الدولة الشمولية (الكليانيّة) في دول العالم الثالث / د. عدنان عويّد




د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 25/2/2021 م …

     في عام 1766خاطب الملك الفرنسي “لويس الخامس عشر” البرلمان الفرنسي قائلاً: (في شخصي فقط تكمن السلطة العليا, ومن شخصي بالذات تستمد مجالسي وجودها وسلطتها, وإليّ فقط تعود السلطة التشريعيّة بلا شريك أو رقيب, وعني ينبثق النظام برمته.

     بهذا الإعلان استطاع (لويس الخامس عشر) ليس توضيح مفهوم الدولة الشموليّة/الكليانيّة فحسب, بل والعمل على إعادة تأسيسها وبلورتها قانونيّا أيضاً. وعلى الرغم من كل محاولات الطبقة الرأسمالية الهادفة إلى القضاء على آليّة عمل هذه الدولة بعد وصولها إلى السلطة في أوربا, إلا أن مصالحها بعد سيطرتها على السلطة دفعتها أن تعمل جاهدة على إعادة إنتاج هذه الدولة الشموليّة في منظومة الدول الأوربية في القرن التاسع عشر, على يد كل من نابليون بونابرت, وبسمارك وغاري باردي, ثم في القرن العشرين على يد هتلر وموسوليني وفرانكو وغيرهم.

     أما بالنسبة لدول العالم الثالث أو مجتمعاتها ومنها عالمنا العربي من حيث تكوينها البنيوي العام, فقد ظلت هي الساحة الأكثر تقبلاً إلى اليوم للأنظمة الشموليّة, كونها هي الدول أو المجتمعات الأكثر تخلفاً في بناها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. فهي الدول أو المجتمعات التي لم تتطور فيها بعد قوى وعلاقات الإنتاج, أو ما يسمى (البنيّة التحتيّة), التي لازال يتحكم فيها الاقتصاد البضاعي الصغير, أو الاقتصاد الريعي, وما يقوم عليهما من بناء اجتماعي وسياسي وثقافي غير قادر على تجاوز هذه البنية التحتيّة لهذه الدول المتخلفة. أو بتعبير آخر, لم يتشكل فيها حراك اقتصادي واجتماعي عميق قادر على تشكيل قوى طبقيّة واعية لذاتها, وقادرة على قيادة الدولة والمجتمع بشكل عقلاني, أي امتلاك هذه الطبقة أو الكتلة الاجتماعيّة القدرة على خدمة نفسها والمجتمع معاً, هذا وعلينا أن نؤكد هنا على الدور السلبي الذي مارسته وتمارسه القوى السياسية الحاكمة في هذه الدول لسنين طويلة, وهي قوى لم تستطع مع أحزابها الخروج من منظومتها الاجتماعيّة والدينيّة المغلقة والمأزومة معاً بتخلفها, ممثلة بمنظومة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, وبالتالي, فالسياسة عندها لم تمارس بعد كفعل سياسي عقلاني تحكمه آلية عمل لمؤسسات دستورية يتم عبرها اختيار قادة هذه الدول أو حكامها من قبل الشعب نفسه بالرغم من وجود هذه المؤسسات الدستوريّة في بعض هذه الدول, إلا أنها لم ترتق إلى ممارسة دورها وفقاً لروح المواطنة الحقيقيّة ودولة القانون, أو بتعبير آخر: لا يوجد لدى القوى الحاكمة هنا رضى سياسي أو قناعة سياسيّة على تفعيل دور المؤسسات التشريعيّة بشكل حقيقي يقوم على تداول السلطة, والإيمان بدور دولة المؤسسات والمواطنة والتعدديّة السياسيّة والديمقراطيّة واحترام الرأي والرأي الآخر وغير ذلك من آلية عمل الدولة العلمانيّة وقوانينها التي تهدف إلى ضبط آليّة عمل هذه الدولة وعلاقتها بالمواطنين, بقدر ما تمارس السياسة هنا من قبل القوى الحاكمة فعلاً “سياسويّاً” براغماتيّاً إلى أعلى درجات البراغماتيّة بصيغتها النفعيّة والأنانيّة الضيقة وعلى أرضية مرجعيات تقليديّة للقوى الحاكمة. فهذا الفعل السياسوي الذي يعتبر نتاجاً للوجود الاجتماعي المتخلف لم يزل يساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الدولة الكليانيّة/ الشموليّة, بأدواتها ممثلة هنا بعشيرة أو قبيلة أو طائفة أو حزب وحيد, و”بطل” ملهم اعتقد هو أو من يؤمن بدوره أنه هو وحده في دولته هذه من يستطيع رفع رعاياه من مأزق تخلفهم التاريخي, إلى رحاب المجتمعات والدول الحضارية المتقدمة, دون أن يدرك هذا (البطل) بأن ما يقوم به في حالة تفرده بالسلطة, يكون هو ذاته أحد الأسباب التي تعمل على تكريس هذا التخلف وتعميقه وتعميمّه, مع تقديرنا لكل النوايا الحسنة والحس الوطني وحتى القومي الذي يتمتع به بعض هؤلاء القادة (الأبطال) بما يمثلونه من دور للفرد في التاريخ تجاه شعوبهم. هذا ويعتبر عالمنا العربي أحد الساحات التي لم يزل يمارس فيها البطل بشقيه الإيجابي على المستوى السياسي/ الدولتي, أو على المستوى الاجتماعي بشقه السلبي ممثلاً بشيخ العشيرة والقبيلة والطريقة والطائفة والمذهب, دوره, في خلق وتكريس الدولة الكليانيّة/ الشموليّة, كون هذه الدولة لم تتوفر فيها بعد كما أشرنا أعلاه الشروط الموضوعيّة والذاتيّة لتجاوز محنة تخلفها, ولم تستطع طموحات أحزابها الحاكمة التي تدعي العلمانية, أو أسرها الحاكمة بأبطالها من ملوك وقادة ورؤساء جمهوريات, أن يخلقوا بعد تلك التحولات الكبيرة والعميقة القادرة على تحقيق دولة القانون والمؤسسات, لأنها طموحات محاصرة بشهوتهم هم ذاتهم للسلطة من جهة, ولظروف التخلف البنيوي للدولة والمجتمع معاً من جهة ثانية. هذا إضافة إلى جملة المعوقات الخارجيّة ممثلة سابقاً وحالياً في الغرب الاستعماري وبحثه الدائم عن منافعه ومصالحه في هذه الدول, والتي غالباً ما يجد تحقيقها سهلاً لتعاون السلطات الحاكمة في الكثير من هذه الدول معه, إن لم يشاركوه في اقتسام حصة الفطير فيها – وهذا هو الصحيح -, ثم بسبب التحولات الكبيرة التي انتابت العالم بأسره تحت مظلّة النظام العالمي الجديد وثورته العلميّة والتكنولوجيّة والثقافيّة, وخاصة بعد سقوط المنظومة الاشتراكيّة بعقليتها الكاريزميّة/ الستالينية, ثم ظهور الولايات المتحدة الأميركيّة كدولة قويّة بمشروعها الرأسمالي الاحتكاري الذي راح يفرض نفسه كقوة قادرة على ليّ ذراع ليس دول العالم الثالث فحسب, بل وحتى دول المعسكر الغربي وإخضاعها لتنفيذ السياسة الأمريكيّة الخادمة لهذا المشروع, وقبوله كنظام عالمي جديد, وهي الدول التي كانت تعمل وتتناغم معها في فترة الحرب الباردة لإسقاط المنظومة الاشتراكيّة.

     إن ما حققته الثورة المعلوماتيّة اليوم من تطور على مستوى الاتصالات ونقلٍ للمعلومات قد حوّل العالم إلى قرية صغيرة, مكشوفة أمام الصغير والكبير, وقد كشف تلك الهوة الواسعة جداً ما بين تطور الدول العظمى, وتخلف دول العالم الثالث بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص, بحيث لم يعد بإمكان قادة الدول الشموليّة إخفاء أسرار وخفايا دولهم, وخاصة ما تعانيه هذه الدول من فساد واحتكار للسلطة أمام شعوبهم, أو سيطرتهم على شعوبهم تحت غطاء أيديولوجيات كبيرة, اشتراكية, أو قومية, أو دينية.

كاتب وباحث من سورية.

[email protected]


قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.