اللحن المتفجر ( قصة قصيرة ) / أسعد العزوني
/ أسعد العزوني ( الأردن ) – الخميس 4/3/2021 م …
اعتاد الناس سماع شبابة الراعي مع طلعة كل يوم من أيام الشتاء التي تستطيع الشمس أن تتسلل فيها من خلف الغيوم لتنشر ضوءها على الأرض التي ارتوت من الماء الذي هطل في الليلة السابقة. حيث كان هذا الضوء يمنح الدفء للحيوانات التي قضت الليل ترتجف من البرد في الأمكنة المخصصة لها وتعطي الأمل للمزارعين والرعاة في ذلك اليوم حيث يستطيع هؤلاء المزارعون من ممارسة أعمالهم في الأرض وحبهم لها ودفن حبوبهم الذهبية الصغيرة على أمل أن يحصدوها في الصيف كل حبة بعشر أمثالها، بل وأكثر.
والرعاة كذلك يستطيعون الخروج بأغنامهم وكلهم أمل بأن تشبع تلك الأغنام مما نبت في الأرض من حشائش خضراء تقطر ماء منزلاً لتستطيع عند المساء أن تعطي أصحابها حليباً أبيض نقياً.
كانت شبابة ذلك الراعي تطرب الحراثين والأغنام فتزيد من إمكانية العمل لدى هؤلاء الحراثين وقضم الحشائش لدى الاغنام حيث يبعث فيها حساً داخلياً يجعلها لا تتوانى في قضم الأعشاب ، وكان الراعي يرسل أنغامه عبر الهواء البارد إلى أهالي القرية ليطربهم بها ويخفف عنهم أحزانهم حيث العتابا والميجانا والمواويل التي يحفظها أهالي القرية عادة، في الوقت الذي لم يكن الناس يعلمون أن هذه الأنغام ستتبدل يوماً بأزيز الطائرات وصفارات الجنود الذين سيجوبون المنطقة بحثاً عن شيء ما كعادتهم!!
استمر الحال كذلك والراعي يمارس هوايته كل يوم لكنه كان يتغيب عن القرية فترات معينة تنقطع فيها شبابته عن الأنين وبث الأمل والألم في الناس أجمعين، ثم يظهر بعدها فجأة مع أنغام شبابته وثغاء أغنامه وكأنه يعرف مسبقاً مدى شوق الأرض والحراثين والناس له ولأنغامه.
وفي ذات يوم وبينما انقطعت شبابة الراعي عن النداء والغناء سمعت بدلاً منها أصوات رشاشات وقنابل يدوية انفجرت تحت آلية للعدو كانت تجوب المنطقة كعادتها بحثاً عن (مخرب) حيث أن قوات العدو كانت قد مارست من الإرهاب ما زاد من حدة المألوف عادة في تلك الظروف .
رجـع الراعي بعد ذلك الحادث إلى شبابته وكأن شيئاً لـم يكـن.
أصيب العدو بعدها بنوبة صرع انتشر على أثرها لتفتيش كافة المناطق وأخذ يعتقل ويسب ويلعن ويهدد ويتوعد، لم تظهر على الراعي اية بادرة خوف من الطائرات التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض أو الجنود الذين كانوا يمرون به ووجوههم تقطر حقداً وعداء، على من حطم مجنزرتهم واستمر يرسل أنغامه الحلوة المميزة ولطالما أمره قائد المجموعة التي كانت تمر به ان يتوقف عن هذا العمل (السخيف) لأنه يزعج الجنود ويعطل مهمتهم!!
استحالت المنطقة إلى معسكر متجول وكانت في الليل تبدو وكأنها أحد المسارح الرومانية القديمة حيث الأضواء التي كانت ترسلها طائرات الهيلوكبتر إلى الأرض كي تستكشفها.
كان الراعي قد ألم بجميع المسالك التي يسلكها جنود الاحتلال في حالة تجوالهـم في المنطقة وكان قد عمل على تحديدها بنفسه بعد أن سد الطرق الواسعة بالصخور والأشجار الشائكة التي لا يستطيع أحد اجتيازها، ويكون بذلك قد أجبرهم على الوقوع في شراكه وقد حدث ان مرت به فرقة من الجنود وسألوه عن مكان معين بابتسامة عريضة وحركة خفيفة اشار بيده إلى الجهة الشرقية وحدد لهم بنفسه الطريق التي سيسلكونها كي يصلوا إلى المنطقة المحددة على الخارطة حيث يأملون أن يجدوا (مخرباً).
توجهت تلك الفرقة بكامل أسلحتها والبرد يلسع وجوه أفرادها والريح كأنه صفارة إنذار لما سيحدث بعد قليل عندما يجتازون (ممـر الماراثون) حيث سيكون هو القاضي عليهم في لمح البصر.
واصل الراعي بشبابته إرسال النغم المميز وكأنه إشارة إلى الأرض كي تقوم بدورها بتسليم الأمانة التي كان قد وضعها فيها لأن الضيوف قد وصلوا وعليها إكرامهم قدر ما يستحقون من جزيل العطاء ، استغرب أهل القريـة من ذلك اللحن الذي لا يسمعونه إلا بعد أن يتغيب الراعي عنهم وتحدث عمليات فدائية ضد العدو الصهيوني أي أنه لحن المناسبات حقاً لقد كان لحناً مميزاً حيث لم يفهمه أحد من أهل القرية ولا الرعاة أنفسهم. فقد كان يدعو للألم وكل من يسمعه كانت تساوره الظنون حتى الأطفال الذين كانوا يحاولون حفظها لكونها تشكـل جزء أساسياً من التراث الشعبي ومن من الفلاحين لا يعرف الأوف والميجانا والعتابا وبقية المواويل الشعبية التي كان الحراثون يحثون دوابهم بواسطتها والرعاة يجمعون أغنامهم على أنغامها والحصادون والحصادات يردون على بعضهم لتتحرك أيديهم وبها المناجل كأنها آلات كهربائية!
انتهى ذلك اللحن المميز لتبدأ حيرة أهل القرية على ماهية ذلك اللحن الغريب ومن أي الفنون اقتبسه ذلك الراعي.
وبدأ المسنون يقضون أوقات الضحى المشمسة على أطراف البيـادر بالاستفسار من بعضهم البعض عن سر ذلك اللحن المميز ويتعجبون لكونه لا يرسل إلا في أوقات خاصة وأنهم لم يسمعوه طيلة حياتهم التي قضوها في الدبكة والغناء والحداء، وما أن انتهى الراعي من إرسال أنغامه الخاصة حتى أرسلت الأرض سلسلة أصوات عديدة تنبئ عن وقوع حادثة معينة.
واصل أهل القرية وفكروا أن جنود العدو قد اغتالوا الراعي! ما العمل هل سيذهبون للاطمئنان عليه وهم لا يعرفون عنه سوى أنه قدم إليهم غريباً ابتاع عدة أغنام يسرح معها وينام معها في المغارة الواقعة على سفح الجبل؟ خاف الناس أول الأمر، لكون الصهاينة لا يرحمون ولا يقدرون، واتفق أهل القرية أن يتركوا الأمر لله (وأن للراعي رب يحميه) ولزموا بيوتهم ليتكوروا حول مواقد النار المشتعلة ويشربوا الشاي المغلي على النار الذي أكسبته طعماً مميزاً.
وبينما هم كذلك إذا بالراعي يرسل من شبابته الألحان المعروفة وكأن يخبرهم أنه ما زال حياً يرزق الأمر الذي بعث في نفوسهم الفرحة والبهجة لبقائه حياً مع أغنامه.
وكالعادة قدمـت طائرات العدو وجنوده وتوجهت إلى القرية وجمعت أهلها في الساحة الواسعة تحت المطر وبدأت بعملية تفتيش واسعة في أوساط القرية وكانت أيادي الجنود تعبث في خزائن وصناديق النساء الخشبية ولم يبق مكان في القرية إلا وطالته أيدي وأرجل جنود العدو ولم يعثروا على أحد مشبوه.
فكر القائد كثيراً لفشلـه في العثور على أحد خاصة أنه قد حدثت في نفس المنطقة عمليتان وأنه سوف لن يخرج هذه المرة صفر اليدين، وأخذ يتجول بين الناس العزل تحت رحمة السماء الممطرة واختار عشرين شاباً وأمر الجنود بضربهم ضرباً مبرحاً وتقييدهم بأيديهم وارجلهم والتوجه بهم نحو شاحنة عسكرية بحجة أنهم ينتمون للمقاومة.
كان كل ذلك يجري والراعي يرسل لحنة المميز الذي أصبح ينبئ عن وقوع حادثة معينة حيث أنه قد فرغ من (تلغيم) الطريق التي سوف تمر منها قوات الاحتلال بعد أن يعودوا من القرية المجاورة أثر انتهاء ممارساتهم الإرهابية فيها.
وما هي إلا دقائق حتى تحركت الشاحنات والمجنزرات العسكرية فازداد اللحن المميز معلناً أن ما سوف يحدث سيكون دماراً لهؤلاء الجنود (وأن البضاعة قد وصلت). وابتعد الراعي عن الطريق بأغنامه العشرة واستمر يعزف على شبابته لحن الدمار للعدو وما هي إلا لحظات حتى سمع صوت بدا وكأنه انفجار كوني ضخم وتناثرت إثره أشلاء الجنود وسط صيحات وصراخ من تبقى منهم يلفظ أنفاسه الأخيرة والنار تشتعل في مجنزراتهم والراعي مستمر في إرسال لحنه العظيم المتفجر.
من مجموعتي القصصية
“الأرض لنا”
التعليقات مغلقة.