الزفة الكذبة ( قصة قصيرة ) / أسعد العزوني

أسعد العزوني ( الأردن ) – الخميس 11/3/2021 م …




لا أدري ما الذي دفع عائلة “محاسن” إلى التفريط بابنتهم الوحيدة والجميلة وإجبارها على الزواج من كهل يكبرها بخمسين عاماً، بالرغم من بكائها المر، ودموعها المنهمرة دوماً على خديها مثل شلال.

كل ما فهمته من الحاجة “سلمى” أن سبب ذلك، يعود لـ “عمل” عمله  الكهل عند كاهن يقطن فوق الجبل القريب من القرية، لجعل عائلة “محاسن” توافق على هذا الزواج القهري، كما أنه منح أعمامها وأخوالها مبلغاً من المال، وأوهمهم بأنه سيسخر الجان لخدمتهم وحمايتهم.

كنت بعيداً عن القرية عند اتمام الزواج، وعند عودتي سمعت همساً من بعض ركاب الحافلة يدور حول المهر الذي دفعه الكهل، والهدايا التي قدمها، والزفة التي أقامها، إكراماً لـ “محاسن” التي لم يتزوجها على سنة الله ورسوله، بالحلال، بل اغتصبها اغتصاباً، جهاراً ونهاراً، وبموافقة أخوالها وأعمامها، كل ذلك، بسبب “عمل” الكاهن.

لم أعر ما سمعته من همس اي اهتمام في البداية، لأني لا أحب  التجسس على الناس، لكن تكرار اسم محاسن، جعلني أتقمص مهنة المخبر، ولذلك، وجهت حاسة السمع عندي إلى مصدر الهمس، وزيادة في الحرص على عدم إضاعة ولو همسة واحدة، انتقلت إلى المقعد الفارغ الملاصق للهامسين، وتظاهرت بالنوم، لإبعاد تهمة أو شبهة التجسس عني، ونجحت الخطة وسمعت القصة من ألفها إلى يائها.

انتابني دوار، وشعرت أني بحاجة للتقيؤ، خاصة وأني أعرف أن “محاسن” تحب شاباً يدعى “زيداً” وهو زينة شباب المنطقة وسامة وعقلاً وصحة وأدباً، غير أنه يعاني من ضيق ذات اليد.

توقفت الحياة في مخيلتي، وسيطر على تفكيري أمر واحد هو كيف ستعيش “محاسن” مع رجل غير زيد، التي كانت تتفاخر به أمام صديقاتها، وماذا ستفعل بما جهزته بيديها من أعمال غزل صوف وشراء أدوات المطبخ، وما يلزم عش الزوجية كونها كانت متفقة مع “زيد” على الزواج بعد الموسم.

كبرت القصة في رأسي، عندما علمت أنه يكبرها بخمسين عاماً، وأنها حتى اللحظة وبعد مرور سنتين على زواجها من الكهل، ما زالت عذراء!

اصبحت في الحافلة كمن به مس من جنون، وتمنيت لو أني استقل طائرة نفاثة بدلاً من الحافلة التي صنعوها قبل خمسين عاماً، حتى أتمكن من الوصول إلى بيتنا لأسمع القصة من أمي كاملة.

مضت ساعتان خلتها دهراً كاملاً، ووصلت البيت، وهرعت إلى أمي أسألها عن الحكاية التي سمعتها في الحافلة، ولشدة شوقي لذلك، نسيت تقبيل أمي.

-أمي..أخبريني  بالله عليك،ماذا حدث مع محاسن؟

انتفضت امي وبدت كمن لسعتها أفعى بأجراس ..بان الهلع على وجهها ..تسمرت وخلت عينيها تكادان تتفجران فانتفل الهلع الى داخلي  خوفا على أمي.

أحضرت لها بعض النشادر وكوباً من الماء البارد، وعبثاً حاولت معها، فما زالت على حالها من التشنج وكبرت دائرة الخوف بداخلي، وتهيأت أشياء كثيرة وكبيرة، لكن صورة “محاسن” لم تفارقني.

مضت ساعة كاملة حتى أخذ النشادر مفعوله مع  أمي، فانفجرت أساريري، وأيقنت أنني سأكتشف السر، لكني عبثاً حاولت مع امي التي رفضت الحديث عن الموضوع، لا من قريب ولا من بعيد، بل اكتفت بالقول متوسلة:

– برضاي عليك يا ولدي لا تتحدث في هذا الأمر، فالذي جرى أكبر منا.

ظنت أمي أن توسلاتها ستطفئ النار المشتعلة بداخلي، لكنها وعلى العكس من ذلك، أججت النار، وجعلتني أصر على معرفة ما جرى، وعبثاً حاولت معها، فقالت باكية:

– سيطلقني أبوك إذا ما علم بأني تفوهت حول زواج “محاسن” بكلمة، واستدركت:

– أنت تعرف أبوك جيداً، وأنا لم أكسر له كلمة منذ تزوجني قبل ثلاثين عاماً.

دارت بي الدنيا، ولفت كثيراً، لأني فهمت رسالة أمي جيداً، وان الأمر فعلاً أكبر من سكان القرية وحتى المنطقة، وأن هناك سراً، ولابد من معرفته.

استجمعت قواي العقلية، وبدأت برسم خريطة القرية بيتاً بيتاً علّي أعثر على ضالتي، خاصة وأنني ابتعدت عن القرية خمس سنوات في الخارج.

– وجدتها، صرخت بأعلى صوتي، فانتفضت أمي للمرة الثانية، وقالت مرة أخرى:

– برضاي عليك يا ولدي، أن لا تتحدث بأمر “محاسن” مع أحد.

لكنني وللمرة الأولى في حياتي عصيت أمر أمي، وخرجت مسرعاً إلى بيت الحاجة “سلمى”  الواقع شرقي القرية، وحتى أضمن قضاء حاجتي لديها، عرجت على بقالة قريبة من بيتها، وابتعت لها بعض الأشياء التي تحبها.

قرعت الباب، فإذا بصوت خافت يقول:

– ادخل يا ابن لطيفة!

شعرت بشيء من الخوف لأنها عرفت بمقدمي، لكني تذكرتها جيداً، فاطمأن بالي ودخلت مسلماً، قبلت يدها بعد أن وضعت ما أحمله بيدي جانباً، جلست وكلي أمل أن لا أعود بخفي حنين.

– جئت لمعرفة حكاية “محاسن” أليس كذلك؟ سأحدثك عنها بالتفصيل الممل، فليس عندي زوج أخاف منه مثل أمك.

لم أنبس ببنت شفة، كي لا أعكر أجواء الحاجة “سلمى” وأعطل ذاكرتها، بل تركتها تتخيل أدق التفاصيل وتلقيها على مسامعي.

– اسمع يا بني، زواج “محاسن” من ذلك العجوز باطل، ولا ترضى عنه السماء، ولا تقبله حتى الأرض، وزواج “الحجب” لن يدوم، ثم كيف يريدون جمع الصيف القائظ مع الشتاء القارس؟

اكتفيت بهز رأسي يمنة ويسرة، مستنكراً ذلك، وفاسحاً لها المجال لإكمال سرد القصة.

– منذ أن جاء هذا العجوز إلى القرية وأنا أتوجس منه خيفة، وطالما حذرت الأهالي منه، وطلبت منهم عدم التعامل معه، لكن أحداً لم يسمعني، واتهموني بالخرف، ووقع ما حذرت منه، وضاعت “محاسن”.

واستدركت الحاجة “سلمى” بعد أن اطرقت رأسها إلى الأرض قليلاً وقالت:

– عندما استقر ذلك العجوز في المنطقة، كان أول اتصال له مع الكاهن الشرير القابع فوق قمة الجبل، ومنذ ذلك اليوم بدأت المصائب تحل علينا مجتمعة، فتارة كان الجراد يغزونا، وأخرى نعاني من الفئران البيضاء، وبالتحديد قبيل جني المحاصيل.

كما أن أم محاسن وأبيها قتلا في ظروف غامضة.

لقد استغل ذلك العجوز الغني أوضاع القرية، ووضع نصب عينيه “محاسن” وطلب يدها من أقاربها، وتم له ذلك رغم رفضها وكانت زفتها عجيبة غريبة، إذ لم أشهد مثلها في حياتي، صحيح ان كافة أهل القرية ساروا فيها، لكن الفرح الحقيقي بمعناه المفهوم كان مفقوداً.

وأول ما فعله ذلك العجوز ليلة الدخلة الصورية، هو إخبارها بأنه من قتل أباها، فبادرت صباح اليوم التالي بإخبار أعمامها وأخوالها الذين جاؤوا مباركين بما جرى ليلة الدخلة وأنه لم يقترب منها، كما أنه اعترف لها أنه من قتل أمها غير أنهم هددوها بالقتل إن هي أخبرت أحداً بهذا السر.

والأغرب من ذلك أنهم يعرفون بما قاله لها، وعندما سألتهم عن صمتهم عن تلك الجريمة، وعلاقتهم بذلك العجوز، طأطأوا رؤوسهم، ولم يجيبوا مكتفين بتكرار تحذيرها من إفشاء السر.

أحست الحاجة “سلمى” بالتعب والإرهاق، وما هي إلا لحظات حتى غرقت في النوم، وهي جالسة، مما اضطرني للخروج، لكن دون علم بوجهتي، إذ نسيت ان لي بيتاً وأهلاً، غبت عنهم خمس سنوات، ولم أجلس معهم نصف ساعة بعد مقدمي من السفر.

بدأت “محاسن” تفكر بطريقة عقلانية للتخلص من وضعها الصعب، خاصة بعد ما سمعته من أعمامها وأخوالها، وأيقنت أن أحداً لن يخلصها مما هي فيه سوى “زيد” فهو يحبها، وأنها ما زالت عذراء لم يلمسها بشر.

ولأنها تعلم أن خروجها من البيت يعد من سابع المستحيلات ،فقد فكرت بطريقة جهنمية لإيصال رسالة إلى حبيبها “زيد” تتضمن خطة محكمة للقضاء على العجوز.

وبينما هي غارقة في التفكير بكيفية الوصول لمبتغاها، سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، فنهضت من فورها لمعرفة الطارق، فإذا بها عجوز طاعنة في السن توجست “محاسن” خيفة منها في البداية، لكنها شعرت بطمأنينة داخلية ففتحت الباب ودعتها للدخول.

– أي بنية، منذ ثلاثة ايام لم أتناول شيئاً من الطعام، وأنا أتضور جوعاً، فهلا زودتني بشيء منه، جزاك الله خيراً!

كانت “محاسن” للتو قد أعدت طعام الغداء، فسكبت لها شيئاً منه، وبدأت العجوز تلتهم بنهم الجائع، فيما كانت “محاسن” غارقة بخطتها وكيفية إيصالها إلى “زيد”.

– أي بنية، أراك غارقة بالهموم، ووجهك شاحب، رغم جمالك الأخاذ، أعلمي يا ابنتي أن العمر قصير والحياة فانية.

– آه يا خالة، لو أسمعتك قصتي لغيرت رأيك في الحال.

وبدأت “محاسن” سرد قصتها أمام العجوز التي بدت مستمعة جيدة، وما أن أكملت “محاسن” سرد قصتها، حتى قالت العجوز:

– اطمئني يا ابنتي، إن الله يسوق ابن الحلال، لأولاد الحلال، فأنت الوحيدة التي فتحت لي بابك، وأطعمتيني من زادك.

كانت كلمات العجوز صادقة، واعادت التوازن لـ “محاسن” مما شجعها على الطلب منها إيصال رسالتها لـ “زيد” فوافقت العجوز على أداء هذه المهمة عن طيب خاطر، وتناولت عكازتها، وانصرفت إلى حيث يتواجد “زيد” وناولته الرسالة.

كان العجوز الغني قبل زواجه من “محاسن” قد أوهم أهل القرية بأن حقولهم ستبقى خضراء، وأن مواسمهم ستكون وفيرة، غير أن الأمر اختلف بعد نيل مراده، إذ حل الجفاف ضيفاً مقيماً في المنطقة، الأمر الذي أدى بهم إلى اللجوء إليه عله يساعدهم ببعض المال.

لكنه اشترط عليهم رهن أراضيهم لديه، وأن من يعجز عن سداد الدين يتنازل عن أرضه للعجوز، وتحت ضغوط الحاجة، وافق الناس على هذا الشرط.

حل الموسم، وكان سيئاً بسبب الجفاف، ولم يتمكن أهل القرية من سداد دينهم، وبالتالي تنازلوا عن أراضيهم للعجوز المرابي، واصبحوا أجراء عنده، بعد أن كانوا مالكين.

والغريب في الأمر، أن الوضع تغير بعد ذلك، إذ انهمر المطر طوال الشتاء، وأينعت الأرض وكان الموسم هو الأفضل منذ خمسين عاماً.

لم يمر يوم على تسلم “زيد” لرسالة “محاسن” إلا والنيران تلتهم صومعة الكاهن في الجبل، وقد هب أهالي القرية والقرى المجاورة لإطفاء النيران، لكنها كانت أسرع منهم في أداء مهمتها، إذ لم يستطيعوا سوى إخراج جثتين متفحمتين تعودان للكاهن والعجوز، الأمر الذي أعاد الطمأنينة إلى نفوسهم، كون أراضيهم ستعود إليهم.

أخذ كبار القرى يتشاورون فيما بينهم، فاتفقوا على دفن الجثتين المتفحمتين في سفح الجبل كون إكرام الميت دفنه، وبينما كانوا منهمكين في الحفر لتهيئة القبر، هبت رياح عاتية، وعواصف شديدة وتلبدت السماء بالغيوم، ولمع البرق، ودوى الرعد، ثم انهمرت الأمطار الغزيرة مكونة سيولاً جرفت إحدى الجثتين المتفحمتين.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.