، عن معاناتهم في السنوات السابقة إثر سيطرة تنظيم داعش على الكثير من قراهم الواقعة في كركوك والموصل بين عامي 2014 و2016، ما تسبب بمقتل نحو 300 كاكائي وأجبر الآلاف منهم على النزوح نحو كردستان بحثاً عن الأمان.
والآن، تعاني مناطقهم من قلة الخدمات وضعف الموجود منها بسبب موقعها في مناطق متنازع عليها بين بغداد وإقليم كردستان. وبيّن غازي كاكائي أنه على الرغم من وجود كاكائيين في كركوك وديالى ونينوى إلا أن الكاكائيين لا يمتلكون أي تمثيل داخل البرلمان العراقي بسبب عدم اعتراف الدستور العراقي بهم: “لا يوجد لديهم داخل المؤسسات الاتحادية أي تمثيل رسمي”.
وقال كاكائي أنه في عام 2015، شكلت حكومة إقليم كردستان وحدة عسكرية خاصة بالكاكائيين من أجل تأمين الحماية لقراهم من داعش إلا أن هذه الوحدة انحلّت سريعاً بسبب النزاعات الحزبية بين القوى الكردية.
وعلى اعتبار أن الدستور العراقي يضمن الحرية الدينية، يطالب أتباع الكاكائية باعتراف الدستور بديانتهم بشكل رسمي خاصة وأنه يعترف بالإسلام والمسيحية والإيزيدية والصابئية، آملين أن تسهم جهود الناشطين “بالضغط على المشرعين من أجل إدراج الكاكائية كمكوّن ديني حاله حال باقي الديانات”، حسب ليلى طاهر كاكائي.
وتقول الناشطة الكاكائية إن إقليم كردستان أصدر قبل عدة سنوات قانوناً يعترف بالكاكائية كديانة إلا أن الكاكائيين لا يمتلكون مقعداً في برلمان الإقليم، ولديهم فقط مقعد في مجلس محافظة حلبجة، كما أن ممثل الديانة في وزارة الأوقاف لا يمتلك أيّة صلاحيات، و”عيد الصيام لم يُعترف به كعطلة رسمية في الإقليم كأعياد الديانات الأخرى”، كما “أننا نفتقد إلى أبسط الحقوق إذ يضطر أطفالنا إلى حضور درس الدين وتعلم الصلاة على الطريقة الإسلامية في المدارس لأننا مصنّفون كمسلمين”.
وحول تأثير عدم اعتراف الدستور بهم والمشكلات القانونية التي يواجهونها، يشير رئيس منظمة ميثرا إلى أن اعتراف الدستور بالديانة سيغيّر الكثير، إذ “سيتم تعريفنا بدياناتنا في مستمسكاتنا الرسمية وأيضاً سيمكّننا ذلك من تحصيل التمثيل السياسي في البرلمان العراقي، وهذا يعني أننا سنبدأ بالحصول على حقوقنا”.
المعاناة من الوصم
تتحدث الناشطة ليلى عن تعرّض الكاكائيين لخطاب كراهية أو حملات تنمّر إذا كشفوا ديانتهم للناس، خاصة وأنهم أقلية وسط أكثرية مسلمة، وتروي لرصيف22 أنها تعرضت قبل فترة، مع عدد من أبناء ديانتها، لخطاب كراهية على مواقع التواصل الاجتماعي حين هاجم عدد من المدونين منشورات خاصة بعيد “قول تاس” (عيد الصيام)، وقالوا عنهم “كفرة”.
واعتبرت أن عدم فهم أبناء بقية الديانات لحقيقة الكاكائية هو السبب الرئيسي في هذه الهجمات، مشيرة إلى أنها اضطرت مؤخراً إلى الابتعاد عن مواقع التواصل لعدة أيام بسبب المنشورات المحرضة التي جاءت كردود فعل على التهاني بهذا العيد.
ويؤدي التمييز الذي يتعرّض له الكاكائيون إلى منعهم من مزاولة أعمال معيّنة، فالمجتمع المسلم يرفض عقد الزواج لدى قاضٍ كاكائي ويعدّه باطلاً، وبالمثل لا يشتري المسلم من محل لبيع اللحوم إذا كان صاحبه كاكائياً لأنه لا يثق بطريقة الذبح.
وعن النقطة الأخيرة تروي قصة ما يحدث الآن مع جزار كاكائي في حلبجة، كسر قاعدة أن لا كاكائياً يمكن أن يمتلك هكذا محل، وهو الحدث الأول من نوعه في حلبجة منذ 40 عاماً، ويقصد محله أبناء الديانة الكاكائية من محافظتي أربيل والسليمانية فقط في حين ينبذه أهالي مدينته السنّة. وتقول إن صاحب الجزارة يشتري لحومه من مذبحة حلبجة الرسمية والتي يشتري منها كل أصحاب الجزارات لحومهم، إلا أن هذا ليس بكافٍ لدفع أهل المدينة للشراء من محله.
التعليقات مغلقة.