استعمار الجزائر في تقرير المؤرخ بنجامين ستورا / نور الدين عمارة
نور الدين عمارة ( الجزائر ) – الجمعة 12/3/2021 م …
“أمّ البديهيات أن العدالة هي ضابط علاقات البشر، لا الأخذ والرد بشأن ذاكرة الماضي الاستعماري”.
إن المؤرخ الذي يكتب هذه السطور يدرك أن ما يخطُّه من الآن فصاعداً تحلُّلٌ من وعد قطعه على نفسه والتزامٍ سابق منه بالامتناع عن التعقيب على أي مبادرة سياسية فرنسية تخوض في ماضي الاحتلال. ويعكس هذا تدنّي سقف توقعات أثارتها تلك المهمة عن “ذاكرة الإرث الاستعماري” والنزْر اليسير من الاطمئنان إلى نتائجها.
كما يعني كلامي مناهضتي فكرة نافح عنها معلّقون ملخصها أن “تقرير ستورا” لا يتوجه إلى المجتمع الفرنسي حصراً. فعلاً. إن صدى ما يقال في باريس عن الماضي الاستعماري من القوة بحيث تتلقّفه الآذان قطعاً في الجزائر.
وإذا كان المطلوب هو الاستزادة من “الحقيقة” – وفق توصية محرر التقرير – فإنني غير مطمئن تماماً إلى أن “الدولة” هي العنوان الصحيح. ولستُ هنا إلا مخْضعاً نفسي للحذر المنهجي المأثور عن ميشال فوكو. فحيثما كانت سلطةٌ، حلّ تزييفٌ وتصنُّعٌ مقترنيْن بالتمييع والكذب الصُّراح. وقد سقط “ستورا” في تقريره الذي يتردد فيه نَفَس “إرنست رينان” وطاشت كفّة ميزانه وهو يحاول الاحتفاظ بصفة مؤرخ لا يُشق له غبار من جهة، والمهمة التي أسندها إليه “البلاط الفرنسي” من جهة أخرى. فالرجل أحرص على تمتين اللُحمة بين مكونات الأمة الفرنسية منه على التأريخ لتلك الفترة.
وبغياب التطلعات، استرحنا من خيبات الأمل. ولكن ثمّة – في المقابل – عناصرَ قلق محسوس تبرر المجاهرة بالتصدي لما أعتبره أنا نزعة تحريفية مخفّفة. “مخففة” لأن ركن الإقناع فيها مستمد من حبل أخلاقي اسمه ” المصالحة”. و”تحريفية” لأن ستورا لا ينكر جرائم الاستعمار، بل أحصاها وعدّها وخرج بها علينا في خلطة عجيبة، ولكن بعد أن نبش التاريخ وصنّف، ثم انتقى وهدم، وراح يؤخر ويقدم.
وكأنه يقول : إن ما يهمّنا ليس التأريخ لما مضى وإنما انتقاء وإبراز ما يخدم هذا الحاضر من عناصر ذلك الماضي.
وفي أجواء كهذه، لا ضمانة أن نعثر على قاسمٍ للتفاهم مشتركٍ عندما تلجأ مجتمعات إلى وزن عثرات ماضيها وحسناته وفق ما تعتبره هي ملحّاً عاجلا.
ذاكرتنا عن فترة الاحتلال تحت رحمة مصالح فرنسية
إن “حتمية” المصالحة تخالطها الإشكاليات من حيث المبدأ والتوظيف السياسي المحتمل في آن. وإن ما يُخشى منه هو أن إخصاء ذاكرة الإرث الاستعماري ستتحول إلى مبدأً متسلط ينتهي باستبعاد رافضيه على أساس أنهم أهل غِلّ وغُلاة هذا العصر.
أما أنا فأرى في الأخذ والرد خيراً . فإذا ضُبطا، كانا قوة مساءلة وتساؤل أمضَى أثراً من ” المصالحة” في تجديد عملية التأريخ على هذه الضفة وتلك. وإذا مضى الجانبان في الأمر، فإن من المفروض أن يظل المساران متمتعين بميزتيْ الاختلاف والتعارض بشأن ما كانت عليه فرنسا في الجزائر وما كانت عليه الجزائر المحتلة. وفي رأيي، فإن المستفاد من تقرير “ستورا” هو أنه يجهض تلك الفرص الحُبلى بالتلاقح المفيد.
إن أسلوب صياغة خطاب “المصالحة” فيه من التسييس ما فيه بحيث لايسوغ لنا اتخاذه دافعا للخوض في بحوث تاريخية مستقبلاً. ولقد توقعنا من “ستورا” – الذي وصف نفسه بأنه متفطّن ل”اصطراع الكلمات” – توقعنا منه أن لا يجترّ أقاويل رئيسه بهذا القدْر من السذاجة، ورجوْنا أن يتمتع بحسّ نقدي أرقى.
يعلمنا الحسّ السليم أن كلمة “المصالحة” مثقلة بمسلّمة تاريخية لا تصمد أمام الوقائع. فحرب التحرير التي خضناها لم تقطع أواصر صداقة مع فرنسا.
إذ لم تكن باريس أصلاً صديقة الجزائر منذ 1830، بل كانت قوة احتلال. اللهم إلا إذا فهمنا “المصالحة” في الإطار المسيحي – وتحديداً وفق بولص الرسول – حيث يقرّ الخطّاء بذنوبه. إن المصطلح ذا الوجهيْن يلفّه غموض كثيف بحيث لا يُتوقع منّا أن نسلّم به تسليماً . فهو يخفي خياراً فرنسيا لا تردد فيه يقدم “المصالحة” على العدالة. أفليس هذا ما تشتهيه باريس؟!
لا ينكر بنجامين ستورا جرائم الاستعمار، بل هو أحصاها وعدّها وخرج بها علينا في خلطة عجيبة، ولكن بعد أن نبش التاريخ وصنّف، ثم انتقى وهدم، وراح يؤخر ويقدم، وكأنه يقول: إن ما يهمّنا ليس التأريخ لما مضى وإنما انتقاء وإبراز ما يخدم هذا الحاضر من عناصر ذلك الماضي.
وبعد إعمال الفكر، عليّ الإقرار بحذر يكاد يلازمني، من ربط الدولة وسياساتها بدائرة الصداقة. إذ هنا بالذات يتجلى الغباء أو التغابي. فالسعي الحثيث وراء “الصداقة”، وبأي ثمن كان، وبأبخس كلفة للجانب الفرنسي، لا يكاد يستر نزعات الهيمنة.
لا غرابة أن تتحرك الدولة الفرنسية وفق مفهوم “إرادة الهيمنة”. ويتوقع أن تتعامل معها الجزائر الندّ للند. ولكن الضيْر هو ظن باريس أن لها تحقيقَ ذاتها بالحطّ من قيمة ذكرياتنا عن الغزو والاحتلال الفرنسيين.
إذْ إن ذاكرة الإرث الاستعماري ليست من عروض التجارة. ولا هي ما يضبط العلاقات بين الدول، بل المصالح. ولم تعرقل تلك “الذاكرة” يوماً توقيع اتفاقات تجارية – مثلما يذكر بنجامين ستورا نفسه.
فلماذا الدفع الآن نحو “ذاكرة مشتركة عن فترة الاستعمار”؟ السبب هو أن الجزائر غدت مجدداً خطا متقدماً مفيداً لفرنسا في مجالنا الجيو – سياسي المهزوز في البحر المتوسط وإقليم الساحل. وقد أبرز ستورا في نهاية تقريره ثالوث المهاجرين – الإرهاب – الطاقات التقليدية/المتجددة. وإننا إنْ فهمنا حق الفهم ما يبطّن المصالحة من بُعد مصلحي فج ووعود بالمكاسب المشتركة، فإنه لن يجوز بذل “ذاكرتنا عن إرث الاستعمار” وكأنها تنازل لسواد عيون حسن الجوار. إذْ ليس على الجزائر أن تدفع ثمناً باهظاً عن وضعٍ اتضحت فيه – إلى حد كبير – مسؤوليات باريس منذ القضية الليبية.
يُفهم مما سبق أنه لا حاجة إلى ذاكرة تاريخية مشتركة للتفكير معاً في علاقة مربحة للطرفين وفي خدمة الشعبين. خاصة وأن الأمر يترافق دائماً مع نغمة فرنسية صميمة ومجترّة تبرر “مصيراً سياسياً” مزعوماً باسم “ماض مشترك مدته 132 عاماً”.
ويا له من ماضٍ! وإنه ليتيعيّن عليهم أن يُفْهِمونا: أي شقلبة فلسفية هاته التي تأمر الجزائريين “بكل أدب” أن يضبطوا خطواتهم على وقع أقدام باريس لا لشيء إلا لأن فرنسا استقر رأيها ذات يوم على ربطهم بها بموجب قوانين نزع الملكية والتمييز والإذلال خلال 132 عاماً، هي طول حرب الاحتلال وعنفها الفتاك. ففرنسا في الجزائر كانت أولاً وقبل كل شيء ما ذكرناه للتوّ. أما ما اختاره بعض الليبراليين الفرنسيين من انخراط إلى جانب الجزائريين فليس إلا إبراءَ ذمة شكلياً بعد وقوع المحذور.
لم تكن باريس أصلاً صديقة الجزائر منذ 1830، بل كانت قوة احتلال. اللهم إلا إذا فهمنا “المصالحة” في الإطار المسيحي – وتحديداً وفق بولص الرسول – حيث يقرّ الخطّاء بذنوبه. إن المصطلح ذا الوجهيْن يلفّه غموض كثيف بحيث لا يُتوقع منّا أن نسلّم به تسليماً . فهو يخفي خياراً فرنسيا لا تردد فيه يقدم “المصالحة” على العدالة. أفليس هذا ما تشتهيه باريس؟!
عند التقييم المنصف لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين بلدينا، لا يجوز التلويح بالتاريخ وكأنه الورقة الرابحة أبد الدهر، لا سيما في سياق يقطُر هيمنةً استعمارية. ذلك أن الوعد بمستقبل مشرق بناء على ويلات الحقبة الاستعمارية استغفال للجزائريين. وهذ ا المكر يقطر إهانة. والقِسمة التي يطرحها التقرير في غير محلها وقد لا تكون من حسن السياسة والتدبير في شيء.
لذا، فإن عدم الاستخفاف بالجزائريين يبدأ بابداء الاحترام لهم على أنهم شركاء كغيرهم على المسرح الدولي، أي وفقاً لقاعدة المفاضلة النسبية التي تقرُّ حرية اختيار الشركاء، بعيداً عن أي حتمية تاريخية. وبعبارة أخرى، فإن فرنسا التي لم تكن يوما صديقاً صدوقاً، ليست اليوم الخِلّ الوفي الذي لا غنى عنه. وهكذا، فلا حقوق حصرية لباريس، ولا علاقات مميزةً معها وليس لها أن تأمر أو أن تنهى.
وعند التقييم المنصف لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين بلدينا، لا يجوز التلويح بالتاريخ وكأنه الورقة الرابحة أبد الدهر، لا سيما في سياق يقطُر هيمنةً استعمارية. ذلك أن الوعد بمستقبل مشرق بناء على ويلات الحقبة الاستعمارية استغفال للجزائريين. وهذ ا المكر يقطر إهانة. والقِسمة التي يطرحها التقرير في غير محلها وقد لا تكون من حسن السياسة والتدبير في شيء.
نزعة تحريفية مرفوضة
مكمن المشكلة في المصالحات المصطنعة هي محاولتها حل مسألة فلسفية مثل الخير والشر والعدل والجؤر بالتحايل على التاريخ. والواقع هو أنه لا يمكننا ضمان مستقبل مجتمعاتنا على ضفتي المتوسط بناء على رأي شخصية نطقت وفق وصفة البلاط الرئاسي الفرنسي. وأما تأكيد بنجامين ستورا على “أن أبواب الجدل المتمدن مُشرَعة ” فلا تُلزمه إلا هو.
ولسنا مجبرين على تصديقه أصلاً، لا سيما وأن التاريخ الذي يرويه لنا في أول جزئين من تقريره لا يُسيغه عقل. نعم، لبنجامين ستورا أن يجتهد لتعميق معارفنا التاريخية باللحظة الاستعمارية، غير أنه يفتقر إلى روح التجديد الجذري لعملية التأريخ التي بدأت تهزّ علاقتنا بماضينا.
وإنه لمن المشروع التساؤل: من ذا يعتبر ذاكرة الإرث الاستعماري مشكلة قائمة بذاتها؟ ومن المستفيد الأكبر من تسويتها المحتملة ودّياً؟ إن الخطيئة الكامنة في تحليل بنجامين ستورا هي تبنّيه مفهوما في غاية الُسّقم عن ذاكرة الإرث الاستعماري عندما استنجد بـالفيلسوف “بول ريكور” وراح يحقننا بجرعات من “النسيان والصفح” تؤدي بنا إلى خلاص لذيذ. غير أن المقادير لم تكن بحُسبان إلى درجة أن ستورا يبدو وكأنه يخلط بين توظيف الماضي الاستعماري سياسياً وبين تقدم المجتمع الجزائري بمراحل على الخطاب الرسمي.
فذكرياتنا عن الاستعمار ليست زيفاً ولا أوهاماً. وما جروحنا النفسية الغائرة تخيلاتٌ فقط رفعتها منظومة “جبهة التحرير الوطني الجزائري” إلى مصاف الأساطير. وتلك الصدمات جزء لا يتجزأ من حالتنا التاريخية. كما أنها الرقيب في وجه أشكال الهيمنة الحالية، والدفاع عن الأخيار والمعذبين في الأرض.
ولن يذهب التوظيف الوطني المتزمت بمثقال ذرة من عظمة تلك الذاكرة الموجوعة التي ينبغي أيضاً أن يُنظر إليها على أنها قوة فعلٍ وتغيير من أجل الذات والعالم . وكما قال نيتشه، فإن الشحناء في حد ذاتها تمردٌ شرط أن تُفهم على أنها طيْف من ذكريات بؤس حقيقي تطفو من الماضي إلى سطح الذاكرة.
كان تقسيم الجزائر المحتلة إدارياً، تظاهراً بأنها هي فرنسا وإن لم تكن تماماً، مثلما قالوا. ذلك أن تجسيد الادعاء يتطلب تمتيع الجزائريين بحقوق سياسية كالفرنسيين. غير أن تفوقهم العددي واللعبة الديمقراطية الحرة كانا سيخرجانها من فلك باريس. ومن هنا نفهم الحرص الشديد على رفض أي مساواة سياسية بين الفرنسيين والجزائريين على امتداد أكثر من قرن من الزمان.
إن ما يطرحه بنجامين ستورا من مداواة بذاكرة الماضي الاستعماري الفرنسي ينبعث عنه انطباع قوي بأن الرجل يساوي بين الألام والصدمات لدى هولاء وأولئك، لا لشيء إلاّ لأن “الجميع كان من سكان الجزائر”. وبهذا فإنه ما يزال أسير مقولة “الجزائر الفرنسية” التي تحرّم النقد التاريخي تحريماً.
ولكن كَلاّ. فما أن اندلعت ثورة تشرين الثاني / نوفمبر1954، حتى تطايرتْ أشلاء الجزائر “الفرنسية”. ولعل الجزائر كانت فرنسية وشملت الجزائريين، غير أنها كانت نابذة لهم بلا ريب. وقد أظهرت أبحاثي أن الجزم المتعجرف بفرنسيتها ليس إلا من قبيل التحايل القانوني المجانب للواقع.
كان تقسيم الجزائر المحتلة إدارياً، تظاهراً بأنها هي فرنسا وإن لم تكن تماماً، مثلما قالوا. ذلك أن تجسيد الادعاء يتطلب تمتيع الجزائريين بحقوق سياسية كالفرنسيين. غير أن تفوقهم العددي واللعبة الديمقراطية الحرة كانا سيخرجانها من فلك باريس. ومن هنا نفهم الحرص الشديد على رفض أي مساواة سياسية بين الفرنسيين والجزائريين على امتداد أكثر من قرن من الزمان.
ولذا فإن من الحكمة أن لا يتبنّى المؤرخون وهم مغمضي الأعين المقولة المتعجرفة المأثورة عن الوزير الفرنسي فرانسوا ميتران ذات كانون اول/ ديسمبر من عام 1954 بأن “الجزائر هي فرنسا”.
إن التعامي السياسي المصحوب بضجيج يصم الآذان لا يسعه أن يكون مدخلاً للتأمل في قرن استعماري فرنسي كامل في الجزائر. و”السيادة المشتركة” التي يذهب فيها الجزائريون والفرنسيون كلٌّ في طريق، ليست كافية لصياغة تاريخ مشترك. والقول مراراً وتكراًرا بأن “الجزائر هي فرنسا” تحريف للكلِم عن مواضعه، وانعكاس لحالة تململ باريس، وإقرار منها بأن الجزائر لم تكن فرنسية، وهو ما استدعى الاستمرار في محاربة الجزائريين بالترسانة التشريعية.
ومن هنا فإن أطروحة بنجامين ستورا مردودة عليه، وهي قوله إن اكتساب جزائريين المواطنة الفرنسية نسج خيوطاً من التواصل بين الطرفين. والواقع هو إن سياسة الإلحاق والضم لم تجعل الجزائريين فرنسيين بل صنعت منهم أعداء تحت سيادة باريس.
ويكشف التمعن في قوانين الجنسية على امتداد نحو 102 عاماً إحساساً بعدم الأمان لدى باريس التي كانت تدرك أنها دخلت على الجزائريين عنوة وغِلاباً.
فماذا هي فاعلة بالسكان الأصليين الذين لم ينقرضوا على الرغم من دموية الغزو، وقاوموا مشروع الإبادة الشاملة الذي اختمر في أذهان جنرالات فرنسيين؟ كان “الحل” الفرنسي هو احتواء الجزائريين باسم القانون. فباريس لم تفكر في قوانين الجنسية من فرط ليبراليتها وتقدميتها – حسبما ما يطرح بنجامين ستورا الذي يميل ميلا إلى آراء “غيي برفيي” مفضلاً إياها على الأعمال التي جددت البحث في هذا الحقل من المسألة.
تابعت قوانين الجنسية شنَّ الحرب بأساليب أخرى. فالعدو الأول هو التزايد الديموغرافي. وتفتّق ذهن باريس عن استلهام أطروحات توماس مالتوس عن النمو الديموغرافي والعمل بها في المجال القانوني. وحاولت نصوص التجنيس تقزيم الأغلبية الجزائرية وتكثير الأقلية المسماة أوروبية.
وسعت الترسانة التشريعية إلى تغليب الدخيل على الأصيل بمنح حق الانتخاب لآخر الوافدين الأوروبيين – وعلى رأسهم الرجال وهم أداة الاستحواذ على الجزائر. ولئن لم تشهد الجزائر المستعمرة معازل عنصرية، فإنها حملت سمات من جنوب أفريقيا وقت التمييز العنصري. فقد رشح من نصوص قانون الجنسية قلق شديد من انقلاب الوضع القائم ومن التغلّب السكاني الجزائري. وكأن الظلم كمنَ للجزائري بالمرصاد في قوانين التجنيس الاستعمارية.
إن أَشراط،”مقدمات” حرب التحرير لم تظهر هكذا عرَضاً في عام 1954، بل انفجرت في وضح النهار، مذكرة بأجواء الشك والتوجس المتبادلة على مدى أكثر من قرن من الزمان بين فرنسا “الغالبة المأزومة، والجزائري المغلوب الذي يُحسب له ألف حساب”. وإنْ كان من تاريخٍ مشترك بين الجانبيْن فهو ذاك المتّسم بالعداء.
ولذا لا مفر ولا خشية من إسباغ الطابعين الجزائري أو الفرنسي على “ذاكرة الإرث الاستعماري”. إذْ هي استنساخ أمين من تجارب تاريخية متمايزة وفق انتماءات أفراد المجموعتين. فعمق العلاقة مع الجزائر متباينٌ عبر الزمن بين الفرنسيين والجزائريين. ومظاهر الودّ هنا وهنالك – بين الكتلتين السكانيتيْن لا تردم الشرخ العظيم – وتلك هي مشيئة القانون.
وأما تنقيب بنجامين ستورا عن جسور يمثلها “ألبير كامو” مقابل “مولود فرعون”، و”ريكور” نظير “كاتب ياسين”، وبين “ماري كاردينال” في مقابل “ليلى صبّار”، فما هو إلا استنجاد بالماضي – عليه علامات استفهام – لخدمة الحاضر. وهكذا ينفضح المسعى المُستيئِس بحثاً عن ” طريق ثالثة” استحال تلمّس ملامحها أثناء حرب التحرير، وتُستدعى اليوم لرأب صدوع فرنسا ما بعد الاستعمار.
كما انكشف سبب اللهاث وراء همزة وصل تظن باريس أنها عثرت عليها في شخصية الأمير عبد القادر. فهذا الرجل في نظر فرنسا ليس أهلاً للتشريف إلا من حيث كونُه المغلوب المحبوب، والرمز المتهالك لعدو نزع عنه ثوب “الغلو والتطرف”. ومن المؤكد أن ما تريد فرنسا الاحتفاء به في شخصية رمزية كالأمير عبد القادر لا يرد على استفهاماتنا نحن. وسيأتي علينا زمن نُسائل فيه انفكاك ارتباط الجزائريين بالأمير عبد القادر بعد استسلامه. وإنني أرى أنه من التمويه والخداع الاستنجاد بالسبب الإنساني لتبرير قضائه خريف العمر في دمشق.
ثمّ إنه لاغنى عن البراهين لإثبات روابط واهية بين اغتيالات أدمت فرنسا في الفترة الأخيرة وصفقة ذاكرة الإرث الاستعماري المطروحة علينا، اللهم إلا إذا اعتبرناها أداة تأديبية للمكوّن المسلم في المجتمع الفرنسي.
تابعت قوانين الجنسية شنَّ الحرب بأساليب أخرى. فالعدو الأول هو التزايد الديموغرافي. وتفتّق ذهن باريس عن استلهام أطروحات توماس مالتوس عن النمو الديموغرافي والعمل بها في المجال القانوني. وحاولت نصوص التجنيس تقزيم الأغلبية الجزائرية وتكثير الأقلية المسماة أوروبية.
وفي المقابل، نسجل صمتاً مطبقاً عن دوافع استعمارية بعثتْها من مرقدها الطبقةُ السياسية الفرنسية في اندفاعتها لتنظيم شؤون مسلمي فرنسا والتحكم في معتنقي الإسلام. إن إبطال فتيل العنف، وإسدال ستار التزاحم على احتلال مرتبة “الضحية الأولى” يتطلب من ساسة فرنسا التحلّي بالجرأة على التعامل الحاسم مع أنواع التمييز وعنف الشرطة الذيْن يستقصدان من يحملون ندوباً من الذاكرة الجزائرية عن الاستعمار الفرنسي.
فلا حاجة “إلى التعامل مع ذاكرة الإرث الاستعماري بذهنية “الصفقات والمناقصات”، لا سيما وأن الوعي التاريخي الذي قد يحمله الجزائريون في فرنسا من ماضينا الموجوع لا يقود إلى هوَس بهويتهم أو إلى مأزق أصولي.
تحت شمس ألبير كامو: تهاوي فكر ملتبس معتل
وهكذا لجأوا إلى تضخيم “عوالم التواصل” التي أرادوها، منطلقين من كل ضبط تاريخي، كما لو أن السِّير الفردية تُغني عن إعمال المنهج السوسيولوجي لدراسة صفحات من التاريخ تزخر بالدروس والعِبر.
وإنني لا أرى ضيرا في الدفع نحو الهامش بأفراد من دون بخسهم حقّهم بدلاً من رفعهم بعد وفاتهم إلى مُقام القدوة والمثال.
ذلك أن الميل إلى طرح متدثر بالأخلاق – تتساوى فيه آلام هؤلاء وأولئك – ما هو إلا نزعة إيديولوجية، وتجب مناقشته على هذا الأساس. وإن ما يهمّ الدعاة إلى هذا الأمر ليس التاريخ بل هو حلم قديم بجامعة كولونيالية ولكن بنكهة حاضرنا اليوم.
لطالما صدّعوا رؤوسنا بقولهم إن الفرنسيين مواليدَ الجزائر المحتلة (“الأقدام السوداء”) لم يكونوا دوماً من كبار المستوطنين. هذ صحيح. ولن تجد دراسة سوسيولوجية جادة تدّعي العكس. ولكن تواضع حالتهم الاجتماعية لم يسمح بالتقريب بينهم وبين الجزائريين. فقد جعلت الإدارة الاستعمارية أكثر الفرنسيين فاقةً وأشدّ “الأقدام السوداء” تواضعاً أثرياء جداً مقارنة بالجزائريين.
ويجب الإقرار بأن توسيع مفهوم “المستوطِن” مؤشر على واقع اجتماعي عايشه الجزائريون ويستحق أن يُروى. لأن الفرنسي المولود بالجزائر المحتلة كان في نظر العديد من أبناء الوطن مستوطناً ولا ريب، ولو لم يمتلك شيئا قلّ أو كثُر من الأراضي. ولكن لماذا؟ لأن الفرنسي هو الركن الركين لمغانم الغزو الفرنسي وله أفضلية الاستمتاع بها. ولولا الدولة الفرنسية وترسانة قوانينها وحروبها على الجزائريين في بلادهم، ما كان وارداً أن يحتل تلك المكانة ويأمن على نفسه تحت شمس الجزائر.
والجزائر “الفرنسية” – شاءوا أم أبوا – كانت لمصلحة المستوطنين يقيناً، وهي طلعة الشمس المسروقة من الجزائريين بعد إعمال سيف التقتيل فيهم. والمستوطِن هو الشريك في سلب بيوت الجزائريين وجعلهم أغراباً في ديارهم، وإن لم يكن – بالضرورة – من ملاك الأراضي.
ولذا لا يجوز أن تكون الفاقة الشديدة داعياً إلى رأفة فات أوانها أو ظرفاً مخففا بعد سرقة جنّة الجزائر على حساب بؤس أهلها وحرمانهم.
وإنّ بشرة لوّحتها الشمس إلى اللون الحنطي وعيوناً اكتسبت صبغة من صفحة البحر الفضية وأرضاً شهية منتهكة، تدفع دفعاً إلى ميلاد إحساس متأجّج بالتعلق بمسقط الرأس إلى حدّ اصطباغ فرنسيي الجزائر بالسحنة المحلية. كما أن أساليب عديدة – البعض منها فظٌ وغليظ – تغنّتْ بأرض عصية وسخية، وعبّرت عن هيام طفولي بطبيعة الجزائر. ولكن السؤال الجوهري عن دور المستوطنين في الجزائر المحتلة يظل عنيداً عصيّاً على التلاشي.
توسيع مفهوم “المستوطِن” مؤشر على واقع اجتماعي عايشه الجزائريون ويستحق أن يُروى. لأن الفرنسي المولود بالجزائر المحتلة كان في نظر العديد من أبناء الوطن مستوطناً ولا ريب، ولو لم يمتلك شيئاً، قلّ أو كثُر من الأراضي. ولكن لماذا؟ لأن الفرنسي هو الركن الركين لمغانم الغزو الفرنسي وله أفضلية الاستمتاع بها.
وبعبارة أخرى، فإن مسألة تحرر المستوطنين كانت طوع يمينهم – لو أن سارتر هو الذي صاغ الفكرة. أي حريتهم في الجهر برفض النظام الموغل في الجوْر.
إن الإغراق في العواطف والوجْد الشديد على فراق تلك الأرض، لا يمكن أن يحيط بمجمل ما للسلوك البشري من وجوه. ولا ريب أن ألبير كامو شمسٌ لا قبل لأحد بسطوعها لِما تهوي إليه من قوة تعمي الأبصار. فالمستعمرة الجزائرية – لا الجزائر – هي موطن الفرنسيين – منذ عام 1830.
لماذا جُعِل الجزائريون “خارجون عن القانون”؟
… لحرمانهم من حماية تشريعات لا تُسقِط بالتقادم جرائم ضد الإنسانية. وهكذا هي ألعوبة “الأخلاق” ضد إحقاق العدالة بإخلاء طرف الدولة من المسؤولية القانونية، وباللجوء إلى شكليات لا بهاء فيها ولا نضارة. فالعدالة في مسألة إرث الاستعمار مكبّلة متحفظة. في حين يحثّوننا على التعقّل والصفحَ “الجميل” وكظم الغيظ . بل ابتكروا مساواة في الأحزان والآلام بين هذا الطرف وذاك، في حين أن فرنسا لم تهتدِ إلى بل لم تشأ إرساء “المساواة” أمام القانون، وجعلت الجزائريين أول المعذبين على أرضهم المنهوبة.
ولئن كان يسهل على الجزائريين عموماً تفهّم ألم فراق أحزن فرنسيين ولدوا في الجزائر المحتلة ، فمن المسؤول عن الأمر كله؟ ليس الجزائريين قطعاً. ولكن فرنسا تسارع وتستسهل لومنا. وكأنها تريد منا تلطيف غيظ أنفسنا من صدمات الاحتلال، إلى أن تبرد جمرة “الآلام” الفرنسية أولاً. والهدف حرماننا من حق أصيل اسمه المطالبة بالعدالة، ومبدأٍ غني عن التعريف غائبٍ تماماً عن تقرير بنجامين ستورا، هو “استمرارية (مسؤولية) الدولة”.
وفي معرض الإشارة إلى ما تعرض له الجزائريون أصحاب البلد من أهوال، يقلل المقرر بنجامين ستورا من شأن التكفّل بها سياسياً، مكتفياً بالكلام والخطاب، رافضاً المطالبة بإتباع الاعتراف بالجرائم بالإجراءات القانونية ذات الصلة. وكأن كلمة الرئيس الفرنسي “المكين” تروي لوحدها تعطش الجزائريين.
ولكن ماذا عن عدم سقوط الجرائم ضد الإنسانية بالتقادم؟ ولم يفتني أن أسجلَ غياباً تاماً لكل إمكانية للتعامل القضائي مع تلك الموبقات التي ثبت أنها ضد الإنسانية. ومن ذا يفتح باب التزاحم على مرتبة الضحية الأولى مكتفياً بإنصاف البعض منها بجرعات من الذاكرة التاريخية، بدل إحقاق مطلب العدالة؟ ومنذ متى كان هذا النوع من “المقايضة” مقبولاً لجبر الأضرار؟
ولعلّي أميل إلى فهم تلك الاستعارة من العلاّمة المهيب “ريكور” على أنها –ربما – مسارعة إلى سِتر جيفة الغزو الفرنسي بمجرد أن كُشفت عورتها.
إن بديهية البديهيات هي أن العدالة هي ضابط علاقات الناس – وليس مرويات ومدونات الذاكرة التاريخية – مهما زعموا وزعموا أن تلك الذاكرة صفَتْ من الكدَر، ولا لشيء إلا لأنه أريد لها أن تكون مشتركة أو يكون فيها لكل طرف نصيب.
التعليقات مغلقة.